كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحًا حين وصلنا إلى مدرسة "علي بن أبي طالب"، في منطقة "البعرارة" شمال مدينة تعز، الواقعة تحت سيطرة الحكومة المعترف بها دوليًّا، وذلك لرصد معاناة النازحين القادمين من منطقة كيلو 16 في الحُديدة (شمال غربي اليمن)، التي سحقتها الحرب وسحقت معها منازلهم وكل ممتلكاتهم عام 2017، الأمر الذي جعلهم يتخذون من هذه المدرسة مأوًى لهم منذ ذلك الحين.
بدت عليهم ملامح أمل وفرحة حين رأوا أحدًا، كما قالوا، لأول مرة يزورهم ويستطلع أوضاعهم، ظنًّا منهم أننا نتبع إحدى المنظمات الإغاثية، لكن بمجرد أن أخبرناهم أننا صحفيون، انتابهم شعور حزن وإحباط لمعرفتهم تمامًا بأنّ الصحفيين ليس بإمكانهم أن يقدموا لهم أي مساعدات مادية؛ ومع ذلك لم يتوانوا في التفاعل وشرح معاناتهم التي يعيشونها وإيصال أصواتهم وما يكابدونه من معاناة وحياة قاسية، إلى كل المعنيين ومن يهمّه أمر نازحي الحرب في اليمن.
أسر عديدة من النازحين القادمين من محافظة الحُديدة، يصل عددها إلى 18 أسرة تنتشر داخل الغرف الدراسية (الفصول) في هذه المدرسة، وعلى درج سلالم طوابق هذه المدرسة المكونة من 3 طوابق، حياة مأساوية كما يصفها أحد النازحين مفيد (35 سنة)، الذي يشير إلى ما يقاسونه من معاناة، ففي هذا الطابق أو الدور من المدرسة، وهو الطابق الثالث من المبنى على كل الصاعدين إلى السطح المرور فوق فراش نومهم في هذا المكان.
مرام وروان، طفلتان لا تتعدى أعمارهما 3 سنوات، ينَمْنَ عند أقدام والديهما في المكان الفاصل بين "السلالم"، أما ابنهما الأول فقد غادر الحياة فور خروجه من بطن أمه بسبب تعسر الولادة.
تقول أم مرام لـ"خيوط": "تعسّرت ولادتي الأولى، ولم أتمكّن من الوصول إلى المستشفى؛ كوننا نازحين في هذه المدرسة، ولا نملك أجرة المواصلات أو أجرة المستشفى وتكاليف العلاج"، تصمت لدقائق ثم تشير بيديها إلى الدرجة الثالثة من السلم الذي يعيشون فيه، وتقول: "هنا مات طفلي الأول".
عجزت أم مرام عن مواصلة الحديث، فواصله زوجها (مفيد) قائلًا: "أنا عاطل عن العمل تمامًا منذ أن أتينا إلى هنا، حاولت جهدي البحث عن عمل يوفر لنا قوت يومنا، بلا فائدة، أشتغل يومًا واحدًا في نقل الأحجار أو الحديد، وأظل شهورًا بلا عمل".
تتمنى أمّ مرام الحصول على ماكينة خياطة وقماش وبعض الأدوات، لتعمل في مجال الخياطة، وتوفير ما أمكن من احتياجاتهم المعيشية، كونها تجيد هذه المهنة منذ الصغر.
ازدحام شديد
في الطابق الأول، يبدو المكان مزدحمًا بالنازحين، ففي فصل واحد تسكن فوزية مع ثلاثة من أبنائها وزوجة ابنها وحفيدها، أي أسرتان تفصل بينهما ستار من قماش. تقول فوزية لـ"خيوط": "طيلة خمس سنوات ونحن نكافح للحصول على لقمة العيش، نناشد المنظمات الإنسانية والإغاثية وفاعلي الخير الالتفات لحالنا".
تعيش هذه المرأة، النازحة من الحُديدة والمتوفَّى زوجها، في غرفة دراسية (فصل) بمدرسة علي بن أبي طالب وجعين؛ وجع النزوح، ووجع رحيل زوجها الذي تُوفِّي قبل سنة فقط جراء إصابته بمرض الفشل الكلوي وتتحمل بمفردها مسؤولية الأسرة في أرض الشتات والنزوح، بعيدًا عن ديارها ومنطقتها.
