في السابعة صباحًا، كان العم محمود حسن (48 عامًا)، يجلس أمام منزله في أحد الأحياء الداخلية بمديرية المعلا، كان يرتشف كوبًا من الشاي، فيما حملق بوجهه تجاه أطفال الجيران الذين نزلوا من منزلهم المجاور لمنزله، عقب وصول باص المدرسة الذي سينقلهم إلى مدرستهم الخاصة.
وضع العم محمود كأس الشاي بجانبه، قبل أن يتنهد بعمق قائلًا: "أقسم بالله إنني ما عرفت ألم الفقر إلا هذه الأيام، كنّا نعيش حياتنا كفافًا مقتنعين ومتأقلمين مع وضعنا، لكن على الأقل لم يكن الفقر سببًا في حرمان أولادي من الدراسة".
يعيل هذا المواطن ثلاثة أولاد وبنتًا؛ أصغرُهم التحقَ بالمدرسة منذ عامين، لكنهم حاليًّا يقضون وقتهم في النوم واللعب؛ جراء إغلاق المدارس بالقوة من قبل "نقابة المعلمين الجنوبيين" التي تطالب بتحسين مرتبات المعلمين.
وبنظرات مليئة بالحسرة وصوت تخنقه العبرة، يتابع حديثه: "أموت في اليوم مئة مرة، لأنّ أوقات أولادي تضيع سدى لكوني غير قادر على دفع رسوم المدارس الخاصة، طوال سنوات حياتي درست في مدارس حكومية وبالمجان"، مضيفًا أنّ آخر شيء كان يمكن أن يأتي على باله؛ أنْ تنتهي مجانية التعليم في يومٍ ما.
بحسب هذا المواطن، فقد كانت تحصل سابقًا إضرابات نقابية، لكنّ الطلاب والمعلمين كانوا يلتزمون بالحضور، كان المعلم المضرب عن العمل يوقع في حافظة التحضير ويدخل إلى الصف ويمتنع عن التعليم، أما إغلاق أبواب المدارس بالسلاسل، فهذه ظاهرة لم يعرفها أحد إلا هذه الأيام.
حاولت "خيوط"، دون جدوى، التواصلَ والاستفسار مع مسؤولين في وزارة التربية والتعليم، لكن تهرب جميعهم بدعوى أنهم يتابعون الأمر مع قيادات الدولة وأن تصريحاتهم قد تعقّد الأمور وتعطل انفراجة وشيكة للأزمة. لكنْ مصدرٌ مسؤول في وزارة المالية بعدن، أبدى استحالة قدرة الجهات الحكومية المعنية على توفير مطالب المعلمين.
حال العم محمود كحال المئات من أولياء أمور الطلاب الفقراء في عدن، والذين حُرموا من التعليم بسبب إغلاق المدارس الحكومية، وعدم قدرتهم على دفع الرسوم الباهظة التي تفرضها المدارس الخاصة.
إغلاق قسريّ للمدارس
مطلع أغسطس/ آب، أعلنت "نقابة المعلمين الجنوبيين" دعوتها للإضراب الشامل وإغلاق المدارس ومكاتب التربية والتعليم في كافة المحافظات جنوب اليمن، في إطار ما أسمته "التصعيد الثوري لانتزاع حقوق المعلمين".
وجاء في بيان صادر عن النقابة التي توالي المجلس الانتقالي الجنوبي، اطلعت عليه "خيوط"، أنها قررت وقف التعليم، بعد أن بذلت جهودًا جبّارة للضغط على الحكومة المعترف بها دوليًّا من أجل تحسين مرتبات المعلمين وعلاواتهم، ولكنها لا تجيد إلا المماطلة فقط. ودَعَت النقابة -كما ورد في البيان- جميعَ المعلمين والمعلمات إلى تنفيذ الإضراب الشامل من أول أيام العام الدراسي الجديد، في كافة المدارس ومكاتب التربية والتعليم في عموم المحافظات التي تديرها الحكومة المعترف بها الحكومة المعترف بها دوليًّا، وعدم استقبال الطلاب تعبيرًا عن الاحتجاج والإضراب العام.
وفي صبيحة السابع من أغسطس/ آب، الذي حددته وزارة التربية والتعليم في الحكومة المعترف بها دوليًّا موعدًا لبَدء تدشين العام الدراسي الجديد، كان ناشطون منتمون للنقابة يطوفون على المدارس الحكومية، للقيام بإغلاق أبوابها بالسلاسل؛ في مسعى لفرض الإضراب بشكل إجباري.
وفي اليوم نفسه، نشر أمين عام النقابة الداعية للإضراب، حسين الجعدني، على حسابه في موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"- صورًا لأبواب مدارس مغلقة، وكتب تعليقًا عليها: "نسبة نجاح الإغلاق في عدن 99%"، مضيفًا أنّ مدارس مديريات الشيخ عثمان وخور مكسر والمنصورة مغلقة بالكامل بنسبة 100%، فيما باقي المديريات كانت نسبة الإغلاق تتراوح ما بين 97% و99%، حدّ قوله.
