تشهد الأوضاع الاقتصادية والإنسانية في اليمن، منذ العام الأول للحرب 2015، تدهورًا مستمرًّا. فكلُّ سنة تأتي بأوضاع أسوأ من أوضاع السنة السابقة لها، الأمر الذي أوصل الأوضاع الاقتصادية إلى مرتبة انهيار عميق، يصعب عودتها إلى ما كان عليه قبل الحرب، كما أوصل الوضع الإنساني إلى أسوأ حالاته، إذ تصفه الأمم المتحدة بأنه الأسوأ على مستوى كافة دول العالم.
ومع استمرار هذا الوضع وتعميقه، فإنّ الدولة اليمنية لن تظلَّ دولة واحدة، بل تتجه لتصبح دولتين، ومِن ثَمّ يتعزز إعادة تشطير اليمن، مع استمرار صراعات سياسية وعسكرية دامية ودائمة، وتعميق للتدهور الاقتصادي والمعيشي والإنساني، وصعوبة المواجهة في كلا الشطرين إن استمر التقسيم القائم، وتجذرت بنيته الإدارية والتنظيمية؛ ولذلك تأتي أهمية البحث عن العوامل أو القضايا المعززة لتقسيم الدولة اليمنية إلى دولتين وسبل مواجهة هذا الخطر وقضاياه الماثلة. ونوضح ذلك بما يلي:
إغلاق الطرق
فخلال سنوات الحرب الماضية منذ العام 2015، برز طرفان في الصراع المسلح؛ أحدهما سيطر على كافة المحافظات الشمالية، باستثناء أجزاء من بعضها، وغيرُ معترف به دوليًّا، وبدأ بالعمل على تأسيس نظام حكم خاص به، مركزه العاصمة صنعاء، والآخر سيطر على المحافظات الجنوبية مع بعض أجزاء من المحافظات الشمالية، ويحظى باعتراف دولي باعتباره ممثلًا لشرعية الدولة اليمنية، واتخذ من عدن عاصمةً مؤقتة له بديلة عن العاصمة صنعاء، إلا أن قادته استقرّوا في الخارج، وانشغلوا بقضاياهم الخاصة، وكل ما يعزّز بقاءهم في السلطة، غير مبالين بالتدهور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والإنساني وتقسيم الدولة، وأُهمِلَت قضايا استعادة الدولة ومؤسساتها. الأمر الذي أدّى إلى تشكّل كيانات عسكرية متعددة، لا تخضع لقيادة واحدة. ومن ثَمّ، فإنّ كلًّا منها يعمل على تجذير وجوده وهيمنته على المناطق التي تسيطر عليها قواته المسلحة وبدعم إقليمي.
كلُّ ذلك مع مرور السنوات، قد أدّى إلى تقسيم الدولة اليمنية إلى قسمين جغرافيين في إطار الدولة، كلٌّ له مرجعية سياسية وقوى إقليمية تدعمه لتوسيع نفوذه الجغرافي. ومع قطع الطرقات الرسمية بين الجانبين، اتخذ الناس وحركة التبادل التجاري طرقًا بديلة للانتقال من جهة لأخرى، ولكنها طويلة المسافة ووعرة في بعضٍ من أجزائها وبتكلفة نقل مرتفعة جدًّا بالمقارنة مع ما كانت عليه حركة النقل قبل الحرب، فمثلًا: الانتقال من جزء تابع للشرعية في تعز، كالمدينة، إلى جزء آخر تابع للمنطقة التي تسيطر عليها قوات الحوثيين كمنطقة الحوبان، كان يكلف من الوقت زمن يتراوح بين 5 و20 دقيقة عبر الطرق الرسمية قبل الحرب، وأصبح بعد الحرب يكلف من الوقت زمن يتراوح بين 5 و10 ساعات، ويكلف من المال (100 - 50) ريال قبل الحرب، ونحو 15 ألف ريال للفرد الواحد بعد الحرب. هذا بالإضافة إلى الجهد والتعب المضني والإعاقات المفتعلة من قبل النقاط الأمنية المنتشرة على الطرقات. الأمر الذي أدّى إلى تراجع حركة النقل بصورة حادّة وحركة التبادل التجاري، إذ لا أحد صار يفكر بالانتقال من جهة لأخرى إلا للضرورة القصوى.
