حوار: أحمد الأغبري
ما زال سؤال الهُوية الإنسانية يُلحُّ على المبدع؛ مؤكدًا أهمية التزام علاقة تحترم الحياة وترقى بالإنسان؛ لكن في المقابل هل ما زال الحديث مجديًا عن افتراض وتحديد وظيفة ما للأدب والفن والمبدع مهما كانت مسوغات هذه الوظيفة؟ هنا في مقابلة مع الناقد اليمني عبدالحكيم باقيس، أستاذ الأدب العربي ونقده المشارك في جامعة عدن، ورئيس مركز البحوث والدراسات اليمنية، ورئيس نادي السرد بعدن، نناقش عددًا من إشكالات المبدع في علاقته بالإبداع والحياة معًا، معرجين لواقع السرود اليمنية التي يُعدّ باقيس من أبرز النُّقاد المشتغلين عليها.
ثقب إبرة التعصب
• في الأصل ألاّ ينافي الأدب والفن جوهر الحياة وقيمها النبيلة، لكن حين يقع بعض الكتاب والفنانين في سجن الأيديولوجيات المضادة، فقد ينطلقون في فهمهم للإبداع من كوة صغيرة مظلمة لا تسمح بالنور، اسمها (التعصب)؛ وهو نتاج الرؤى السياسية والحزبية الضيقة، ونتاج العنصريات الجغرافية والعرقية، أو الخوض من زوايا المؤثرات السلبية في الحساسيات الاجتماعية وإثارة الكراهية، وكل ذلك لا يسمح لهم أن يبصروا الحياة بمختلف ألوانها وتجددها. ويبقى المبدع أسير دوافع تأكيده الانتماء لهذه الفئة أو تلك، فتتحول كتابته أو أعماله الفنية إلى خطابِ تحريضٍ. لا يمكن النظر إلى العالم من ثقب إبرة التعصب والكراهية، فبذلك يفقد الأدب قيمته الإنسانية ووظيفته الجمالية، ويتحول إلى مجرد دعاية ساذجة، وتفقد الكتابة بُعدها الإنساني، ذلك البُعد الذي يمنح الكاتب الهُوية الإنسانية العابرة للحدود وللأيديولوجيات، وفي الغالب الأعم لا يستجيب للعوامل السلبية إلا "أطفال" الكتابة الذين لم تتوطَّد معارفهم وخبراتهم الفكرية أو فئة الانتهازيين، وهؤلاء يشكلون ظاهرة عابرة في المشهد الثقافي وبخاصة في المجتمعات التي تعيش حروبًا ونزاعات، بوصفهم جزءًا من واقع الاستقطابات السياسية والجهوية والمذهبية.
النفاق الثقافي
• هذه حالة من النكوص والنفاق الثقافي والقيم الزائفة التي لا يمكن إنكارها، ولا يخلو المشهد الإبداعي من بعض المفارقات بين ذات الكاتب الحاضرة في نصوصه بكل تجلياتها الإنسانية، وواقع الممارسة الحياتية الحافلة بتناقضاتها. نحن نعيش عالمًا مضطربًا يسوده الفساد والفصام، ومجتمع الكتّاب أو المبدعين جزء من هذا الواقع، ولا يصدر هذا التناقض إلا من قبل الأدعياء. لقد رأينا أعمالًا فنية تُثير الكراهية وتنحاز للطغاة والمستبدين بدافع الكراهية لفصيل سياسي معين، ورأينا في أثناء هذه التحولات الكبرى التي يعيشها العالم العربي منذ سنوات في مخاضه الديمقراطي سقوط ورق التوت عن بعض النُّخب الثقافية والحداثية؛ وهي تتخلى عمّا ادعته من قيم الحرية والديمقراطية، وتنحاز إلى الجلادين الغارقين في دماء شعوبهم من منطلق التعصب وكراهية الآخر، وإقصاء كل مَن يقف في الضفة الأخرى من وجهه النظر من أبناء الوطن الواحد. وعلى الرغم من ذلك لا يمكن تفسير هذه الظاهرة أو تبريرها مطلقًا!
