كل حياة جديرة بأن تروى، ولها الحق في اختيار الزوايا والطرائق التي تَعْبُر من خلالها إلى القارئ. وأشكال كتابة الذات أو رواية الحياة عديدة؛ أولها وأوضحها السِّيَر الذاتية، ومنها كتابة المذكرات والذكريات. وللمجتمع الحق في أن يتعرف على حيوات ومواقف وأحداث لأفراد أو شخصيات مؤثرة في أية مجالات، فإذا كتبت الذات شيئًا ما عن حياتها، تصبح الكتابة سجلًّا اجتماعيًّا في توثيق وإضاءة ما لا يلتفت إليه التاريخ المنشغل دائمًا بما هو عام، وهنا مكمن الفائدة والمتعة في هذا النوع من الكتابات التي تروي من الأحداث والتفاصيل والمواقف والإضاءات ما يمنح الحياة معنى والوجود قيمة، فالحياة هي التفاصيل اليومية التي نعيشها بمختلف أحوالها وتداخلاتها، وإذا كان منها ما يسقط من الذاكرة، ومنها ما يعلق ويقاوم النسيان، ومنها ما يستحق أن يروى، ومنها ما يحجب، فإنّ أية كتابة للذات تكتسب قيمة أكيدة في التعرف إلى حياة صاحبها مهما جرى تشذيرها أو تضفيرها بحيوات الآخرين على النحو الذي أفضى إلينا به الشاعر والإعلامي محمود الحاج في (حقيبة الذكريات).
في هذه الحقيبة جمع محمود الحاج أشتات أوراق مبعثرة، كان قد نشر بعضها في مقالات أو كتابات سابقة، ولعله قد أضاف إليها أو استدرك عليها بعض الشيء، المهم أنها أصبحت في حقيبة من ورق بين يدي القارئ منذ مدة قريبة، فأصبح للقارئ حرية فتح هذه الحقيبة وتقليب أوراقها والتعرف على أسرارها وجوانب من حياة صاحبها، ولعلّ أول ما يلفت النظر تلك الإشارة الأجناسية على غلافها، والتي تفيد بأنها "سيرة ذاتية" وهذا يخلق أفقًا من توقعات القارئ بوجود مقدار كبير من المعلومات عن حياة محمود الحاج، ولا شك بأن هذا التوقع يثير شغفًا خاصًّا، ورغبة جامحة في الإطلالة من على كتف "الحاج" بحثًا عن صورته المنعكسة في الحقيبة، لكن هذ التوقع سيفتر قليلًا بعد تقليب بعضٍ من أوراق الحقيبة، ويجد القارئ أنّها ليست سيرة ذاتية، وإنما هي كتابة في الذكريات، جنس أدبي له خصائصه واشتراطاته، وقد كان المؤلف نفسه واعيًا بهذا النوع من الكتابة عندما وضع عنوانها "حقيبة الذكريات"، والذكريات -كما هو معلوم- تتيح لصاحبها الانتقال في الموضوعات، والانتقاء من الأحداث والمواقف ما يشاء، والكتابة في تقاطع حياة الذات مع حيوات الآخرين، أن تستدعي الذات من المواقف والأحداث ما يتيح لها فعل التذكر من إبراز وجودها فيما هو عام أو يتصل بقصص شخصيات أخرى، أن تروي الذات نفسها في معية الآخرين، وهذا ما قصدته من تعبير "تضفير الحياة" عندما يمتزج ما هو عام بما هو خاص، وتلتحم خطوط الذات بخطوط الآخرين في العديد من القصص والمواقف والأحداث المشتركة التي لا تخضع لتسلسل أو ترابط سردي كالذي نراه في السير الذاتية والمذكرات، ذلك أنّ الذكريات تعنى بما هو عام أكثر من عنايتها بما هو خاص أو فردي، ولذلك تمتلك الذكريات قوة الوثيقة التاريخية والاجتماعية في موضوعاتها.
وممّا يلفت النظر في السنوات الأخيرة انتشار أشكال كتابة الذات، وعلى نحو خاص السير الذاتية والمذكرات والذكريات، وتشكل ظاهرة كتابية في العديد من الشرائح الاجتماعية والمهنية في اليمن، وأغلب الظن أنّ للدواعي العامة المحفزة على هذا النوع من الكتابة الأثر البالغ، وظروف الحرب والأزمات التي تمر بها اليمن مؤخرًا تستدعي مواجهة كل عوامل الفناء وتخليد الحياة في الكتابة، فضلًا عن ظاهرة اجتياح الأدوار الزائفة في مجالات السياسية والفكر والثقافة والإعلام، وموجة النكران والجحود التي تسود واقعنا الآن، وكل هذا يشكّل دوافع عامة للكتابة، إلى جانب الدوافع الخاصة، كالشعور بالظلم أو المرض والتقدم في العمر وغير ذلك، وأغلب الظنّ أنّ حقيبة الذكريات لم تخرج كثيرًا عن هذه الدوافع في الكتابة.
