تحصد شبكات وحقول الألغام التي يزرعها فرقاء الصراع اليمنيون في ريف ومدن اليمن ككل، أرواح مئات الآلاف من مدنيي البلاد -غير المشاركين في الاقتتال- بين الحين والآخر بلا ذنب لهم، عدا محاولتهم البحث عن مصدر للعيش يساعدهم على مجاراة الواقع المتأزم والتأقلم مع الظرف الاقتصادي العسر والخانق عبر حراثة الأرض أو السفر عبر مناطق تعيش أو عاشت معارك عسكرية نحو المحافظات الأخرى، كطريق وحيد فرضته الحرب.
يفقد المدنيون أرواحهم، وتارة أخرى أطرافهم، وفي كلتا الحالتين هي فاجعة وخسارة لا يجبرها الزمن.
منذ بَدء النزاع في اليمن سنة 2014، وثّقت منظمة مواطنة لحقوق الإنسان أكثر من 300 واقعة انفجار ألغام. كما وثّقت انفجارات ناتجة عن أجسام، متفجرة حسب الإحاطة التي قدمتها رئيسة المنظمة، رضية المتوكل، أواخر يناير/ كانون الثاني من السنة الجارية.
وتتعرض أعداد كبيرة من المدنيين لحوادث الألغام، سواء في الأرياف أو المدن التي شهدت أعمالًا عسكرية بين أطراف الصراع، فقدوا على إثرها قدرتهم على مواصلة الحياة بشكلها الطبيعي وباتوا عاجزين عن الحركة والمشاركة في مسؤوليات أسرهم التي فاقمت الأوضاع الراهنة ظرفها المعيشي الاقتصادي والتعليمي والصحي والأمني.
"صعدت على متن حرَّاثتي متجهًا للحقل القريب من منزلي، عندما أوشكت على الانتهاء من حرث الحقل، سمعت صوتًا مدويًا، ولم أشعر بشيء للحظات، فتحت عيني غير مدركٍ ما حدث لي، حاولت النهوض من كرسي الحَرّاثة، لكني وجدت قدمي تلتوي وتنزف بغزارة، وفقدت الوعي حينها على الفور".
ويرى حقوقيون أن حلحلة قضية الألغام التي تشكل خطرا على المدنيين في مناطق مختلفة من اليمن يجب أن يلتزم بها جميع أطراف النزاع المسلح بالبلاد من خلال الالتزام بعدة مسؤوليات تتمثل في تسليم الأطراف المتنازعة خرائط الألغام المزروعة بكل المناطق لجهات مسؤولة عن نزع الألغام.
فخ في الحقل
خليل الظاهري (27 سنة)، أب لطفلتين، يقطن وبقية عائلته في قرية الحقب بمدنية دمت شمال غرب محافظة الضالع (جنوب اليمن)، أجبرتهم الحرب الدائرة بين الحكومة المعترف بها دوليًّا وأهالي القرية وبين جماعة أنصار الله (الحوثيين) على النزوح إلى قرية مريس القريبة من المديرية منتصف نوفمبر/ تشرين ثاني 2018. وبعد سبعة أشهر من المعارك الدامية، انتهت بسيطرة الحوثيين على عدد من القرى باتجاه المحافظة- بدأ نازحو الحقب بالعودة تدريجيًّا. في هذا الصدد، يقول الظاهري لـ"خيوط": "أخبرنا "الحوثيون" أنه تم تطهير المنطقة من الألغام، وأصبحت القرية آمنة وبإمكاننا العودة بسلام وممارسة حياتنا"، ويضيف الظاهري: "لم يخطر ببالي أن فرق نزع الألغام لم تمسح أرضي، وأن لغمًا سيعصف بي عشية عودتي لمباشرة عملي في حِراثة الأرض التي أعتمد عليها وأعيش من خيرها كمصدر دخل محدود ووحيد لي ولأسرتي".
