لن تتطرق هذه المقالة الصغيرة إلى كل العرف، وإنّما إلى ممارسة العُرف القبَلي للحدود الشرعية فقط، ونظرة التعامل الشرعي المذهبي مع الحدود في العرف.
بشأن الحدود الشرعية الإسلامية المعروفة والمنصوص عليها، وهي حدّ: القتل، الزنا، السرقة، الخمر؛ نجد أنّه في مختلف المناطق القبلية اليمنية، وكذا غير اليمنية، لا يسري عليها الشرع الإسلامي كما هو بحرفيته على وجه التحديد، ولكن يسري العرف القبَلي الذي "يختلف" قليلًا أو كثيرًا عن النص الشرعي. وأسارع إلى القول بأنّ "الاختلاف" هذا لا يعني، وعلى طول الخط، التعارض والتناقض مع العرف القبلي عند كلّ المذاهب الإسلامية، كما نبيّنه أدناه.
من الجدير الإشارة إلى أنّ المذاهب الإسلامية غير متفقة على قواعد محدّدة إزاء التعامل مع العُرف القبَلي في البلاد العربية. ليس هذا فحسب، بل نجد أحيانًا في المذهب الواحد أكثر من اجتهاد في هذا الصدد. وفي هذا المقال المضغوط جدًّا، سأحاول تقديم حالتين من التعامل مع العرف القبلي: تعامل أئمة المذهب الزيدي من جهة، وتعامل المذهب المالكي من جهة أخرى.
تعامل "الأئمة" مع العرف
بهذا الصدد، يتطرق سرجنت، فيقول: إنّه على الرغم من أنّ الأئمة الزيود، منذ "الهادي" وما بعده، كانوا يحاولون إحلال الشريعة الإسلامية بدلًا عن العرف القبلي، فإنّ الشريعة لم تكن تطبّق خارج المدن، إلا عندما كان الأئمة أقوياء بما فيه الكفاية لفرضها.
لقد أبلغت –والكلام لسرجنت– أنّه إبان حكم الإمام يحيى، كانت قوانين العرف القبلي من النوع الذي بحوزة "أتور روسي" إذا ما وجدت لدى أحدهم، فإنّه سوف يؤدّي ذلك إلى حتفه، وقيل إنها توجد في خولان وكحلان. إنّهم يعطون انطباعًا لمجتمع مستقل تمامًا عن السلطة المركزية بأخلاقياته وتنظيمه، وبدون "قضاة"، وبدلًا عنهم الوسطاء والمحكَّمون.
غير أنّ هناك من يذهب إلى أنّ ثمة مجالًا واسعًا لأنواعٍ من السلوك غير خاضعة لتوجيهات وضوابط العرف القبلي، ومتروك للتقدير الفرديّ للرجل. من أهمّها: إدارة وحفظ الملكية (الأرض، الحيوانات، البيت والعلاقات بين النساء،...). ولو أنّه من جهة أخرى، يُشار إلى أنّ العرف يحمل علاقة قوية إزاء معايير السلوك الرشيد وأنماط التعامل الاجتماعية. ويعكس العرف النشاط الاجتماعي، والعادات، والمعايير، والقيم، والترجيح، والعلاقات بين الطبقات. باختصار: كل الأوضاع التي تربط الفرد بقوة، بمحيطه.
من الأسباب التي تدفع بالقبيليّ إلى التمسك بالعُرف القبَلي، أنّ ثمّة تنوعًا في دور ووظيفة العقوبات والجزاءات العرفية اليمنية؛ فعند اقتراف الجناية، كالقتل العمد مثلًا، نجد أنّ الإجراءات العرفية تهدف إلى تحقيق ثلاث غايات متلازمة:
- الأولى، العمل على مساعدة عاقلة (أهل) القتيل على قبول الدية في القتل؛ ذلك أنّه من العسير للغاية قَبول جماعة القتيل القبَلية الدية في حالة القتل العمد.
- الثانية، العمل على مساعدة عاقلة (أهل) القاتل على الكيفية التي تمكّنهم من الوفاء بالتزام تسليم الدية.
- الثالثة، العمل على ردّ الاعتبار للجماعة القبَلية المعتدى عليها، ذلك أنّ الاعتداء على أحد أعضائها يعدّ انتقاصًا من هيبتها إزاء الجماعات الأخرى، ومن ثم تنخفض مكانتها وقيمتها المجتمعية في المجتمع القبَلي.
والحقيقة أنّه بالإضافة إلى ما سبقت الإشارة إليه أعلاه، فإنّني أزعم أنّ العامل السياسي يكاد يكون هو الأرضية العامة التي تقف عليها، بنسب متباينة، مختلف تلك العوامل والأسباب والحجج التي تتمسك بها القبائل لتدافع بها عن شرعية تمسُّكها بعُرفها القَبَلي.
باختصار شديد: ترفض القبيلة اليمنية الخضوعَ لسلطة الحكم في مناطقها القبلية ولا تفرط باستقلالها، وما التمسك بالعرف إلا بيرقًا لها تصارع تحت رمزيته حكم الأئمة. هذا فضلًا عن مدى جور الظلم الذي كان يمارسه أغلب الأئمة الذين لم يكونوا سوى رمزٍ لسلطة الجباية الفاحشة.
عندما اتُّهم شخصٌ بالزنا، قامت قبِيلة المرأة بطلب قبيلة الجاني لتقريبه للحق وذلك بطريقة القَبْيَلة، فقام أبناء قبِيلته بإيصاله إلى سجن الدولة، ثم جرى دعوة المطلوبين بالحضور عند مسؤول الدولة. وعند وصولهم طلب منهم تقديم الدعوى على المتهم، فرفض وليّ المرأة تقديم الدعوى.
