عصر إلكتروني وتسليع للفن والثقافة

طغيان الجوانب الشعبوية على اختيارات الأفراد
د. حاتم الصكر
January 6, 2025

عصر إلكتروني وتسليع للفن والثقافة

طغيان الجوانب الشعبوية على اختيارات الأفراد
د. حاتم الصكر
January 6, 2025

ببدء هذا العام الجديد، يكون العالم قد دخل نهاية الربع الأول من القرن الحادي والعشرين. ألفية جديدة سينطوي منها ربع قرن، تسارعت في أيامه وسنينه الأحداث، ولامست وجود الإنسان وثقافته وأفكاره. وألقت ظلالها على مفردات التعامل والتداول والإبداع أيضًا. قد لا يُحسب ذلك أمرًا سالبًا في قياس التحديث والتطور، فلا تجري المياه ذاتها في النهر، إنها تتغير كل لحظة، وكذلك الحياة.

لقد ازداد العيش سهولةً ويسرًا مع المخترعات وما يدخل الحياة من وسائل لجعلها أكثر راحة ومتعة وجدوى، في معالجة الأدواء والفقر والجهل، وفي النواحي الأخرى في التعليم والصحة والنقل والرياضة والمعاملات اليومية ومناحي الحياة الأخرى.

ولكن من يمعن النظر في دلالات المتغيرات وإجراءات تسييرها في يومياتنا، سيرى أنها ليست كلها في صالح الإنسان؛ ثمة دومًا تغيير لا يكون بالضرورة ملائمًا لسيرورة الفكر والثقافة، وخصوصية الفرد، وإنسانيته، وقدرته على الإبداع.

لقد جنى بعضها على الأيدي العاملة، مثل الأتمتة المفرطة، والتعامل عن بعد عبر الشبكات والمواقع. إنها لا تتيح أحيانًا الحرية للفرد لمعاينة ما يريد اقتناءه؛ فذلك كله مسبوق بعصف دعائي وزخم ترويجي، يستثمر في فضول الإنسان وطغيان الجوانب الشعبوية على اختيارات الأفراد، والتجويق الجمالي في متابعة الموضة والتقليد للسائد.

ها قد دخلَت العالمَ الرقمي فنونٌ وآداب لم تعهد الوسائط الرقمية والإلكترونية عامة إلا كوسائل لتوصيل الأعمال بيسر وسلاسة ووضوح، وباستخدام تقنياتها طباعيًّا وبصريًّا، لكن وظيفتها الوسائطية انقلبت بحدّة لتغدو تلك الرقميات غاية في حد ذاتها.

لكأنها ردة فكرية وعقلية شهدتها الألفية الثالثة بتسارع واضح. حتى غدت الجوانب الجمالية مثلًا تخضع للتشبّه بالمشاهير في الهيئة والمنظر، وما يجسده الإفراط في عمليات التجميل، وتبديد العفوية والفطرة والطبيعة البشرية، فضلًا عن شيوع التحولات في الجنس، والعبث بالجينات، وتصحيح الكينونة وترْكِها لأهواء المتاجرين بالعقاقير والموضات والشكليات الكمالية.

ولكنّ ما أصاب الثقافة والفنون والآداب يدعو للتأمل والتوقف عنده، لمعاينة سيرورة الإبداع والخلق والتجديد، وما يعتوره من تشويه وتسطيح وتسليع، هبطَ بمعدلات الإبداع، وأضرّ بعملية التأليف والقراءة معًا، وبالفن ومتلقّيه كذلك.

ها قد دخلت العالمَ الرقمي فنونٌ وآداب لم تعهد الوسائط الرقمية والإلكترونية عامة إلا كوسائل لتوصيل الأعمال بيسر وسلاسة ووضوح، وباستخدام تقنياتها طباعيًّا وبصريًا، لكن وظيفتها الوسائطية انقلبت بحدّة لتغدو تلك الرقميات غاية في حد ذاتها.

وذلك ما دعا كثيرٌ من المهتمين بالتفاعل النصي والتلقي ووسائل النشر وطرقه وهيئة المنشور الخطّية وأثرها في القراءة، أن ينبهوا إلى خطر الوسائط المقصودة لذاتها، وأنها لا تحل محل الكتاب الورقي، ولا الفن البصري المعروف كعقْد بين الفنان ومتلقيه، ورسالة ذات شكل ومحتوى متلازمين.

إن العمل في اللوحات الرقمية مثلًا، وتحوير الأعمال الكبرى المعروفة، أو تشويهها بإضافات وتحويرات عبر الرقميات المتاحة، لا تنتج فكرًا جماليًّا حديثًا بالمعنى الفلسفي والاجتماعي للتحديث على مستوى إنتاج العمل أو تداوله، وكذلك محاولة طغيان الرقمي في الكتابة وإنتاج نصوص ترابطية أو تشعبية، وإدخال القارئ في لعبة برمجية يعاين بها الأعمال بمداخل ومخارج يصطنعها، أشبه بلعب الأطفال. 

سنعود للتذكير بغزو الحمقى عبر الوسائط، كما وصف أمبرتو إيكو تسيد الكتابات المتعجلىة في وسائل التواصل، وكان قد سبقه منظّرون كثر كذلك. فروبرت راي في مقالته (ما بعد الحداثية) في موسوعة الأدب والنقد، ينقل عن والتر أونج قوله إن "العصر الإلكتروني ربما يعادل مرحلة ثانوية من الشفاهية، لا يعتمد فيها التصور والفهم على مجردات الكتابة، بقدر اعتماده على الحكايات المروية والصور التوضيحية ومغامرات الأبطال، حيث المؤثرات السمعية والبصرية تسلب من المتلقي قوة التركيز الذهني".

