رفع الوطنيّون والتقدميّون اليمنيّون، ومن مدينة عدن شعار: اليمن الديمقراطي الموحد، في خمسينيات القرن الماضي، وتبلور المشروع الحضاري لحلم اليمن الديمقراطي الموحد لاحقًا، في أدبيات الفقيد عبدالله عبدالرزاق باذيب ورفاقه، وتجذّر المشروع ونضج بالتدريج في أدبيات القوى التقدمية، وسار على نفس النهج المثقفون الاشتراكيون وفي مقدّمتهم الفقيدان عمر الجاوي وأبوبكر السقاف وثلة كبيرة من المثقفين في الجنوب والشمال، وتحول هذا الحلم إلى نهج سياسي لنظام الحكم في الجنوب، وصار مطلبًا شعبيًّا لليمنيين، شمالًا وجنوبًا.
وكحدث تاريخي عظيم، استشعر اليمنيّون الفخر والاعتزاز بمنجز تحقيق الوحدة، وكانت مصدرًا للنهوض السياسي والاجتماعي، وتسيّد الروابط السياسية والوطنية التي حلّت محل الروابط العصبية؛ الأمر الذي أقلق القوى التقليدية ودفعها إلى الانخراط في الأحزاب السياسية مع الإعداد للانقضاض على المشروع الحضاري المتمثّل في الوحدة، وهو المشروع الذي به تحقّقت مصالحة بين اليمنيين في الشمال والجنوب، ووفّرت شروط الشراكة المتكافئة بين شمال اليمن وجنوبه كوحدتين سياسيتين، قامت عليهما الوحدة ولن تستمر إلا بهما.
"وعلى الرغم من مأساة التمزيق، ومن السلطات الاستبدادية الغالبة بالسلاح والعصبية، يبقى اليمن الديمقراطي الموحد الخالي من العنف والفقر والاستبداد حلمًا ينبغي ألّا يتنازل عنه الوطنيون اليمنيون، وعلى الأخص المثقفون اليمنيون"، على حد تعبير الدكتور/ علي محمد زيد، والاشتراكيون واليساريون اليمنيون معنيون بالدفاع عن الحلم، وإن كان حلمًا متعثرًا، حسب الأستاذ قادري أحمد حيدر، وهو حلم بدأ بالمخيال التقدمي وتعمّق به، وسيستمر بمثابرة المثقف الفردي والجماعي.
اليمن الديمقراطي مشروع لا يتوقف عند الوحدة فقط، حسب تعبير الدكتور/ أبوبكر السقاف، وهو شعار القوى التقليدية الدائم، وإنّما الوحدة مقرونة بمشروعها الحضاري: الشراكة في السلطة والثروة، والشراكة المتكافئة بين الجنوب والشمال، والدولة المدنية بمقوماتها الأساسية: التحديث والمواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، وذلك بتوفير شروط مغادرة النفق المظلم والأليم الذي جرَّد اليمن المشطر والموحد من قوته، وحجَّم دوره الإقليمي والدولي، وجرّده من عوامل القوة الحضارية والثروات المتوفرة والموقع الجيوسياسي الفريد كبوابة للشرق إلى أوروبا والربط بين قارتَي آسيا وأفريقيا، والتخلص من الفساد وإحلال تعايش المصالح والرؤى المختلفة محل الاستئثار والإقصاء، وتوسيع المشاركة في الحكم والتنمية، والاستفادة من عوائدها، وإعمال مبدأ تكافؤ الفرص والتوزيع العادل للسلطة والثروة من خلال لا مركزية الحكم، هذا هو المشروع الحضاري للوحدة اليمنية، وهو الذي رسمته وجسّدته اتفاقيات الوحدة ودستور الجمهورية اليمنية المستفتى عليه عام 1991م، واستكملت وثيقة العهد والاتفاق عام 1994م، نواقصه وسدت ثغراته.
ولما كان المشروع الحضاري للوحدة اليمنية: يمن ديمقراطي موحد، خيارًا شعبيًّا لا يمكن هدمه، وخاصة بعد أن تجذر بوفاق وطني جامع بصدور وثيقة العهد والاتفاق، وعقد مؤتمرات شعبية للإعلان عن التمسك به في مختلف المحافظات والمناطق، بما في ذلك المناطق القبَلية، لجأت القوى التقليدية في الشمال والجنوب، مدعومةً بجحافل الميليشيات القبَلية المتحفزة للفيد ومعها أكثر من ستين ألف عنصر تم استقدامهم من أفغانستان وينتمون إلى مختلف البلدان العربية، ومدعومة من دول الإقليم المختلفة: إيران والسودان والعراق وليبيا وسوريا وقطر ومعها دول عظمى كالولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، كل هذه القوى لجأت إلى إشعال حرب 1994م، وإيقاف المشروع باستخدام القوة. وبتغلب القوى التقليدية سعت إلى هدم المشروع الحضاري للوحدة من خلال التحلل من أحكام اتفاقيات الوحدة ووثيقة العهد والاتفاق، وإلغاء أهم أسس المشروع ومبادئه وشروطه في الدستور، ومن ذلك تغيير أهم المواد المتعلقة بنظام الحكم والتعددية الحزبية والسياسية، وخاصة في المادة (4) المتعلقة بأسس النظام الديمقراطي، والمادتين (5) و(6) المتعلقتين بأسس النظام القانوني والحقوقي، والمتضمنتين مبادئ دولة الحق والقانون، وعدد كبير من المواد التي تحقّق مبدأ الفصل بين السلطات وتوازن هيئات الدولة، واستبدالها بأحكام تركز السلطة في العاصمة وبيد رئيس الدولة.