تعاني فوزية من عدة أمراض، مثل روماتيزم القلب والقولون العصبي، وضعف النظر، والكثير من الأمراض المزمنة، الناتجة عن الحياة الصعبة التي تعيشها في هذه المدرسة، علاوة على ذلك بدت هذه المرأة بحالة نفسية غير مستقرة، ظهر ذلك من خلال حديثها المتقطع في مسارات مختلفة ومشتتة.
تتابع حديثها: "أولادي الصغار بعمر 10 و12 عامًا حالتهم النفسية غير مستقرة، ويعانيان من ضعف في التركيز وصعوبة في الفهم، وبحاجة للكشف والفحوصات والمعاينات الطبية، فقد عاشا طفولة مؤلمة بدون أب".
تتمنى فوزية أن يحصل ابنها أنس على عمل في محل تجاري لإعالة أسرته، بدلًا من انتظار صدقات فاعلي الخير ومنظمات الإغاثة، مع مراعاة أنه يعاني من الربو.
مآسٍ في فصول
في فصل مجاور، تعيش أسرة سميرة (40 سنة)، التي انتقلت إلى الفصل (غرفة) داخل المدرسة منذ وقت قريب، بعد أن كانت تسكن مع طفلتها وعمها المسن في "سُلَّم" المدرسة.
تعيش هذه المرأة، النازحة من الحُديدة والمتوفَّى زوجها، في غرفة دراسية (فصل) بمدرسة علي بن أبي طالب وجعين؛ وجع النزوح، ووجع رحيل زوجها الذي تُوفِّي قبل سنة فقط جراء إصابته بمرض الفشل الكلوي، وتتحمل بمفردها مسؤولية الأسرة في أرض الشتات والنزوح، بعيدًا عن ديارها ومنطقتها.
تبّنت سميرة ابنة أخيها التي تعاني من تشوهات خلقية منذ ولادتها في فترة سابقة حين كانت في الحُديدة وبحال ميسور، إذ تعاني الطفلة من تشوهات خلقية، وللآن ما تزال نوبات التشنجات (شحنات كهربائية في الدماغ) تنتابها بشكل مستمر.
تتمنى سميرة الحصول على "برّاد آيسكريم" صغير محمول، لتتمكن من العمل وإعالة أسرتها، كونها كانت تعمل "بائعة آيسكريم" وحالتهم ميسورة قبل النزوح.
تشكو أسر نازحة في هذه المدرسة من عدم اهتمام المنظمات الإغاثية بهم، ولم يلتفت لهم أحد، سواء من الجهات الرسمية أو المنظمات المحلية والدولية، ليتركهم الجميع ينامون جياعًا على أراضٍ عارية.
في المقابل، يؤكّد وليد عبدالوهاب، أحد المشرفين على النازحين، لـ"خيوط"، أنّ النازحين يعانون من مأساة إنسانية مزدوجة، فقد تركوا بيوتهم وممتلكاتهم، لكن الملجأ الذي فرّوا إليه كان أكثر قسوة.
يستطرد وليد حديثه بالقول: "حين قدم النازحون إلى محافظة تعز تم التنسيق مع مدرسة علي بن أبي طالب من قبل مبادرة إنسانية وجهات مختصة لتوفير مركز إيواء لهم، يتضمن عدة فصول جانبية من المدرسة على أن يمكثوا فيها فترة محدودة ثمّ سيتم التنسيق مع منظمات ومؤسسات المجتمع المدني لتوفير شقق سكنية لهؤلاء النازحين، لكن للأسف مرت خمس سنوات وهم على هذا الحال"، ويناشد المنظمات المعنية استهدافهم في مشاريعهم الخيرية والإغاثية التي يوضح أنّ استجابتها محدودة للنازحين في هذه المدرسة بتعز، والذين يرزحون تحت وطأة التهميش والفقر والكثير من الأمراض الناتجة عن قساوة الحياة التي يعيشونها.
* تحرير خيوط