على شرفة الذاكرة، وقفت أتأمل الماضي، وأنظر إلى المستقبل، ورأيت أستاذي ومعلمي الأستاذ الدكتور عبدالعزير المقالح، سلّمتُ عليه ووقفت حائرًا!
فقال: ما بالك تَحيَّرتَ فيما تقول؟!
قلت: أريد أن أكتب عنك -في ذكرى وفاتك الأولى- شيئًا لم يُكتب عنك.
قال: لك ذلك، ولكن لماذا وقفت على شرفة الذاكرة، ولم تقف على عتبة معرفتي؟
قلتُ: لأني لن أتحدث عن زادك المعرفي لأجيال اليمن طوال حياتك.
قال: لماذا؟
قلت: لأنّ من تحدث عن إبداعك كثر، ومنهم أساتذة كبار، وأنا تُلَيْمِيذٌ في مدرستكم جميعًا، لكنني ساهمت بشيء من ذلك، ونشرته في مجلة نزوى.
قال: فما الذي ستتحدث به ولم يعرفه الناس؟
قلت: سأتحدث عن ذكرياتٍ جمعتني بك ولا يعرفها أحدٌ سوانا، غير من شاركنا تلك الذكريات، لكن فيها من العِبَر ما يستحق أن يطلع عليه القارئ الكريم.
قال: إذن هات ما عندك لتذكرني بها ثانية، ويتعرف عليها الناس من خلال هذا الفضاء.
قالت: سأستسمحك فيما هو خاص، ولكن لا بد للرأي العام أن يعرفَ أنّ ثمَّة خصومًا كانوا يقفون ضد مشروعك التنويري، وصل بهم الحد إلى تكفيرك.
قال: أولئك هم من لم يفهموا شعري.
قلت: لكن هذا التوجه كان سيلحق بي الأذى! وسأوضح للقارئ الكريم ذلك في موضعه من هذا الحوار، لكنني سأبدأ مما أحمله في يدي.
قال: وما الذي تحمله بيدك؟
قلت: أحمل رسالة إليك من مجلة النضال عام 1985م، بخط رئيس تحريرها الراحل سفيان البرطي.
قال: أو تحتفظ بها منذ ذلك التاريخ؟
قلت: نعم.
قال: هات اقرأ لي ما ورد فيها.
قلت:
"أخانا الأعز الأستاذ الدكتور/ عبدالعزيز صالح مرشد المقالح المكرَّم
تحية طيبة وسلام وإجلال، وبعد:
فإن لدى الأخ زيد الفقيه -وهو المحرر المختص عندنا منذ وقت بمجال التاريخ والأدب- عددًا من الأسئلة التي يرنو إلى الإجابة عليها منكم، نرجو شاكرين تكرمكم بالإجابة، فهذه هي أول مرة نبعث إليكم فيها بمندوب من لدينا، أو نود أن يقرأ لكم قرآنًا في مجلتنا شيئًا.
ولكم فائق التقدير والاحترام.
عن النضال: سفيان البرطي"
قال: أوتحمل عددًا من الأسئلة وأنت في هذه السن الصغيرة؟
قلت: نعم.
قال: لا بأس عليك. وما الموضوع الذي استسمحتني فيه؟
طلبت من الدكتور هجوان أن يُسْكِتَ أطفاله، فاتخذ من هذه الكلمة ذريعة لتركِ المنصّة ومغادرة القاعة، فصعد أولئك بنيَّة الإجهاز عليَّ، لولا لطف الله، بأن قام الأستاذ أحمد الحبابي وكيل المدرسة بإعطائي مسدسه، وذهب لإحضار سيارته لباب المسرح، فصوَّبتُ المسدس في وجه من أراد الاقتراب مني حتى وصلت السيارة، فانطلق بي بعيدًا عن المدرسة.
قلت: إنه موضوع تكفيرك من قبل الحاقدين عليك.
قال: قد عرفته في حينه عام 1991م، لكن لا بأس أن يطلع عليه القارئ الكريم بإيجاز.
قلت: حين كنت طالبًا في الجامعة في السنة الثالثة، حدثني أحد الزملاء أن ثمَّة محاضرةً عنك في مدرسة ثانوية الكويت، فذهبت معه إلى تلك المحاضرة، إذ بي أجدها لشخص يسمونه الدكتور أحمد هجوان، وينتمي لحزبٍ متطرفٍ تحدث فيها عن قصيدتك التي تقول فيها:
صار الله رمادًا
صمتًا رعبًا في كف الجلادين،
حقلًا ينبت سبحات وعمائم،
بين الرب الأغنية الثورة والرب القادم من هوليود
كان الله قديمًا
حبًّا
كان سحابة كان نهارًا في الليل
أغنية تغسل بالأمطار الخضراء تجاعيدَ الأرض.
ويتهمك بالكفر والإلحاد، وفي نهاية حديثه طلب التعقيب ممّن يمثلكَ أو انتدبته للدفاع عنك، فرفعت يدي وصعدت إلى المنصة.
