ثماني سنوات من حرب ضروس، كانت العملية التعليمية أحد وقودها، إذ ركّزت أطراف النزاع، وخاصة جماعة أنصارالله (الحوثيين)، الجزء الأكبر من معركتها، باتجاه عقول الناشئة، في محاولة منها للزج بهم في أتون الصراع.
وتعرّض التعليم، في المناطق التي تسيطر عليها الجماعة، لما يشبه التجريف الكامل، يسند ذلك ممارسات حرفت أهداف هذه العملية، وحوّلتها إلى مسارات تعبوية خطيرة، مشفوعةً بوضعٍ اقتصاديّ كارثيّ واجهه العاملون في التربية والتعليم، منذ خريف العام 2016، ضمن الآلاف من موظفي القطاع الحكومي، على إثر انقسام القطاع المالي في البلد، وتعامل أطراف النزاع بسياسات اقتصادية استحواذية.
على إثر ذلك، تحوّل الكثير من المدرِّسين إلى العمل في قطاعات خارج تخصصاتهم، ما شكّل نقصًا في الكادر التعليمي، وخفّض من وقت الحصص الدراسية. والأكثر خطورة؛ قيامُ المشرفين التابعين لجماعة أنصارالله (الحوثيين)، بالتدخل المباشر في تسيير العملية التعليمية، وإدخال مقررات الصراع في المنهج المدرسي، إلى جانب جملة من الأدبيات المذهبية التي ثار الكثير من الجدل حولها مؤخرًا.
ولجأت الجماعة إلى تغييرات جوهرية في المُقرّر الدراسي، من شأنها تشجيع انخراط الأطفال في العمليات القتالية، وتبنِّي وجهة نظر دينية أحادية، يرى المراقبون أنّها تعمّق الانقسام الطائفي، وتعمل على الإضرار بالنسيج الاجتماعي للبلد.
وفيما أخذت هذه التغييرات طابعًا متدرجًا في بعض الحواضر اليمنية التي تسيطر عليها الجماعة، يبدو الأمر مختلفًا بالنسبة للمناطق التي تشكّل مجالًا مغلقًا لها، مثل محافظة صعدة، المعقل الرئيس لزعيمها؛ إذ يتم فرض أفكار سياسية قسرية على المعلمين والطلاب، كما تستخدم المدارس كمراكز صيفية تعبوية، وبؤر للاحتفالات والفعاليات ذات الطابع الطائفي، والأسوأ من ذلك، أن تشكّل المدارس بيئة خصبة لتجنيد الأطفال وتحشيدهم إلى جبهات القتال.
مصادر منصة (خيوط)، وثّقت خلال السنوات الأخيرة، انخفاض الحصص الدراسية بواقع ثلاث إلى أربع حصص يومية، ومع عزوف المدرسين عن التعليم بسبب انقطاع الرواتب، قام متطوعون تابعون للجماعة -بعضهم لم يكمل تعليمه الثانوي- بتدريس الطلاب في المراحل الأولى، وفرض رسوم مالية على أولياء أمور الطلاب أو طرد أبنائهم من المدارس.
أما بالنسبة للمنهج المدرسي، وطرق التعاطي معه، فوثّقت المصادر اختلافًا في طرق التدريس من منطقة إلى أخرى، لكن في كثير من المدارس يتم فرض مادة (الملازم)؛ وهي مقررات تعبوية مقتبسة من خُطب مؤسس جماعة الحوثيين، حسين بدرالدين الحوثي، وتحثّ على مفاهيم تنتمي للصراع، ومن ذلك (الجهاد).
وفي بعض المدارس، يتم إدخال الطلاب إلى قاعات عامة، لمشاهدة خطابات زعيم الجماعة عبدالملك بدرالدين الحوثي عبر شاشة تلفزيونية، إلى جانب تقديم مواعظ دينية، وفي مرات أخرى يطلب من التلاميذ تلخيص ما ورد في هذه الخطابات، للتأكّد من تركيزهم وفهمهم لمحتواها، كما يتم فرض محتوى ديني (مذهبي) في اختبارات الطلاب، يتم تلقينها لهم من خلال مادة تسمى (الثقافة). ويتولّى بعض ممّن يسمّون أنفسهم المشرفين الثقافيين، عمل زيارات ميدانية دورية للمدارس، لإلقاء المحاضرات التي تحضّ على الجهاد.