المتتبع للوقائع السابقة والمصاحبة واللاحقة لحرب 1994، يجد أنّ أهداف تلك الحرب كانت تتمحور حول أهداف أربعة، تمثّلت في السعي لهدم القيم الكبرى للمشروع الحضاري للوحدة اليمنية، واتجهت الأهداف الأربعة نحو: إيقاف عملية بناء دولة القانون والمواطنة، وتعطيل عملية التحول الديمقراطي، وإلغاء مبدأ الشراكة بين الأطراف السياسية وبين الشمال والجنوب، ومنع التغيير والتحديث. ولتحقيق هذه الأهداف الأربعة، اتجهت الحرب نحو المحافظات الجنوبية التي لجأت إليها قيادات الحزب الاشتراكي الشريك في قيام دولة الوحدة للقضاء على الحزب حامل المشروع الحضاري للوحدة اليمنية وتدمير منجزاته في الجنوب، ونهب القطاع العام الذي تحقّق في ظلّ حكمه، وإلغاء أسس المشروع الحضاري في الدستور.
وبالحرب تمكّنت القوى التقليدية من إيقاف المشروع بتغيير الدستور وتعطيل اتفاقيات الوحدة ووثيقة العهد والاتفاق، لكنها لم تتمكن من القضاء على المشروع كفكرة أو حوامله السياسية المتمثلة في قوى الحداثة والمدنية التي استمرت في النضال من أجل تحقيق الحلم، وطرحت مسألة إصلاح مسار الوحدة وتحقيق مشروعها الحضاري، وحل القضية الجنوبية قبل أن ينقشع غبار الحرب، وذلك في شهر سبتمبر 1994م.
وظلّ الحزب في الساحة يقترح وحيدًا الحلول للقضية الجنوبية، وإزالة آثار الحرب، واستعادة شراكة الجنوب كطرف مكافئ للشمال، بما في ذلك، استعادة الأموال العامة والخاصة، وبفضل الصبر والمثابرة السياسية، تحوّلت القضية الجنوبية إلى شأن عام لكل الأحزاب والمكونات السياسية والمجتمعية اليمنية، وتضمنتها وثيقة مشروع رؤية للإنقاذ الوطني الصادرة عن الأحزاب السياسية والمنظمات المجتمعية عام 2009م، وفي وثيقة مخرجات مؤتمر الحوار الوطني الشامل، وفي الوثيقتين تجذّرت رؤية جامعة للمشروع الحضاري للوحدة اليمنية وبناء اليمن الديمقراطي الموحد.
وبهذين المشروعين وباندلاع الحراك الجنوبي وثورة 11 فبراير، أعيد الاعتبار للمشروع الحضاري للوحدة اليمنية: يمن ديمقراطي موحد، وتحقّقت الهزيمة لأصحاب مشروع الحرب، وتحقّق الانتصار للقوى المتمسكة بمشروع اليمن الديمقراطي الموحد في أحلك الظروف التي أعلنت رفضها لفرض الوحدة بالحرب، وكذا رفض نتائجها، وفي ذات الوقت، رفض إعلان فك الارتباط الذي ألقاه الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني، علي سالم البيض، في 21 مايو 1994م، وفي الوقت ذاته لم تستجب لضغوط المتغلبين في الحرب لفصل علي سالم البيض ورفاقه من عضوية اللجنة المركزية للحزب.
إذن، كان إعلان فك الارتباط إجراءً تكتيكيًّا في إطار استراتيجية إصلاح مسار الوحدة وبناء دولة اليمن الديمقراطي الموحد، طبقًا لأسس ومبادئ الدستور ووثيقة العهد والاتفاق، وهي الأسس التي صارت أكثر عمقًا في وثيقة مخرجات الحوار الوطني الشامل.