وقلت: أنا لست مبتعثًا من الدكتور المقالح، ولا منتدبًا عنه، لكني سأدافع عن الحق.
قلت في مستهل حديثي: "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبيَّنوا أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين" صدق الله العظيم. وما أن انتهيت من تلاوة هذه الآية حتى رُميتُ بقوارير الماء والعصِي وساد القاعة الهرج والمرج.
قال هجوان، محاولًا تهدئة القاعة: "ما بالكم؟! هو تلا أية قرآنية ولم يقل شيئًا"، لكن القاعة لم تهدأ.
قلت: أرجو من الدكتور هجوان أن يُسْكِتَ أطفاله، فاتخذ من هذه الكلمة ذريعة لتركِ المنصّة ومغادرة القاعة، فصعد أولئك بنيَّة الإجهاز عليَّ، لولا لطف الله، بأن قام الأستاذ أحمد الحبابي وكيل المدرسة بإعطائي مسدسه، وذهب لإحضار سيارته لباب المسرح فصوَّبتُ المسدس في وجه من أراد الاقتراب مني حتى وصلت السيارة، فانطلق بي بعيدًا عن المدرسة.
قال المقالح: الحمد لله أن كان لي طلاب بهذا القدر من المسؤولية. لكن دعك من هذا وحدثني عن النشاط الجامعي.
قلتُ: إنه حديث ذو شجون وأنت تعرفه، لكني سأذكر منه ما يستحق أن يطَّلع عليه القارئ.
قال: وما الذي ستطرحه للقارئ في هذا الشأن؟
قلت: سأطرح له ما يستحق الطرح للمقارنة بين زمننا الراهن وتلك الأيام!
قال: على بركة الله.
قلت: حين كنت طالبًا في الجامعة منذ عام 1988م حتى 1993م، توليت رئاسة جمعية اللغة العربية بإصرار من الدكتور رياض القرشي، المشرف على هذه الجمعية (رعاه الله)، كنا أعضاء الجمعية ننظم نشاطًا شهريًّا لطلاب الجامعة من مختلف الكليات، تتخلله القراءات الشعرية والقصصية وحفلات موسيقية لطلاب الجامعة بشكل عام، وكان ثمَّة مشكلة عويصة تواجه زميلاتنا الساكنات في سكن الطالبات الجامعيات.
قال: وما هذه المشكلة؟
قلت: أنت من حلَّها في حينها. أوَنسيتها؟!
قال: المشاكل التي حللتها كثيرة ولا أستطيع تمييزها؛ فما هي؟
قلت: هي مشكلة تأخر الطالبات في تلك الفعاليات التي كانت تبدأ الرابعة عصرًا وتنتهي التاسعة أو العاشرة مساءً، وكان نظام سكن الطالبات يقتضي عودتهن السابعةَ مساءً، وبعض الطالبات مشاركات في فقرات تلك الأنشطة، فيحول ذلك من تمكّنهن من تقديم مشاركاتهن.
قال: لماذا لم تبلغني بذلك؟
قلت: هذا ما حصل في حينه وأنت رئيس للجامعة، فقد صعدت إلى مكتبك وطرحت عليك تلك المشكلة، فحللتها بشرط واحدٍ.
قال: وما ذلك الشرط؟ لا أتذكره.
قلت: وافقتَ على تأخر الطالبات حتى نهاية الفعاليات، وشرطت عليَّ أن أستأجر باصًا لتوصيل الطالبات من باب القاعة حتى سكنهن، وبالفعل تم ذلك.
قال: آه، لقد أعدتنا إلى ذلك الزمن الجميل زمن العلم والمعرفة الحقيقيين.
قلت: وثمة موضوع آخر كنتُ أنا مَحَطّ اللوم فيه من زملائي وتلامذتك، وأدباء وكتّاب!
قال: وما ذاك الموضوع؟
قلت: في عام 2004م صنعاء عاصمة الثقافة العربية، وبحضور جمع غفير من الأدباء والشعراء وأساتذة الجامعة من العالم العربي، قامت وزارة الثقافة والسياحة بتكريمك على مسرح قاعة المركز الثقافي وقد تجمعنا يومها في ساحة بيت الثقافة لحضور تلك الفعالية، وعند ذهابنا إلى المركز فكرتُ بأن أعبّر لكم عن فرحتي بهذه المناسبة بباقة ورد فاتجهت -خلسة عن زملائي- إلى شارع العدل أمام مشفى الكويت، وهو المكان الأقرب للمركز، واشتريت الورد وعدت، وأثناء التكريم صعدت إلى المسرح وسلَّمت عليك بالورد، فكان ذلك الموقف محطّ لومي ممن كنت معهم، إذ لم أنبّههم للقيام بمثل ما قمت به.
قال: سلام عليكم جميعًا، فأنتم أبنائي، أبناء اليمن الكبير الذي سخرت نفسي لخدمته.