الفعاليات والمناسبات الخاصة بجماعة أنصارالله (الحوثيين)، هي الأخرى فرصة للعبث بالعملية التعليمية؛ ففي أسبوع الشهيد، يتم تعليق صور الطلاب القتلى في أروقة المدارس، وممراتها ويتم إلقاء خطابات من قبل إدارة المدرسة للثناء عليهم. وعادة ما يتم استدعاء أقارب هؤلاء الأطفال الضحايا للحضور وتكريمهم في فناء المدارس، مصحوبة بخطابات التعظيم من شأن الطلاب المجندين في الطابور الصباحي وتشجيع الانخراط في جبهات القتال، وتنظيم زيارات إلى المقابر المخصصة لقتلى المعارك، وفي مناسبة المولد النبوي، يتم تجنيد كثيرٍ من الطلاب وإعدادهم لمهام أمنية في الساحات ومداخل القرى.
الطابور الصباحي، هو الآخر، مكرّس للمناسبات الكثيرة التي تحاول الجماعة تكريسها كأيام وطنية. ويُطلَب من المدرِّسين وأيضًا الطلاب، القيام بإعداد إذاعة مدرسية تمجّد هذه المناسبات، من (أسبوع الشهيد) إلى (أسبوع الصرخة) إلى (المولد النبوي) إلى ذكرى مقتل مؤسس الجماعة، و(يوم الولاية)، وكذلك يوم 21 سبتمبر. وفي أوقات أخرى، وعندما كانت المعارك على أشدّها، يُقدم أحد الطلاب موجزًا بما يسمونها (الانتصارات) يتم أخذها عن قناة المسيرة، الذراع الإعلامي للجماعة، وينتهي الطابور بترديد شعار (الصرخة)، وقسم الولاية.
يتم أيضًا استخدام المساعدات الإنسانية، لمسألة الاستقطاب والتعبئة؛ ولأنّ أكثر من نصف الكادر التعليمي في صعدة هم من المدرسين الذين لا علاقة لهم بجماعة أنصارالله، تستخدم الجماعة ما يقدمه برنامج الغذاء العالمي من معونات، للضغط على المدرسين لتغطية العجز الحاصل في المدارس، بدلًا من صرف مرتباتهم، وكذلك لإلزامهم بتدريس ما تُقرّه الإدارة التعليمية التابعة للجماعة والمشرفين التربويين فيما يتعلق بالإذاعة المدرسية والمناسبات الخاصة بها.
مدارس صنعاء، هي الأخرى، تقع تحت طائلة ممارسات مشابهة، ومن ذلك وجود كادر متطوع يتم فرضه من قبل الجهات الإشرافية التابعة للجماعة، لتعويض الكادر التعليمي، بينما في الأساس يقومون بتنفيذ أجندة الجماعة الفكرية والسياسية، من خلال إدارة الأنشطة والفعاليات الطلابية، ومراقبة سلوك المعلمين الآخرين ومدى امتثالهم لتعليمات الجماعة ورفع تقارير دورية بها، وبعضهم منوط بهم تدريس مواد حساسة كالتربية الوطنية والإسلامية واللغة العربية، لتعميم أفكار الجماعة في أوساط الطلاب.
ويعاني الكادر التعليمي في صنعاء، مثله مثل بقية المناطق التي تقع في سيطرة الجماعة، من انقطاع رواتبه. ولا يحصل على أية مستحقات باستثناء نصف راتب؛ أي 40 ألف ريال يمني (90 دولارًا)، كل شهرين أو ثلاثة أشهر، إضافة إلى مبلغ 20 ألف ريال يتم دفعها شهريًّا لمدة ستة أشهر من المبالغ المالية التي يتم تحصليها خارج القانون من الطلاب، فيما يحصل المتعاقدون على مبلغ 40 ألف ريال شهريًّا من هذه المبالغ.
وتتنوّع البرامج والأنشطة التي استحدثتها الجماعة، ابتداءً من طابور الصباح ومرورًا بما يتلقّاه الطلاب والطالبات من دروس في الفصول الدراسية، وانتهاء بما يتم تنظيمه من فعاليات يتم توظيفها بشكل أو بآخر لتحقيق أهداف الجماعة في الحصول على أكبر قدرٍ ممكن من المؤيّدين والأنصار.
احتوت دروس الجماعة على دعوات للقتال وتمجيده والإقرار بأفضلية نسب ما تطلق عليه الجماعة آل البيت وأعلام الهدى على الأنساب الأخرى وحقّهم في الولاء والطاعة، وتضمّنت عبارات تحثّ على الكراهية ونبذ الآخر ووصف من ينتمي لأطراف الصراع الأخرى أو حتى المحايدين بالمنافقين والعملاء والمرتزقة.