تؤكّد هناء أحمد، مُعلِّمة في مدرسة ثانوية حكومية في منطقة المنصورة بعدن، في حديث لـ"خيوط"، أنّ مشكلة حقوق المعلمين لا تحل بإغلاق المدارس أبدًا، وتضيف بالقول: "لو كان الإضراب مجديًا لكنتُ أوّلَ من يُضرِب. في الأعوام السابقة، وقفنا في صف الطلاب، ولم نُضرِب، وحقّقت ثانويتنا مراكز عالية، لأننا لم نشارك في تخريب العملية التعليمية".
حاولت "خيوط"، دون جدوى، التواصل والاستفسار مع مسؤولين في وزارة التربية والتعليم، لكن تهرّب جميعهم بدعوى أنهم يتابعون الأمر مع قيادات الدولة، وأن تصريحاتهم قد تعقد الأمور وتعطل انفراجة وشيكة للأزمة. لكنْ مصدرٌ مسؤول في وزارة المالية بعدن أبدى استحالة قدرة الجهات الحكومية المعنية على توفير مطالب المعلمين، ولو في حدّها الأدنى؛ جراء الوضع الحالي الذي تمرّ به البلاد.
تدفُّق على المدارس الخاصة
رغم كون البيان الذي أصدرته ما يسمى "نقابة المعلمين الجنوبيين"، دعا للإضراب في كل المحافظات جنوب اليمن، إلا أنّ العام الدراسي تم تدشينه في شبوة وحضرموت والمهرة ولحج، فيما تفاوت الالتزام بالإضراب في أبين والضالع، أما عدن فقد تم فرض الإضراب فيها بشكل قسري وإجباري، ولم يُسمَح للمدرسين غير الراغبين في الإضراب، بمباشرة عملهم.
ودفع ذلك طلابًا من المدارس العامة الحكومية للتوجّه صوب المدارس الخاصة، باعتبارها السبيل الوحيد لعدم ضياع العام الدراسي، وهو ما أدّى إلى ارتفاع رسوم المدارس الخاصة بشكل كبير.
تقول أم محمد لـ"خيوط"، إنّها دفعت في العام الماضي 150 ألف ريال عن ولدها الذي يدرس في الصف الثالث، لكنها فوجئت بأنّ الرسوم ارتفعت هذا العام إلى 250 ألف ريال.
من جانبه، يؤكد رائد العلهي، سائق باص أجرة، لـ"خيوط"، أنه اضطر لمضاعفة أوقات عمله؛ كي يتمكن من دفع الرسوم التي تطلبها المدارس الخاصة لتعليم أولاده، بعد أن أصبح التعليم المجاني "شيئًا من الذكريات"، على حدّ تعبيره.
انفراجة وشيكة
إلى ذلك، تكشف مصادر تعليمية لـ"خيوط"، عن بوادر يجري الترتيب لها، من شأنها أن تُحدث انفراجة وتؤدي إلى استئناف العملية التعليمية، مطلع الأسبوع المقبل.
المصادر التعليمية، أشارت إلى أنّ هناك مبادرة وعرضًا موضوعيًّا قدَّمه وزير الدولة، محافظ عدن أحمد لملس، على نقابة المعلمين عدن، يضمن صرف العلاوات المقررة لجميع المعلمين في العاصمة عدن، الذين يزيد عددهم على عشرة آلاف معلم وإداريّ تربويّ، بموجب الكشوفات التي أعدتها الخدمة المدنية، خلال 72 ساعة حال إعلان النقابة رفع الإضراب، إضافة إلى ضمان انتظام عملية الصرف شهريًّا في حال تأخر إطلاق العلاوات من وزارة المالية والبنك المركزي.
المصادر، أشارت أيضًا إلى عدم اطّلاعها بصورة واضحة على تفاصيل العرض المقدَّم من محافظ العاصمة، غير أنّها أكّدت أنّ السلطة المحلية تعهّدَت بالحرص والعمل على تحريك ومتابعة مستحقات طبيعة العمل للمعلمين الذين تم توظيفهم في العام 2011، وبذل كافة الجهود لاعتمادها وتسريع إطلاقها من قبل الجهات الحكومية.
الجدير بالذكر، أنّ جميع المعلمين لا يتفقون مع دعوات الإضراب، لكن ليس بإمكان معارضي الإضراب أن يمارسوا عملهم؛ بسبب النفوذ الذي تحظى به النقابة، فيما الأدهى من ذلك هو أنّ أغلب المعلمين الداعين للإضراب يباشرون مهامهم في المدارس الخاصة لتدريس أولاد المقتدرين بعد أن حَرَموا الطلابَ الفقراء من التعليم جراء الإضراب الإجباري الذي فرضوه بالقوة.