كتب محمود الحاج عن ذكرياته مع العديد من الشخصيات، منهم الرؤساء والساسة الكبار في شطري اليمن؛ الحمدي، الغشمي، سالمين، عبدالفتاح، وعلي ناصر، والوزراء والمسؤولين الكبار، جمعته بهم ظروف العمل الصحفي، وكتب عن ذكرياته مع كبار الأدباء ورموز الفكر والثقافة من أمثال البردّوني ولطفي وجرادة وعبدالولي وعبدالباري طاهر، ومحفوظ وسعدالله ونوس، ومن الفنانين عبدالوهاب وبلفقيه والمرشدي وأحمد قاسم ومحمد عبده ودريد لحام... وغيرهم من الشخصيات العامة، لم تخلُ هذه الذكريات من المعلومات المهمة التي تُقال للمرة الأولى، عن حياة هؤلاء وعن حياته معهم، ولم تخلُ من المفارقات المواقف الطريفة مثل قصة سفر مجموعة من الأدباء والإعلاميين برفقة الرئيس علي ناصر محمد بالطائرة، من عدن إلى حضرموت والأجواء الكابوسية والمضحكة معًا عندما ساد التوتر والقلق بينهم خشية تعرض الطائرة لحادث تفجير مدبر، وخصوصًا أنّ أجواء حادثة تفجير طائرة الدبلوماسيين اليمنيين الشهيرة لم تزل ماثلة أمامهم آنذاك، ولم يمضِ عليها عام، وقد استطاع الحاج أن يسرد مواقف الخوف والتوتر بأسلوب قصصي فكاهي ساد الجميع بسبب تعرض الطائرة لمطب هوائي، ويبدو المؤرخ سلطان ناجي وهو يصرخ: "لقد عملوها الملاعين"، وحين يحاول الرئيس علي ناصر تهدئة الجميع: "كيف بايعملوها وأنا معكم؟!"، فيجيبه سلطان ناجي: "طبعًا بايعملوها لأنك معنا!". ونتعرف في هذه الذكريات على المزيد من سخرية البردّوني ورؤيته في سياق مقابلاته مع الحاج، ونقرأ قصة اعتقال الجبهة القومية للشاعر لطفي أمان والفنان أحمد قاسم. نتعرف في هذه الذكريات على بداياته في كتابة الشعر وتشجيع لطفي له، وقصة خروجه من عدن إلى صنعاء برفقة وفد أدبي في 1973، ضمّ محمد سعيد جرادة وفضل النقيب، عندما قرر هو والنقيب عدم العودة إلى عدن، وهي القصة نفسها التي كتبها فضل النقيب في (دفاتر الأيام) وعودة رئيس وفدهما محمد سعيد جرادة وحيدًا إلى عدن بعد فشله إقناعهما بالعدول عن الهروب، ليقول عبارته الساخرة المشهورة: "لقد تقدم التقدميون، ورجع الرجعيون"، وقصة اعتقاله مع عبدالباري طاهر في صنعاء بسبب خطأ طباعي في صحيفة (الثورة) ألحق تاء التأنيث باسم الرئيس إبراهيم الحمدي، وما اتصل بهذا الموقف من مفارقات طريفة، وعن ضياع قصائده التي جمعها في قصاصات تشكل مسودة ديوانه الأول بسبب ضابط المخابرات في مطار صنعاء. العديد من المواقف والذكريات، مع العديد من الشخصيات شذر من خلالها مواقف وطرائف حياته، ورحلاته ومشاهداته وانطباعاته في أثناء سفره إلى العديد من المدن العربية والأجنبية. وهناك العديد ممّا تحمله (حقيبة الذكريات) والتي لم تخلُ من فرصة البوح الذاتي عن سلسلة من المعاناة والدسائس التي واجهها محود الحاج في أثناء اشتغاله بالمجال الإعلامي، وخصوصًا في كلٍّ من صحيفة (الثورة) وبدايات التلفزيون في صنعاء في 1975، ولذلك ستصبح ذكرياته مادّة مهمة في معرفة بدايات تأسيس هاتين المؤسستين الإعلاميتين في شمال اليمن، وكذلك دوره في تأسيس مؤسسة سبأ العامة للصحافة والأنباء آنذاك، والمحاولات الأولى من أجل تأسيس اتحاد للأدباء والكتاب اليمنيين، وسوف يبدو الحاج في خضم مفارقات الواقع السياسي في السبعينيات والثمانينيات في شطري اليمن، والحافل بالعديد من الصراعات والتحولات العنيفة.
هي ذكريات عديدة تم تشذيرها وتضفيرها في (حقيبة الذكريات) نلمح فيها اتصال محمود الحاج بالعديد من رجالات عصره في مرحلة تمتد في الزمان نحو ثلاثة عقود، منذ سنوات السبعينيات العاصفة إلى سنوات التسعينيات الحالمة!
وقد جاء سردها بأسلوب المقالات الأدبية الذاتية المستقلة نصيًّا، ما يتيح للقارئ الولوج إليها فرادًا ووحدانًا، وينساب فيها بلذة التعرف والاكتشاف، وأينما قلّبَ في أوراق الحقيبة فلن يجد إلا حياة تتقاطع مع حياة أناس مؤثرين في مختلف المجالات، ولعل القارئ الشغوف بالمزيد من التلصص على حيوات الآخرين -كما هو الحال عند قراء السير الذاتية- سيطمح في أن تجد دوائر أخرى من حياة هذا الشاعر والإعلامي الكبير مجالها إلى فضاء الكتابة ذات يوم في شكل سيرة ذاتية متصلة مكتملة، فحياة صاحبها جديرة بأن تروى بعيدًا عن التشذير في نتف متفرقة هنا وهناك، أو التضفير في أثناء تناوله أحداثًا ومواقف وشخصيات، وعلى الرغم من ذلك، فإنّ كل حياة جديرة بأن تروى، ولها الحق في اختيار الزوايا والطرائق التي تعبر من خلالها إلى القارئ.