الكاتب الجيد هو الذي يستطيع العبور من الذات إلى خارجها، حتى في أشد اللحظات التي يبدو فيها معبرًا عن ذاته، وللكاتب حرية التناول من مختلف الزوايا التي لا تناقض شروط الإبداع الأدبي وجمالياته
الأدب الذاتي
• للأدب الذاتي أو الكتابة الذاتية أهميتها في التعبير عن انفعالات الذات ومشاعرها، وهي تعبُر في أثناء ذلك من حدود الذات إلى علاقتها بالكون والوجود، من الفردي إلى ما هو عام وجماعي، وبهذا المعنى فالكتابة الذاتية، الصادرة من روح الإنسان، حيث يصبح الذاتي في الكتابة مناسَبة لاكتشاف مسارات متعددة من الحياة، تمكننا من أن نطلّ من على كتف الكاتب على معاناتنا، أو كما يقول "جورج ماي" نطلّ من على كتف نارسيس على انعكاس صورتنا أيضًا، وعلى سبيل المثال فأحاديث "مونتاني" ورسمه الذاتي يلامس العديد من انفعالاتنا، وفي كثير من الأحيان، التعبير عن محنة الذات هو تعبير عن محنة المجتمعات وتحولاتها، من هذه الزاوية يكتسب الأدب الذاتي إنسانيته وشرعية وجوده. يقولون إن الزمن حاليًّا هو زمن الرواية وربما هو زمن السيرة الذاتية أو زمن الكتابة الذاتية، وقد تكرر هذا الكلام كثيرًا، وهناك مؤشرات واضحة تؤكد ذلك.
أما الكتابة الهذيانية الغارقة في النرجسية والتمركز حول الذات فلا تغادر دائرة لحظة الانفعال الشخصي، ومن وجهة نظري الكاتب الجيد هو الذي يستطيع العبور من الذات إلى خارجها، حتى في أشد اللحظات التي يبدو فيها معبرًا عن ذاته، وللكاتب حرية التناول من مختلف الزوايا التي لا تناقض شروط الإبداع الأدبي وجمالياته.
• على المستوى النظري، لقد ارتبط الأدب منذ القدم بفكرة الالتزام ومساهمته في السيرورة التاريخية للمجتمعات، وانخراط الكاتب في القضايا الاجتماعية والسياسية أو الموضوعات الكبرى، وضرورة التعبير عن المجتمع وتحولاته، والبحث عن إجابات وتفسيرات من واقع فكرة أو موقف ما.
علاقة الأدب بالمجتمع
• لقد شهدت وظيفة الأدب تحولات وفق تعدد نظريات الأدب، حتى ضاق الكُتاب أنفسهم بأية وظيفة للأدب، ونادوا بتحريره من أية غاية عدا غايته الجمالية، ولكن على مستوى الممارسة لا يمكن تصور الأدب خارج علاقته بالمجتمع وملامسته هموم وشواغل اجتماعية، بدعوى التحرر من قيود الموضوعات والكتابة، ولا يمكن للكاتب أن يكون بمعزل عن قضايا مجتمعه، ولا بد في النهاية أن يصدر عنه موقف أو رؤية ما، غير أن آليات التعبير عن هذه القضايا في الكتابة الحديثة تختلف أساليبها من كاتب لآخر، ما يدعو القارئ إلى إذابة عناقيد المعنى واستخلاص الدلالات الكامنة في النصوص. ليس هناك نص بريء مئة بمئة. لا توجد كتابة محايدة؛ فالكاتب يكتب لإيصال رسالة معينة تتعدد وسائلها وشفراتها، الكتابة في النهاية ليست عملية محايدة بكل تأكيد!