والقراءة المنصفة للظروف التي تم فيها إعلان فك الارتباط ومضامين الإعلان، تضع علي سالم البيض، على رأس الوحدويين اليمنيين من أصحاب المشروع الحضاري للوحدة اليمنية، وبناء يمن ديمقراطي موحد، فالإعلان تم في ظلّ اجتياح المحافظات الجنوبية وبقوى تقليدية تتقدّمها جحافل الجماعات الدينية، فكان إعلان علي سالم البيض لفك الارتباط، وبغض النظر عن صوابيته سياسيًّا وأخلاقيًّا من عدمها، فإنّ الإعلان كان ضرورة للدفاع عن النفس ومحاولة إيقاف الحرب، لكن الإجراء كان خطوة إلى الخلف لإيقاف الحرب والتقدم خطوات نحو تصحيح مسار الوحدة وتنفيذ اتفاقيات الوحدة والدستور ووثيقة العهد والاتفاق، فأحلك اللحظات ومواجهة الموت، لم تجعل علي سالم البيض، يعادي الوحدة ومشروعها الحضاري أو يعادي الجغرافيا التي ينتمي إليها مشعلو حرب العدوان وهم من الشمال والجنوب، بل أراد الحفاظ على الوحدة الوطنية والوحدة اليمنية ومشروعها الحضاري، إذ نص إعلان فك الارتباط في الفقرة (2) على أن: "تظل الوحدة اليمنية هدفًا أساسيًّا تسعى الدولة، بفضل التحالفات الوطنية الواسعة وتعزيز الوحدة الوطنية، إلى إعادة الوحدة اليمنية على أسس ديمقراطية وسليمة"، بل نص الإعلان على الحفاظ على أسس اليمن الديمقراطي الموحد: "يقوم النظام السياسي على أساس التعددية السياسية والحزبية ويعتبر دستور الجمهورية اليمنية هو دستور جمهورية اليمن الديمقراطية"، و"تعتبر وثيقة العهد والاتفاق أساس قيام وبناء الدولة اليمنية الديمقراطية، ونظامها السياسي والاقتصادي".
إذن، كان إعلان فك الارتباط إجراءً تكتيكيًّا في إطار استراتيجية إصلاح مسار الوحدة وبناء دولة اليمن الديمقراطيّ الموحد، طبقًا لأسس ومبادئ الدستور ووثيقة العهد والاتفاق، وهي الأسس التي صارت أكثر عمقًا في وثيقة مخرجات الحوار الوطني الشامل، وأبعد مدى للقضاء على تقاليد سلطة الفرد والمركزية واستبدالهما بالنظام البرلماني واللامركزية السياسية والإدارية والمالية، وصار الخيار المطروح هو خيار الفيدرالية، وإن كانت ثمة مسائل خلافية يمكن حلّها بالحوار، ومن ذلك، العمل على حلّ موضوع الأقاليم، والأخذ بالخيار الذي يجعل الشراكة بين وحدتين سياسيتين متكافئتين؛ أي بين الشمال والجنوب، أي خيار الأقليمين، إلى جانب التحديد الأوضح لتوزيع الثروة بين الأقليمين وفي إطار كلّ إقليم.
ومن المفارقات أنّ المشاركين في حرب العدوان يومئذٍ صاروا اليوم ضمن مكونات سياسية وعسكرية تحمِل الوحدة ومشروعها الحضاري، وما ترتب على ذلك العدوان من ظلم لسكان المحافظات الجنوبية، والحزبيين في الشمال والجنوب، ومع ذلك لا يزال الكثيرون منهم يتمسكون بحلم اليمن الديمقراطي الموحد، وبصبرهم سيستعيدون حقوقهم الوظيفية المدنية والعسكرية.
قد يقول قائل إنّ ما ورد في مخرجات الحوار الوطني الشامل ومسوَّدة دستور اليمن الاتحادي مجرد فكرة في الخيال، وهو قول ليس خاطئًا، لكن الفكرة هي من تصنع المستقبل، ولنا قدوة في آبائنا المؤسسين لفكرة المشروع الحضاري للوحدة اليمنية: يمن ديمقراطي موحد، فعندما طرحوا الفكرة كانوا قلة تتمتع بالخيال المبدع، وناضلوا من أجل هذا الحلم في ظلّ ظلام دامس، وتسيد الجهل والفقر والمرض وحكم نظام كهنوتي متخلف في الشمال وسلطات مشيخات بعثرت الجنوب إلى قطع صغيرة وجعلت اليمن بلا وزن بين الأمم، لكن مشروعهم تحقّق بتحرير الجنوب من التبعية الاستعمارية وتوحيده في جمهورية اليمن الديمقراطية، وتحقّق على مستوى اليمن في قيام الجمهورية اليمنية على أسس الشراكة والديمقراطية والمواطنة المتساوية وحقوق الإنسان، ومنع هذا التحول في المرة الأولى بحرب 1994م، وفي المرة الثانية بحرب 2014م، وقادت الثورة المضادّة في الحالتين نفس القوى التقليدية مع تغيير بعض الأشخاص، وهي القوى العسكرية والقوى القبَلية والجماعات الدينية، لكن خيار اليمن الاتحادي الديمقراطي هو خيار لواسع جماهير شعبنا اليمني في جنوبه وشماله، وسيكون النصر حليف هذا الخيار، وإن بدا متعثّرًا بفعل الانقلاب الذي بإنهائه واستعادة مؤسسات الدولة، والعودة إلى العملية السياسية وحل كافة القضايا السياسية، وفي مقدّمتها القضية الجنوبية- سيتحقّق مشروع اليمنيّين الحضاري.