مع نهاية عام آخر من الحرب على اليمن، ورسوم الإقامة المكلفة في المملكة العربية السعودية، يشهد القطاع الخاص في محافظة حضرموت كسادًا غير عادي، ألقى بظلاله على الأعمال، وعلى وجه الخصوص: قطاع البناء.
قبل حوالي خمس سنوات، شهدت المحافظة أكبر عملية نزوح وعودة للمغتربين من الأراضي السعودية منذ أزمة الخليج ١٩٩٠، ومعها وصلت أموال المقتدرين من المغتربين الفارّين من جحيم قرارات السعودة، لتحدث طفرة في قطاع العقار والبناء بعد سنوات من الجمود، بسبب أحداث ما قبل الحرب وسنة سيطرة تنظيم القاعدة على المكلا ومدن الساحل.
هذه الطفرة استفادت منها العمالة في شتى الأعمال، من بناء ونجارة وحدادة حتى الأعمال العضلية، لكن اصطدم النازحون بأموالهم بواقع مرير، من نجا منهم من عمليات النصب والاحتيال لم يسلم من شراك الابتزاز والاستغلال، وأوضاع خدماتية مزرية على جميع الأصعدة من مياه وكهرباء وغيرها.
لتأتي قرارات السعودية فيما يتعلق بشروط الإقامة وربطها بالاستثمار، لتحصل الهجرة العكسية للأموال، فكان لها عظيم الأثر على واقع الحال في قطاع البناء والعقارات، وظهرت تأثيراتها بشكل جليّ وواضح خلال العام ٢٠٢٢.
عمر سالم (٤٧ سنة)، أبٌ لسبعة أطفال من سكان مدينة المكلا، يعمل سائقًا لشاحنة صغيرة لنقل الأحجار والمؤن اللازمة للبناء، يشكي من قلة العمل، يقول:
"قبل حوالي سنة ونصف، كانت أمورنا على أفضل حال، حتى بدأت الأعمال بالتراجع. لقد أصبحت خلال الأشهر الخمسة الأخيرة على خلاف المتوقّع؛ أعود في أغلب أيامي بدون مردود، فأنا مستأجر القلاب بمبلغ ١٥ ألف ريال في اليوم، أصحو فجرًا ولا أعود إلى بيتي إلا في المساء. لقد ضعفت الأعمال في البناء، لم يعد يرن جوالي كما كان في السابق".
العم صالح (٥٨ سنة)، عامل بناء بالأجر اليومي، أجهش بالبكاء قبل أن يقول:
"منذ أكثر من ثلاثة أسابيع، لم يستدعيني المعلم علي لأعمل معه بأجر يومي- سبعة آلاف ريال. كنت أتصل به أسأل، فيشكو لي قلة الأعمال، وأنه يكتفي بابنه في حال توفرت فرصة للعمل. أعمل حاليًّا بجانب إحدى محلات الجملة لبيع المواد الغذائية. ألتقط رزقي في حمل بضائع الزبائن، والله كريم، لن نموت من الجوع".
في التاسع من يناير/ كانون الثاني، وأنا في طريقي لأداء بعض المهام الإنسانية، توقفتُ قليلًا في حراج العمّال، بمنطقة ديس المكلا، بجوار فندق المسيلة.
الساعة تشير إلى التاسعة صباحًا، وما زالت الساحة مكتظة بالعمّال الباحثين عن عمل بأجر يومي أو حتى نصف يوم. هنا أدركت أنّ قطاع البناء قد أصيب بنكسة ستكون تداعياتها أشدّ وطأة على آلاف من الأسر، ليس في حضرموت، وإنّما في محافظات أخرى، وفد أبناؤها إلى المكلا للحصول على فرص عمل.
فهذه الساحة ما أن تبزغ خيوط الفجر الأولى وينتشر الناس لأرزاقهم بعد أداء صلاة الفجر، تجدها وكأنها خلية نحل تدب الحياة فيها كلما كانت الخيوط البيضاء لصباح يوم جديد تفرض نفسها على عتمة ليلة آفلة.