لقد هاجم عالم الدين المعروف الشوكاني قبائلَ (ذو محمد) و(ذو حسين) من برط لخضوعهم لحكم "الطاغوت"، ثمّ هو طبق هذا النقد على كل القبائل الشمالية والمشرقية الذين لم يخضعوا لحكم الدولة. هذا، مع العلم أنّ ثمة قاعدة شبه عامة –إن جاز لي القول– عمل بها العديد من "الأئمة" وكانوا يوصون بها حكام المناطق، مفادها: على الحاكم أن يحكم طبقًا للشرع في مكان الشرع، وبالمنع حيثما هو ملائم المنع. مع اشتراط أنّه ليس لأحد الحق في الحكم بالمنع إلّا إذا لديه المنع؛ أي في جوهر الأمر، القدرة على الحماية والضبط.
من جهته، يشير الباحث همدان المنصوري إلى العديد من الممارسات، وَفقَ العُرف القبَلي التي اعتاد عليها "الأئمة" في سياق تسوية وحل ما يعترضهم من مشاكل. وهنا نورد إحدى هذه الوقائع النموذجية: كان تجدد القتال ونقض الصلح بين الإمام المؤيد والعثمانيين قد حصل بقتل العثمانيين للفقيه حسن العلماني الذي ارتبط بعلاقة "الجوار" بالإمام، وكان العلماني يتردّد إلى قرية علمان بالقرب من "وادي ظهر" لتقاضي حقوقٍ له فيها فحدث خلافٌ بينه وبين بعض أهالي القرية، فوشوا به لدى الوالي العثماني حيدر باشا بأنّه يقوم بجمع الزكاة للإمام المؤيد، فأمر الوالي بالقبض عليه وقتله، فغضب الإمام، وطلب تسليم القاتل في خطابٍ وجّهه إلى حيدر باشا فردّ الوالي أن لا سبيل إلى هذا، وعرض على الإمام "تسليم عشر ديات"، فلم يقبلها المؤيد بعد أن رفضها أولياء الدم.
توضح هذه الحادثة حمايةَ الإمام المؤيد للعلماني، فهو يعيش تحت "جواره". هذا من ناحية، وقام العثمانيون بقتله أثناء فترة الصلح بين الجانبين من ناحية أخرى، لهذا قدّم الوالي حيدر باشا حلًّا عرفيًّا، فدفع "عشر ديات" العقوبة العرفية للاعتداء على "الجار" (القطير)، لكن الإمام رفضها؛ لأنّ أولياء الدم لم يقبلوا بها؛ بل طلبوا القصاص من الجاني، وعليه -أي الإمام- أن يأخذ بثأرهم التزامًا بنصوص قواعد العرف التي تبيّن بأن تقوم القبيلة في حالة الاعتداء على من هو في "جوارها"، وحمايتها بالأخذ بالثأر له إن لم يسلم القاتل نفسه، أو يقوم أقرباؤه بتسليمه. وإذا طلب أولياء الدم الدية فتُسلّم مضاعفة؛ لأنّ القتل تم بطريقة "العَيْب"، ولهذا تمسّك المؤيد بالشرع والعُرف معًا؛ باعتبارهما ينصان على تطبيق عقوبة القتل على القاتل في حالة "العَيْب". وهنا كان لقواعد العرف موقفها من حادثة كهذه، إذ تنص إحداها على مضاعفة الغرامة المالية في حالة الاعتداء على الجار إلى أربعة أضعاف، بينما تعتبر أخرى؛ الاعتداء على الجار، سببًا في قطع العلاقة بين المعتدي وبقية الناس و"عَيْبًا" يمس ضمانة الضامنين للأمان، وثالثة نصّت على ضرورة تسليم القاتل لأولياء الدم للاقتصاص منه أو قيام أقربائه بتسليمه حتى ينفوا "العَيْب" عنهم، إضافة إلى أنّ القتل أثناء فترة الصلح يضاعف الغرامة المالية إلى أربعة أضعاف باعتباره من قضايا العَيْب.
ولا يمكن هنا إلّا أن يلاحظ القارئ أنّ "الإمام" قد تصرف وكأنه شيخ جماعة قبِلية في علاقة مع جماعة قبلية أخرى.
في هذا السياق، لعله من المفيد ذكر قصة حقيقية حصلت في زمن دولة أحد أحفاد الإمام "الهادي إلى الحق"، عندما اتُّهم شخص بالزنا، فقامت قبيلة المرأة بطلب قبيلة الجاني لتقريبه للحق وذلك بطريقة القَبْيَلة، فقام أبناء قبيلته بإيصاله إلى سجن الدولة، ثم جرى دعوة المطلوبين بالحضور عند مسؤول الدولة. وعند وصولهم طلب منهم تقديم الدعوى على المتهم، فرفض ولي المرأة تقديم الدعوى. عندها طلب منه المسؤول التنازل عن الدعوى، ولكنه أبى. فما كان من مسؤول الدولة إلّا أن يهدّده بالحبس. هنا انبرى المتهم وليّ المرأة يدافع عن موقفه بقوله: "لقد اختلف جدي وجدّك يا سيد". فسأله المسؤول: "وعلى ماذا اختلفوا؟"، فردّ المتهم: "إنّ الحكم في مثل هذه القضية التي ثبوتها في شرع جدك، يصعب توفيره". فتساءل المسؤول: "وماذا في شرع جدك؟" فردّ المتهم: "المرأة ثقة نفسها". هنا تأكّد للمسؤول أنّ القضية ستؤدّي إلى مفسدة أكبر وهي قتل الجاني. فاستدعى عددًا من المشايخ وكلّفهم بالصلح عملًا بحكم القبْيَلة.