لم تجد "غ. ن" (28 سنة) بُدًّا من الإذعان لإصرار ذويها في العودة مع زوجها الذي جاء يستردّها من أهلها بعد شجار بينهما تطور إلى صفعات ولكمات سببت لها كسرًا في عُظيمة الأنف مع نزيف (رعاف) صبغ عباءتها بخطوط قانية.
ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها "غ. ن" للعنف الجسدي من قبل زوجها الذي تنعته بـ"الحَرِق" (تعبير في اللهجة المحلية يطلق على الشخص العصبي)؛ تقول في تصريح لـ"خيوط"، إنها في العادة تتسامح وتعود من أجل أطفالها الثلاثة، وفي كل مرةٍ يتعهد زوجها بعدم إيذائها، لكنه ينكث ويعود أكثر ضراوة من ذي قبل.
توضح في سياق حديثها: "لا أملك خيارًا آخر غير الصبر والتحمل من أجل أطفالي، هم أيضًا ينالهم الأذى من قبل والدهم، خصوصًا في غيابي، كما أنه بارع في كسب تعاطف أهلي ووالدتي تحديدًا، يستغل انفعالي أثناء الشجارات لتبرير ضربي والادعاء عند أهلي أني طويلة اللسان". تردف باكيةً: "لقد سئمت من هذا الزواج".
بخلاف مَنْ سئمَت البقاء كزوجة تتعرض للتعنيف، تأمل "خ. م" (19 سنة)، وهي فتاة من مديرية المفتاح في أن يتقدم لها شاب مناسب للزواج بها، فهي تعتقد -كما توضح لـ"خيوط- أن ذلك ربما سينقذها من "التعنيف المستمر" الذي تتعرض له من قبل أخيها الأكبر، الذي لا تجرؤ على الاعتراض أمامه أو التصرف بخلاف رغبته حتى في شؤونها الشخصية على نحوٍ "متعسف" على حد وصفها.
في العادة، يجري التعامل مع العنف المنزلي ضد النساء، على أنه شكل من أشكال التربية، خصوصًا حين يكون صادرًا من الأب، وليس للفتاة الحق حتى في الاعتراض، فضلًا عن تقديم شكوى قانونية، حيث يُلاحظ أن هناك خلطًا كبيرًا بين مفهومي التربية والعنف لدى المجتمع.
ظاهرة متجذّرة
العنف الأسري تجاه المرأة من الممارسات الشائعة في معظم دول العالم الثالث بما فيها اليمن، التي تشهد معدلات قياسية في حالات العنف الأسري ضد المرأة، بأشكال مختلفة، تفصح عن مدى ترسّخ وشيوع هذه الظاهرة الخطيرة، في التركيبة الثقافية للمجتمع المحلي.
ويبدو من الصعب تحديد متوسط إحصائي لعدد النساء اللاتي يتعرضن للتعنيف في اليمن، بسبب التكتم الشديد حول هذه القضايا التي تعتبر في العرف الأسري من القضايا التي تمس سمعة العائلة، رغم أن بعض المجتمعات القبلية تتعاطى مع الظاهرة بتقبل سلبي، ساهم في تَجَذُّر السلوك العدواني تجاه النساء، تعضده التقاليد الخاطئة المتشددة والفهم المغلوط، أو التحريف -عمدًا أو جهلًا- لبعض النصوص الدينية التي يجري تكييف مقاصدها لتبرير الحطّ من مكانة المرأة وبخس كينونتها الإنسانية، الأمر كرّس لجعل المرأة عرضةً للتعنيف المستمر، بمقتضى التبعية القسرية لإرادة الرجل (الأب، الأخ، العم...)، في مقابل غياب القوانين الكفيلة بحماية النساء من العنف الأسري الذي يصل أحيانًا إلى جرائم من بينها القتل.
الناشطة في مجال حقوق المرأة هناء الشاوش، في تصريح لـ"خيوط"، ترى أن "بعض الرجال يتخذون العنف وسيلة للتعبير عن شعورهم بعدم الرضا، حيال تفوق شريكاتهم عليهم في مجالٍ ما، كأن تكون ذات شأن اجتماعي؛ ما قد يولّد إحساسًا بالنقص، يسعى للتنفيس عنه عن طريق العنف، مدفوعًا بوهم التفوق الذكوري"، حد تعبيرها.