وما أن تشرق شمس نهار جديد بحدود لا تتجاوز السابعة صباحًا، لن تجد بها عاملًا يبحث عن عمل، لأنّ جميعهم قد أوكلوا لأرزاقهم في ذلك اليوم.
ساحة مكتظة بالعشرات من العمّال من شتى المهن، لا تجمعهم سياسة ولا قبيلة ولا مناطقية، هدف واحد فقط؛ هو طلب الرزق، من حضرموت ومن إب ومن تعز وذمار والمحويت وعمران، ومن أغلب محافظات الجمهورية. من عايش المشهدين يعلم جيدًا أن بيوتًا ستخرب ونساء وأطفالًا سيصبح مصيرهم ومستقبلهم على كف عفريت.
"لا بيع ولا شراء وكأن الناس ليس معها فلوس"، بهذه الكلمات اختصر لنا أبو محسن (٤٧ سنة)- دلّال في بيع وشراء الأراضي في مدينة المكلا، واقعَ الحال لمهنة السمسرة أو ما يعرف عاميًّا بالدلالة.
يرى الكثير من المراقبين المحليين للأوضاع في قطاع البناء والعقارات، أنّ سبب الكساد هو اصطدام بعض رؤوس الأموال الصغيرة التي نزحت من السعودية، بسبب قرارات السعودة، بالأمر الواقع. وجاءت قرارات شروط الإقامة في السعودية وربطها بالاستثمار، أشبهَ بطوق نجاة لمن استطاع أن ينفذ بأمواله من أرض محروقة اقتصاديًّا وخدماتيًّا.
عمليات بيع وشراء إن حدثت فهي في إطار محدود وضربة حظ، لينفذ من حالفه الحظ بأمواله، وآخرون أعادوا تحويل أموالهم إلى السعودية ليستفيدوا من القرارات وينفذوا بجلدوهم، تاركين فراغًا كبيرًا في الاقتصاد الوطني، ليسوا هم سببًا فيه، بقدر ما كانت الحكومة وبقية أطراف النزاع السببَ الرئيس فيما حدث ويحدث وسيحدث.
معامل البلك والطوب هي الأخرى تضرّرت بشكل كبير؛ بعضها أغلق بشكل كامل، والبعض الآخر ما زال يقاوم مع تخفيض للعمالة بعد أن تراكمت صفوف البلك والطوب بأغلب مساحتها، وكذلك الحال بالنسبة لمساكب المؤنة بأنواعها، فهي مرتبطة بالأولى ارتباطًا لا يقبل التجزئة.
محمد قائد (٤٨ سنة)، عامل تحميل من محافظة إب، يعمل في المكلا في أعمال نقل مؤن البناء منذ أكثر من ١٥ سنة، يقول: "إنّ استمرّ الحال متوقفًا في الشهرين القادمين، فإنّي لا أستطيع أن أعود إلى قريتي في محافظة إب ويداي خاليتان، فكل ألف ريال تتطلبه معيشة أسرتي هناك، فيجب عليّ أن أعمل هنا وأوفر ألفَي ريال بعملة محافظات الشرعية، فما بالك الآن حيث تمر أيام دون أن أعمل وأكسب أجرًا؟! الوضع أصبح أصعب ممّا نتوقع".
فيما يقول المهندس أمين (٥٨ سنة)، مهندس ومقاول من محافظة عدن، ارتبط بعدة مقاولات في المكلا، إنّ هناك سببًا آخر؛ هو ارتفاع أسعار المواد من إسمنت وحديد، فضلًا عن ارتفاع أسعار أجور الأيدي العاملة.
ويستطرد: "لديّ قضيّتان في المحكمة التجارية، كلاهما موضوعهما مقاولات بناء. لقد أصبحنا نجري خلف أموالنا في المحاكم، وخربت أعمالنا بسبب نقص السيولة لدينا لتسيير أعمالنا. كلّ شيء ضدّنا في اليمن".
يظلّ كساد قطاع العقار والبناء همًّا آخر يضاف إلى همّ اليمنيّين، ويرمي بآلاف من أرباب الأسر إلى رصيف البطالة، فضلًا عمّا سيخلّفه ذلك من بؤس وجوع لأفراد أسر أولئك العمّال.
(*) تعاون نشر مع مواطنة.