ولا يمكن فصل الدعوات المحمومة والمستغرقة في تغيير أدبية النصوص لصالح الوسائط وتوحش المخترعات، عن التبدلات التي جاءت بها تيارات ما بعد الحداثة للقضاء على جماليات النصوص وشعريتها الخاصة.

كان للأعمال المفاهيمية دلالات جمالية ضمن الدعوات إلى الزهد بالعمل التقليدي، توافقًا مع الأحداث الكبرى والتحولات في العالم بعد الحرب الكونية الأولى وما تلاها. وكذلك الرفض والاعتراض على السائد والتقليدي، ومثال ذلك نافورة دوشامب، حيث كان العمل مقصودًا.

لقد خرجت الأنواع الأدبية عن مسارها وغاياتها وطرق انتظامها كخطاب، ولنا من الأمثلة الواضحة ما جرى في كتابة السيرة الذاتية التي تراجَعَ حتى منظّروها عن اشتراطاتها المتصلة بقيمة الفرد السيري، وجدوى الكتابة السير ذاتية، فقد تم توسيع مداها، ليكتبها حتى الأطفال في يومياتهم المدرسية.

وفي الفن، تهدم الكثير من مستلزمات الحرفة الأولية، وجرى تهديم اللوحة والمبنى التشكيلي، أو انعدام موضوعه حتى على سبيل التجريب والتجريد المشروعَين.

وتشوه فهم المقصود بالفن المفاهيمي المعتمد على الفكرة، والخروج من اللوحة التقليدية، لتوصيل الأفكار، أو المفاهيم التي يريد العمل توصيلها.

وغدت بعض الأعمال مدعاة للسخرية، وتمثل انحطاطًا في مقاييس التذوق الجمالي الذي يقترن بالفنون عادة.

ولعل أحدث الوقائع الشعبوية والسطحية والمثيرة للاستهجان، ما جرى لعمل النحات الإيطالي  ماوريتسيو كاتيلان المعنون (كوميدي)، وهو عبارة عن موزة حقيقية معلقة بشريط رمادي لاصق على جدار. والعنونة هنا تشي بقصد الفنان، الذي لم يتنبه له بعض المقتنين وجامعي الأعمال استنادًا إلى تداولها التجاري أو لمجرد الشهرة والأضواء الإعلامية. وهذا ما عبّر عنه المقتني الشاب الذي دفع أكثر من ستة ملايين دولار هذا الشهر ثمنًا للعمل، ومن ثم قام بأكلها في مؤتمر صحفي معبّرًا عن تقديره للعمل، وإمكان تكرار الموزة وتبديلها بأخرى، بحسب تعليمات المزاد الذي قام ببيعها.

وللموزة قصة طويلة؛ فقد قام النحات الإيطالي كاتيلان بصنع نماذج منها في سنوات سابقة كمنحوتات برونزية، لكنه في نوبة خيال أو قصدية فكاهية أو نقد للتسليع والتجارة بالفن، كما فسَّر بعض النقاد، قام بوضع موزة حقيقية ليصدم مشاهدي معرضه عام 2019، حيث عرض في ميامي بولاية فلوريدا أول موزة ملصوقة بالشريط على جدار وبيعت حينها بمئة وعشرين ألف دولار.

الغريب في الأمر هو تلقي هذا العمل، فإنه رغم تهافته، لم ينَل التقويم النقدي المناسب، بل وصفت صحيفة الغارديان هذا العمل بأنه عمل عبقري مشكوك فيه. ونوهت بأنه ربما أراد توجيه نقد طبقي، وصُنْع مفارقة ساخرة للعقلية التجارية التي تبحث عن اقتناء الغريب وتسويقه، لا لغرض فني أو اهتمام بجمالية العمل، بل لأغراض تجارية صرف، ولم توضح الصحيفة مكمن العبقرية في العمل!

حتى في حال كهذا، يظل العمل موضع استهجان؛ لأنه يرسّخ سابقةً تكرس هذا النوع من التناول السطحي الفج، وتسويقه تحت مسمّى الفن المفاهيمي القائم على أسس مختلفة تمامًا، كما هو معروف. ويتم تجاهل المحتوى الفكري والبعد الخيالي والسياسي والفلسفي في الأعمال المفاهيمية والحركية لصالح مثل هذه الأعمال. وقد قام البائعون بوصف عمل الموزة بأنه فن بسيط، لكنه يدعنا نفكر في دلالاته. ولا نفهم كيف يمكن أن يكون التفكير بجوهر العمل بعد أن أكله مقتنيه بعد دقائق من شرائه، أو في عبث الزوار المشاهدين به، وانتزاعه مرات من الجدار. 

سياقيًّا، كان للأعمال المفاهيمية دلالات جمالية ضمن الدعوات إلى الزهد بالعمل التقليدي، توافقًا مع الأحداث الكبرى والتحولات في العالم بعد الحرب الكونية الأولى وما تلاها. وكذلك الرفض والاعتراض على السائد والتقليدي. ومثال ذلك، نافورة دوشامب حيث كان العمل مقصودًا، جاء بشكل مبولة حقيقية، عرضها بعد أن رُفضت في معرض جماعي، فقدَّمها بوضع أفقي وبتوقيع صانعها، لتكون علامة رفض مفاهيمي لفكر السنوات الأولى من القرن العشرين.

سيكون لمثل هذه الموضات والفرقعات دويّ مؤقت لغرابتها وحسب، ولكن الأعمال لن تكون ذات قيمة في تاريخ الفن وحداثته ورسالته وجمالياته.

•••
د. حاتم الصكر

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English