تعتبر الحرية من القيم الكبرى في حياة الإنسان وفي تاريخ البشرية، فبعد قيمة الحياة تأتي قيمة الحرية، حيث لا تستقيم الحياة بذاتها دون التمتع بالحرية والحفاظ عليها.
فالحرية الدينية أو حرية الاعتقاد من أهم الأشياء التي ألهمها المولى (عز وجل)، لكل إنسان من مخلوقاته، بدءًا من خلق آدم (عليه السلام)، ونهاية بما تعلمناه وقرأناه في القرآن الكريم، فيما يخص حرية الاعتقاد وحرية الإيمان أو الكفر، يقول تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:9]، وهذه الحرية المطلقة أعطاها المولى سبحانه وتعالى لكل البشر على السواء، وليس من حق أي إنسان أن يتدخل في علاقة إنسان آخر بربه، لأنه (أي الإنسان) هو الذي يختار بنفسه ما يعتقده وما يؤمن به وما يسلكه من طريق في حياته، وفي المقابل سيحاسب على ذلك ويكون مسؤولًا عما فعل هو نفسه، فلم يعطِ الله أي إنسان سلطة دينية على أخيه الإنسان مهما علا كعبه في الدين، فالرسول ليس بمسيطر ولا بجبار ولا بوكيل وما عليه إلا البلاغ، نعم ليس من حق أي إنسان أن يتدخل في علاقة إنسان آخر مع الخالق جل وعلا، كما ليس من حق أي الإنسان أن يغضب أو يتحسر أو يدَّعي هداية الناس، فيتخطى هذه المرحلة إلى تكفيره أو تفسيقه أو تنجيسه، فالرسول أمره الله سبحانه أن يقول: {قل ما كنت بدعًا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن اتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين}، فكيف لإنسان أن يغضب، بحجة الخوف على أخيه أو بدعوى الدفاع عن الدين الإسلامي الذي تكفل المولى عز وجل بحفظه إلى قيام الساعة، بل وجعل الدنيا دار ابتلاء، وقال أعز من قائل: {قل كلٌّ يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلًا} [الإسراء:84]، وليس هناك أفضل من قول الله (جل وعلا) لخاتم النبيين في القرآن، يوضح له أن من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وينهاه أن يتحسر على الكفار، قال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر:8]، وهذا هو حال خاتم النبيين، النبي المرسل من رب العالمين، فهل من حق الإنسان العادي أن يتعدى ويتخطى مسؤوليات الأنبياء في الدعوة، ويتدخل في حياة وشؤون وعقائد الناس؟
ولذلك يجب على كل إنسان أن يحترم حرية كل من حوله من الناس مهما اختلفوا معه في الفكر أو المعتقد أو العِرق أو الدِّين، وليس كلٌّ منّا مطالب بتقديم كشف حساب عن كل تصرفاته وسلوكياته وعباداته لكل الناس، حتى يشهدوا له بالإيمان كما يدعون، ولكن مرجع ذلك كله لله الواحد القهار؛ فهو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وهو أيضًا يحاسب ويحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ولذلك خصص سبحانه وتعالى يومًا عظيمًا لذلك سماه يوم الحساب، سيحاسب فيه الجميع ويحكم بينهم فيما هم مختلفون فيه، يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج:17].
ولذلك ليس من حق أي إنسان أن يكفّر إنسانًا آخر لمجرد أنه اختلف معه في الرأي، أو اختلف معه في فهم أمر من أمور الدين، أو اختلف معه في الحديث عن أحد القضايا العقيدية، أو اختلف معه في الطريقة التي يسلكها كلٌّ منهما في الحياة، فكل هذا ليس مبررًا؛ لأن يتهم أحدهم الآخر بالكفر والردة والعمالة ومعاداة الإسلام، حتى لو كانت المبررات -كما قلت- بحجة الدفاع عن الدين، أو خوفًا على الشخص من الخروج عن الدين؛ لأنّ حرية الاعتقاد مكفولة للجميع، وإذا رجعنا للقرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لنضرب منه أمثلة قرآنية، أثبت فيها أن رب العزة (جل وعلا) قد كفل حرية الاعتقاد لكل البشر، فسنجد أمثلة عدة تجسد لكل صاحب عقل أن الإيمان والكفر حرية وعلاقة خاصة جدًّا بين كل إنسان وخالقه، وليس من حق أي مخلوق أن يتدخل فيها، وتبين الآيات القرآنية أيضًا أنّ الحساب أمرٌ خاصّ بالخالق (جل وعلا)، وليس من حق إنسان أن يحاسب إنسانًا في هذه الدنيا، فالدنيا دار ابتلاء وامتحان، والآخرة هي دار الجزاء، إلا أنّ استغلال الدين في الأهواء السياسية قد حوّل الدنيا إلى دار جزاء عبر فقهاء السلاطين، فنسخوا آيات الكتاب المبين بأقوال رجال بوالين على أعقابهم، وحرفوه بروايات أسموها أسباب النزول والتفاسير التي أعدها أحمد بن حنبل أن لا أصل لها، وتحت رواية حدثوا عني ولو بآية وعن أهل الكتاب ولا حرج، وقعدوا شرائع من كان قبلنا فقالوا شرع من قبلنا شرع لنا فيما لم يرد فيه نص، وأخطر تلك الموضوعات حديث عكرمة مولى ابن عباس، الذي كذب على مولاه فقال إنه أوتي بزنادقة إلى علي بن أبي طالب فأحرقهم، فقال ابن عباس: أما أنا فكنت سأقتلهم عملًا بحديث الرسول: "من بدل دينه فاقتلوه"، والحديث مقدوح في سنده ومتنه، ويتعارض مع جوهر الإسلام، ومع أكثر من ثلاث مئة وخمسين آية تؤكد حرية الاعتقاد، فضلًا عن أن حكم الزنديق لدى كل الفقهاء ليس القتل، وأن ابن عباس الذي مات الرسول وهو لا يزال طفلًا ليس بأعلم من علي الذي قال عنه أخوه عمر: "لا عاشني الله في أرض ليس فيها أبو الحسن"، كما أنّ الحديث يشمل أي رجل من دين آخر دخل الإسلام، لأنه غيّر دينه وأسلم! ورحم الله أبا سفيان الثوري، فقد كان يوبخ غلامه أمام الناس، فيقول له: "إياك أن تكذب عليّ كما كذب عكرمة على مولاه ابن عباس"، كما أنّ رجال الجرح والتعديل عابوا على عكرمة أخذ الجوائز من الأمراء!.
فضلًا عن أنّ الله قد نص على حكم المرتد، فقال: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة} [البقرة 217]، بل قد جعل الحب بدلًا عن الردّة، فقال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} [المائدة 54]، كما أنه لا يوجد دين صرح بأنه لا إكراه في الدين، بل قال بحرية الكفر، فقال: {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف: 29].
واختتم بقوله سبحانه: {إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلًا} [النساء: 137]، فتأملوا كم مرة كفر وكم مرة آمن ثم ازداد كفرًا ولم يُقتَل، كما زعم عكرمة وفقهاء السلاطين.