مفهوم خاطئ للتربية
في العادة، يجري التعامل مع العنف المنزلي ضد النساء، على أنه شكل من أشكال التربية، خصوصًا حين يكون صادرًا من الأب، وليس للفتاة الحق حتى في الاعتراض، فضلًا عن تقديم شكوى قانونية، حيث يُلاحظ أن هناك خلطًا كبيرًا بين مفهومي التربية والعنف لدى المجتمع، خصوصًا حين يرتبط ذلك التصور للعنف في المخيال الجماعي بوصفه رديفًا معنويًّا للتربية، وهذا لا يقتصر المرأة فقط من جانب وليّها (الأب أو الزوج...)، إنما يشمل بالمثل الأبناء والإخوة/ الأخوات الأصغر سنًّا، وإن كانت المرأة في معظم الحالات، هي الطرف الأشقى بسيادة مثل هذه الظواهر في المجتمع اليمني الذي يوصف بـ"المحافظ".
إلى جانب ذلك، ساهم الوضع غير المستقر للبلاد وتبعات الانتكاسة الاقتصادية جراء الحرب، التي امتد تأثيرها إلى الجانب الاجتماعي، في تفاقم ظاهرة العنف. توضح الناشطة الشاوش أنه في أحيان كثيرة يكون الوضع الاقتصادي، سببًا من الأسباب التي لا يتم الالتفات إليها في العادة، في تغذية ظاهرة العنف تجاه المرأة، نظرًا للمشاكل التي يواجهها الرجل جراء البطالة وانقطاع المرتبات في الوظائف الحكومية منذ خمس سنوات؛ الأمر الذي قد يخلق جوًّا من الاضطراب الأسري، نتيجة لتراكم الضغوط النفسية والاقتصادية، تنعكس تبعاته على المرأة في صور متعددة من العنف، خصوصًا مع ضعف الوعي والتقاليد الخاطئة.
قضية عزلاء
رغم حوادث العنف المتكررة تجاه النساء، لا يوجد في القانون اليمني نص يحظر أو يُجرِّم العنف المنزلي تجاه النساء اللاتي يتعرضن للعنف الجسدي أو اللفظي من قبل الأهل.
تلفت "الشاوش" إلى أن معدل العنف الأسري تجاه المرأة ما يزال في تصاعد، نظرًا لغياب الحزم القانوني، الذي يعد أحد أهم الأسباب في ارتفاع نسبة العنف ضد المرأة، سواءً على المستوى النفسي أو الجسدي، وربما القتل العمد في بعض الأحيان، على غرار ما حدث خلال السنوات الماضية، بحق نساء قتلن بطريقة مروعة، كالحرق بـ"الأَسِيد"، أو الذبح، أو الرمي بالرصاص.
وبحسب المحامي والقانوني توفيق عبدالله راشد الضبيبي، في حديثٍ لـ"خيوط"، فإن "قانون العقوبات اليمني لا يتضمن نصًّا صريحًا حول العنف المنزلي -النفسي والجسدي- ضد المرأة، ناهيك عن الاعتبارات الاجتماعية التي تُخوّل الرجال ضرب زوجاتهم وبناتهم وأخواتهم، وهذا يجعل المرأة عزلاء من أي حماية قانونية، وهو ما يشجع من تصاعد حالات العنف غير المسؤولة تجاه النساء في اليمن عمومًا".
كما يعد ما يعرف بـ"جرائم الشرف" من الممارسات المتكررة التي يترخص القانون حيالها، خاصة حين تكون صادرة من المقربين من الدرجة الأولى (الزوج/ الأب/ الأخ)، على الرغم من كون هذه القضية وتفريعاتها، ما تزال محط شدٍّ وجذب تشريعي من قبل منظمات وهيئات حقوقية ومدنية طالبت البرلمان اليمني بإعادة النظر في القوانين التي تتعاطى مع الجرائم من هذا النوع بـ"تواطؤ" كما يراه كثير من الحقوقيين.