لا يمكن تجزئة المشهد الإبداعي اليمني إلى مناطق بعينها، لكن عدن ارتبطت بميلاد فكرة الحداثة والليبرالية عند منتصف القرن الماضي، والتي سرعان ما أجهضت في العقد السبعيني، وما تلى ذلك من تجريف للعناصر الثقافية فيها في العقد التسعيني، وكل ذلك أثّر بصورة أو بأخرى على المشهد السردي الآن
خطاب روائي يمني
• الكتابة السردية اليمنية رهان التحولات التي مرّ بها اليمن، ونستطيع أن نقرأ تمثيلًا سرديًّا لكل التحولات والشواغل التي عاشها مجتمعنا اليمني. الأدب اليمني عامة في شعره ونثره وثيق الصلة بالمجتمع والتاريخ والناس، وهو ما يمنحه غنًى وخصوصية ويضاعف من قيمته الجمالية. منذ بواكير الكتابة السردية الحديثة في "سعيد" لمحمد علي لقمان في عدن عام 1939، كان خطاب التعليم والنهضة والدعوة إلى المجتمع المديني، وحين تحولت الكتابة للتعبير عن الريف وقضاياه عند الكتاب الواقعيين، لامست هموم المجتمع وأوجاعه، وفي الكتابات الجديدة منذ التسعينيات أخذت تبرز الخصوصيات المحلية التي تُعنى بعناصر ثقافية وفولكلورية وموروث شعبي، وتستشرف أفقًا جديدًا منذ فاتحة القرن الماضي، يعيد صياغة التاريخ من منظور الذات المعاصرة في أزمتها وتشظياتها وتنوعت في أثناء ذلك أساليب الكُتاب وآليات اشتغالهم بإنتاج خطاب روائي يمني يتناول تفاصيل محنة اليمني المعاصر، ويعنى بطرح التساؤلات أكثر من عنايته بالبحث عن إجابات حاسمة.
الكتابات الجنوبية
• في البدء لا يمكن تجزئة المشهد الإبداعي اليمنيّ إلى مناطق بعينها، ولأن عدن تتجاوز دلالتها حدودها الجغرافية إلى اتساعها وتأثيراتها في الزمان والمكان. سأفهم السؤال بوصفه تساؤلًا عن الكتابات الجنوبية الجديدة في اليمن، وغني عن البيان أن هذه المدينة قد ارتبطت بميلاد فكرة الحداثة والليبرالية عند منتصف القرن الماضي، والتي سرعان ما أجهضت في العقد السبعيني، وما تلى ذلك من تجريف للعناصر الثقافية فيها في العقد التسعيني، وكل ذلك أثّر بصورة أو بأخرى على المشهد السردي الآن، وبالتالي سيكتسب الحديث عنها طابعًا نسبيًّا، وعلى الرغم من ذلك، كانت أصواتها السردية تجتاز عوامل الاختناق والتضييق، ومعدلات المنشور والمطبوع تعبّر عن هذه النسبية فيما يتصل بالسرد في الثلاثة العقود الأخيرة، غير أن مؤشرات نسبية أخرى تشير إلى حالة من تفاؤل، من خلال بروز أصوات سردية أخذت في الظهور بقوة، وعلى سبيل المثال، يمكن الإشارة إلى جيل جديد من الكتاب الجنوبيين الشباب ممن اطلعت على كتاباتهم، من أمثال: عمار باطويل، عيدروس الدياني، سالم بن سليم، سماح بادبيان، رانيا عبدالله، سعيد المحثوثي، وآخرين.
ظاهرة سلبية
• أتفق معك تمامًا في هذه الملاحظة، والتي باتت تشكل ظاهرة سلبية، ومع تقديري الكبير للمُنجز الإبداعي لبعض هذه الأسماء المعروفة، التي لها مكانتها الخاصة التي لا جدال فيها، فإن تكرارها في المحافل والمنتديات والمناسبات العربية يوحي بعقم المشهد الأدبي اليمني وخلوه إلا من هؤلاء، وهذا غير صحيح؛ ففي المشهد السردي اليمني من ثراء التجارب في الكتابة وتنوعها ما هو جدير بالاحتفاء والإضاءة، وللأسف هذا جزء من معاناة الكتاب والنقاد اليمنيين الذين لا يرتبطون بشبكات إعلام خارجية ومجموعات تبادل المصالح التي تكرر نفسها، وهو أيضًا جزء من محنتنا جميعًا في ظل هذا الحصار المضاعف الذي تعيشه اليمن، ولكن في ظل توفر وسائل التواصل والنشر الرقمي لا أجد للجهات الخارجية من عذر في بذلها الجهد من أجل التعرف على تنوع المشهد الأدبي والسردي اليمني في السنوات الأخيرة.