وفيما يخص موضوعات البرامج الإذاعية، فقد أصبحت محصورة في موضوعات تم تعميمها من وزارة التربية، بحيث يخصص لكلّ مناسبة من أسبوع إلى أسبوعين وهذه المناسبات، هي (ذكرى الهجرة النبوية، ذكرى استشهاد الإمام الحسين، ذكرى استشهاد الإمام زيد، قدوم الإمام الهادي إلى اليمن، المولد النبوي الشريف، ثورة ٢١ سبتمبر، ثورة ١٤ أكتوبر، عيد الجلاء، الذكرى السنوية للشهيد، مولد فاطمة الزهراء، جمعة رجب، ذكرى استشهاد حسين بدرالدين الحوثي، ذكرى مجزرة القاعة الكبرى).
ويقوم روّاد الفصول بتعميم الموضوعات على الطالبات، ولا يُسمح لهن بتقديم برامج إذاعية بموضوعات أخرى، وأيضًا يتم عادة التحكم في أسلوب تقديم الإذاعة وفرض نمطٍ معيّن متمثّل بعمل مسرحيات تحاكي أحداث المناسبة وتشغيل الزوامل.
هناك أيضًا ما يسمى بالفعاليات الثقافية، وهي محاضرات وندوات وورش يقيمها مسؤولو الأنشطة في المدارس، المعيّنون من قبل جماعة أنصارالله (الحوثيين) أو تقدّمها شخصيات تابعة للجماعة من خارجها، وبحيث يحضر الفصل الواحد ثلاث ورش أو ندوات أو محاضرات في كل شهر، وتتنوّع ما بين ورش تتعلّق بشكل اللباس ودور المرأة في بناء الأسرة وتنشئة الجيل القادم، وَفقًا لمبادئ المسيرة القرآنية والهُوية الإيمانية، وتجريم الاختلاط،... إلخ.
وورش أخرى تتمحور حول الأفكار التي تتبّناها الجماعة كـ:علاقة المسلمين باليهود وغيرهم من الشعوب غير الإسلامية، الجهاد (القتال مع الجماعة) بالنفس والمال وأهميته، تربية البيت النبوي، الموالاة والمعاداة، معرفة الله ووعده ووعيده، الغزو الفكري والحرب الناعمة، أهمية تحفيز الرجال في أُسَر الطالبات للالتحاق بالجبهات، تمجيد شهداء أنصارالله وعرض سيرهم الشخصية... إلخ.
ويتم استخدام عروض الباور بوينت وعرض فلاشات متنوعة ومحاضرات كاملة لقائد الجماعة عبدالملك بدرالدين الحوثي، وسرد القصص والأمثلة وإلزام الطالبات بقراءة أجزاء من ملازم (كتيبات) حسين بدر الدين الحوثي ومناقشة محتوياتها... إلخ، بالإضافة إلى إقامة مسابقات عدّة تتمحور حول الموضوعات المذكورة أعلاه وموضوعات أخرى.
لا تتوقف الفعاليات على التي تنظّمها الجماعة داخل المدرسة؛ إذ إنّه ثمّة فعاليات أخرى يتم تنظيمها في الخارج، ومنها الحشد والمشاركة في الفعاليات الكبرى كفعالية المولد النبوي، وذكرى ٢٦ مارس، أو ما تطلق عليه الجماعة مسمّى اليوم الوطني للصمود، وذكرى سيطرة الجماعة على صنعاء ٢١ سبتمبر، وذكرى الشهيد السنوية.
وكانت الجماعة قد فرضت تغييرات جوهرية في المنهج المدرسيّ، ما بين حذف دروس كاملة واستبدالها بدروس أخرى وإضافة دروس أو وحدات كاملة تعكس أفكار الجماعة وخلفيتها الدينية والمجتمعية.
احتوت الدروس الجديدة على دعوات للقتال وتمجيده، والإقرار بأفضلية نسب ما تطلق عليه الجماعة آل البيت وأعلام الهدى على الأنساب الأخرى وحقّهم في الولاء والطاعة، وتضمّنت عبارات تحثّ على الكراهية ونبذ الآخر، ووصف من ينتمي لأطراف الصراع الأخرى أو حتى المحايدين بالمنافقين والعملاء والمرتزقة، وبصورة أكثر إجمالًا عكست أفكار الجماعة وخلفياتها الدينية والثقافية بصورة كلية في هذه الدروس.
تعاون نشر مع مواطنة