وبناء على ذلك، فقد بدأ الانتقال للناس ولرجال المال والأعمال والتبادل التجاري، يتراجع بصورة حادّة بين المناطق التابعة للسلطة الشرعية والأخرى التابعة لسلطة صنعاء، وأخذت عملية التقسيم الجغرافي للدولة تتخذ مسارًا تصاعديًّا ليشمل مجالات أخرى سيأتي الحديث عنها لاحقًا. ولمنع التقسيم الجغرافي للدولة إلى شطرين، فلا بدّ من إلغاء كافة الحواجز المستحدثة على الطرقات الرسمية، وإعادة انسياب حركة النقل بين كافة المحافظات عبر الطرق الرسمية المعبّدة دون أية عوائق. وهو حق مكفول بكافة الشرائع والقوانين المحلية والدولية، ويجرّم من يمنع هذا الحق وما من شأنه تعزيز وحدة أراضي الدولة ومنع تقسيمها.
لا بدّ من توحيد الجهاز المالي للدولة، والعمل بالقوانين المالية التي كانت معمولًا بها قبل الحرب؛ حتى لا يتجذر التباين في السياسة المالية، ويصبح أمرًا واقعًا لدولتين داخل الدولة، ويعزز التقسيم الجغرافي للبلاد.
الانقسام المالي
مع استقرار نفوذ كلا الطرفين، الشرعية والحوثيين، على الجزء الذي يسيطر عليه بقوة السلاح، بدأ كلٌّ منهما يبحث عن الموارد المالية الكافية لتغطية نفقاته. فعمدت سلطة الحوثيين في صنعاء إلى تشكيل جهازها المالي، بحسب ما تراه، غيرَ مراعية للقوانين المالية للدولة. وبالعكس من ذلك، السلطة الشرعية، أعلنت التزامها بالقوانين المالية للدولة، باعتبارها سلطة شرعية معترفًا بها دوليًّا، إلّا أنّ غيابها عن الواقع وتعدّد ولاءات مكوناتها، قد أدّى إلى انهيار الجهاز المالي للدولة، وتوزعت الأوعية الإيرادية لها بين كيانات مختلفة، كلٌّ يسيطر على ما يقع بين يديه من الموارد المالية للدولة. وعلى هذا، فقد صار في الدولة جهازان ماليان وسياستان مختلفتان مع انفلات الأوعية الإيرادية للدولة وانتشار الفساد، ونهب للأموال العامة، ويسعى كل طرف لتوسيع نطاق موارده المالية بعيدًا عن الأطر الرسمية لقنوات الجهاز المالي للدولة. وكلُّ ذلك أدّى إلى ظهور نظامين ماليّين كلٌّ له سمات وخصائص مختلفة عن الآخر. الأمر الذي يعزّز اتجاه تقسيم الدولة إلى شطرين. ولمنع ذلك، فلا بدّ من توحيد الجهاز المالي للدولة والعمل بالقوانين المالية التي كانت معمولًا بها قبل الحرب، حتى لا يتجذّر التباين في السياسة المالية، ويصبح أمرًا واقعًا لدولتين داخل الدولة، ويعزّز التقسيم الجغرافي للدولة.
الانقسام المصرفي
مع بداية الحرب في عام 2015، توقفت إيرادات الدولة للبنك المركزي في صنعاء، واستمرّت سلطة الأمر الواقع في صنعاء، تنفق من الأرصدة المالية دون تعويض؛ الأمر الذي أدّى إلى أن تنتهي أرصدة البنك المركزي، وتفقد الدولة قدرتها على تمويل عمليات الاستيراد والوفاء بالتزاماتها المالية والخدمية. وأدّى ذلك إلى توسيع المجال للقطاع الخاص؛ يتصرف بعشوائية دون أيّ تدخل من قبل الدولة، كما فقدت البنوك قدرتها المالية لتلبية طلبات المُودِعين. إذ فقدت أرصدتها في البنك المركزي، ومِن ثَمّ فقد توقف البنك المركزي عن دفع رواتب الموظفين، وكذا أرصدة البنوك التي كانت تشكّل نشاطها المصرفي. وأدّى ذلك إلى إفلاس البنك المركزي، وتجميد حسابات ودائع عملاء البنوك. الأمر الذي ترتب عليه أن يعلن الرئيس عبد ربه نقل وظائف البنك المركزي من صنعاء إلى عدن، بعد أن تم إعلانها العاصمةَ المؤقتة لسلطته المقاومة لانقلاب صنعاء، إلّا أنّ البنك المركزي في صنعاء، ظلّ يمارس نشاطه بصفته بنكًا مركزيًّا، وفي الوقت نفسه اعتبر بنك مركزي عدن، البنكَ المركزي التابع للسلطة الشرعية.