يروي الظاهري تفاصيل عشية ذلك اليوم بحسرة أب أصبح عاجزًا عن رعاية أبنائه وأسرته: "فقدت قدمي اليمنى وخسرت جرّارتي التي أعمل بها لإعالة أسرتي، علاوة على زيادة وزني بسبب عدم الحركة"، ويضيف: "غابت الخيارات، وكل متاح كان أمامي في السابق، أصبح مستحيلًا جراء انفجار اللغم هذا، أربع سنوات وأنا منزوٍ في غرفتي، لم أعد أترقب الربيع، وليس لديّ الحماس الذي يتمتع به شاب عشريني".
وتشير تقارير منظمات دولية ومحلية إلى أن اليمن شهد أكبر عملية زرع للألغام في الأرض منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
"صعدت على متن حَرَّاثتي متجهًا للحقل القريب من منزلي، عندما أوشكت على الانتهاء من حرث الحقل، سمعت صوتًا مدويًا، ولم أشعر بشيء للحظات"، ويضيف: "فتحت عيني غير مدرك ما حدث لي، حاولت النهوض من كرسي الحَرَّاثة، لكني وجدت قدمي تلتوي وتنزف بغزارة، وفقدت الوعي حينها على الفور"، هكذا واصل خليل سرد الفصل المأساوي من حياته الذي آلَ به إلى ما هو عليه بعد أن كان يضج بالحياة والطموح.
بخت عويص
تشكل الألغام الأرضية الفردية تهديدًا مباشرًا لحياة آلاف من المدنيين اليمنيين، وخاصة أن المعارك في الغالب تقع في مناطق مكتظة بالسكان أو تلك التي يعود إليها السكان بعد سيطرة طرف ما عليها، ومع انتهاء كل مرحلة من مراحل الحرب المستعرة تتكاثر أعداد الضحايا المدنيين وتتسع رقعة الحاجة للأطراف الصناعية الذكية والباهظة الثمن، إذ يضطر البعض للسفر إلى مصر أو الهند؛ كونها غير متوفرة في اليمن، فيما يضطر البعض الآخر نتيجة العجز المادي إلى البتر في مستشفيات غير متخصصة والعيش على عكاز خشبي أو طبي بقية العمر.
فواتير باهظة
الظاهري واحد من مئات الآلاف من المدنيين الذين يدفعون ثمن الصراع المحتدم في البلاد. علي الذي يعد الأخ الأصغر لخليل، يحكي لـ"خيوط"، واقعة انفجار اللغم وهو يحبس دموعه: "كنت في سطح المنزل وسمعت انفجارًا هائلًا قريبًا، نظرت فوجدت غبارًا كثيفًا في حقلنا، فانطلقت مسرعًا لأجد أخي فاقدًا للوعي ورجله أشلاء، وقد امتلأ المكان بالدماء"، ومنذ ذلك اليوم وعلي يعيش هزيمة ما كان ليعيشها لولا الحرب وبشاعتها.
لم تكن مستشفيات المدينة قادرة على التعامل مع حالة خليل، ما استدعى نقله إلى صنعاء، وهناك بُترت قدمه من منتصف الفخذ، بتكاليف باهظة، لم يكن قادرًا على دفعها لولا مساهمة أهالي القرية الذين تشاركوا تكاليفها، لاحقًا بدأت تظهر أعراض أخرى على ساق خليل، ما تتطلب نقله للعلاج خارج اليمن، ولأجل ذلك تشاركَ أهل القرية تكاليف سفره مجددًا إلى مصر من أجل العلاج. فقد خليل قدمه وآلته، ولم يتجرأ أحد من أسرته على الاقتراب من ذلك الحقل بعد الحادثة.
إلى ذلك، تتفاقم الأحوال المعيشية التي تعيشها أسرة خليل يومًا بعد آخر، خاصة مع عجزه عن ممارسة أي مهام أو أعمال قد تضمن له ما يُسيِّر به معيشته.
ويستخدم أطراف النزاع المسلح في اليمن الألغام كوسيلة لإعاقة تقدم الخصم في مناطق آهلة بالسكان، الأمر الذي تحظره القوانين والمواثيق الدولية التي تصادق عليها اليمن؛ كونها تشكل خطرًا كبيرًا على حياة الأطفال والنساء والمجتمع المدني ككل.