وبرغم أنّ البنك المركزي في عدن تم الاعتراف به بنكًا مركزيًّا للدولة، ويتلقّى دعمًا إقليميًّا ودوليًّا، ويمسك برمز التحويلات الدولية (سويفت)، فإنّه لم يحقّق نجاحًا في السيطرة على الجهاز المصرفي والسوق النقدية، ومن ثَمّ اعتبر الجهاز المصرفي منهارًا بفرعيه، وله مركزان وسياستان نقديتان؛ إحداهما معمولٌ بها في مناطق نفوذ سلطة صنعاء، والأخرى معمولٌ بها في مناطق نفوذ سلطة عدن.
وزاد على ذلك أن قام البنك المركزي في عدن بإصدار فئة نقدية جديدة لمواجهة نفقات الدولة، وأهمّها الرواتب والأجور لموظفي الدولية. وقوبل ذلك بمنع تداول هذه الطبعة في مناطق نفوذ صنعاء، واستمرار التداول بالطبعة القديمة رغم تهالكها، وفي الوقت نفسه، فرض سعر صرف للعملات الأجنبية في السوق النقدية عند مستوى ثابت تقريبًا في صنعاء والمناطق التابعة لها، وفي عدن تم تحرير سعر صرف الطبعة الجديدة في السوق النقدية، مع بقاء أسعار صرف متعددة خارج السوق. وأدّى ذلك إلى انقسام كليّ للجهاز المصرفي اليمني بين صنعاء وعدن، وتعقّدت عمليات التبادل التجاري والتحويلات النقدية من منطقة لأخرى. حيث أصبح في الواقع عملتان بسعر صرف مختلف وجهازان مصرفيان يتجاذبان النفوذ على وحدات الجهاز المصرفي إلى أنّ رسخ العمل بنظامين مختلفين وسياستين نقديتين. وكلُّ ذلك قد أدّى إلى انهيار الدورة الاقتصادية على مستوى الدولة، واشتداد المعاناة الإنسانية للمواطنين في عموم محافظات اليمن، وظهور خطر تقسيم البلاد إلى دولتين. ولن تنتهي تحديات هذا الانقسام إلا بتوحيد البنك المركزي والعملة الوطنية والجهاز المصرفي من هذه الزاوية.
الخلاصات الثلاث
ونستخلص ممّا سبق، أنّ اليمن تواجه خطر التقسيم إلى دولتين، وأنّ مواجهة هذا الخطر تستدعي من كافة القوى الوطنية التي يهمّها الحفاظ على الوحدة اليمنية، سواء الممسكة بالسلطة في صنعاء أو عدن أو غيرهما من القوى السياسية والعسكرية، أن تسرع لمواجهة هذا الخطر، من خلال ما يلي:
- فتح جميع الطرق والمعابر المحلية والدولية، برًّا وبحرًا وجوًّا، دون أيّ عوائق.
- توحيد الجهاز المالي للدولة؛ ويمكن ذلك من خلال تشكيل لجنة مالية مشتركة من حكومتي صنعاء وعدن، مهمتها توحيد عمل الأجهزة المالية للدولة في عموم الأجهزة الإيرادية، وفقًا للآلية التي كانت معمولًا بها قبل الحرب، وبالأنظمة والقوانين المالية الخاصة بالجمهورية اليمنية. مع أهمية منع التدخل السياسي والعسكري في إدارة الجهاز المالي للدولة؛ المتمثل باللجنة المشتركة، وكافة الأوعية الإيرادية للدولة.
- تشكيل مجلس إدارة مشترك من كلا البنكين (بنك مركزي صنعاء، وبنك مركزي عدن)، بحيث يتولى هذا المجلس توحيد السياسة النقدية للدولة والإشراف على تدفق موارد الدولة من أوعيتها الإيرادية لفروع البنك المركزي في جميع المحافظات، وكذا الإنفاق على الرواتب والأجور والنفقات التشغيلية لأجهزة الدولة المدنية، وكذلك رواتب أفراد وزارتي الدفاع والداخلية وتشكيلاتها العسكرية والأمنية التابعة لكلٍّ من حكومتَي صنعاء وعدن. مع التقيد بعدم الإنفاق على أية قضايا أخرى، حتى تنتهي الحرب ويتحقق السلام ويعاد بناء الدولة.