في زمن الحرب تاهت خيوط الشعب اليمني كله، ولم يعد له من ملاذ.. لم يكن يتصور أحد هذه المآلات الفجَّة، ولا هذا التعب الفضّ، غير أن المبدع ونتاجاته كانا أكثر فئات الشعب تضررًا.
منذ سبع سنوات عجاف خَفَتَ النتاجُ الإبداعي في اليمن كله، ولم نعد نلمس من النتاجات التي كانت تفيض قبل اندلاع الحرب إلا النزر اليسير، ومعظم من أنتجوا هم إما في المنافي، أو في البلد مثقلون بهموم لا حصر لها، لكنهم كابروا، وتساموا على جراحهم، وتجاوزوا القسوة، وحاولوا توصيل ما أنتجوه على مدار هذه السنوات القاسية؛ لذلك لم يكن النتاج في معظمه رصينًا كما يجب، إنه نتاج مليء بالندوب والثلمات، مثله مثل قلوب من أنتجوه، وحاولوا من خلاله التمسك بالحياة ومباهجها، رغم نأيها عنهم، إنه نتاج يشبه إشعال شمعة في ظلام أشد قسوة وحلكة.
لقد أنتج المبدعون نصوصًا شعرية، وسرودًا، وسِيَرًا ذاتية أدبية، ودراسات نقدية فردية وجماعية، ونصوصًا لا هوية لها ولا تجنيس، وكذلك ترجمات في التاريخ والإبداع... كلها نصوص تمتاز باقترابها من تعب اللحظة، وعَنَتِ الواقع، وتندغم في التيه المحيط بها.
من هذه النتاجات الإبداعية السيرة الذاتية الأدبية للروائي (محمد مثنى)، وهي مطبوعة طباعة محلية لا هوية نشر لها (طبعة خاصة)، يحاول فيها (مثنى) تقديم تفاصيل حياته منذ لحظات تَخَلُّق الإبداع لديه، ومشاهداته للحياة ومباهجها ومآسيها، وكذلك يحاول استعراض ما مسَّه؛ نتيجة لمواقفه السياسية والاجتماعية والثقافية؛ إذ تعرض في مراحل حياته -بحسب السيرة- للإقصاء والمصادرة والملاحقة والسجن والتعذيب من ساسة كانوا يشتبهون به، أو لا تروقهم مواقفه؛ فينتقمون منه انتقامًا فيه من القسوة ما لا يطاق.
في هذه السيرة لم يتوقف (مثنى) عن لحظات البوح والتعبير عن القهر فحسب، بل قدّم من خلالها صورة لشغفه بالحياة، وولعه بكل أمل كان يظنه سيفتح آفاق البلد على جمال الحياة، وتفاصيلها الثقافية التي تدفعه إلى مصاف البلدان التي تجاوزته بمئات السنين... لكنّ أيًّا من ذلك لم يتحقق، فانكسر كما انكسرت أحلامه.
لقد انعكست ظروف الحرب وقسوة الواقع وفجاجته في هذه السيرة؛ فظهرت متعبة كنفسية (مثنى) ذاته؛ إذ يجد فيها القارئ تعبًا في صياغة معظم الفقرات، وتشويشًا في معظم الأفكار، وتكرارًا، وحشوًا، كما يلمس أخطاءً طباعية ولغوية هنا وهناك؛ وذلك -من وجهة نظري- نتيجة لتعبه الوجودي الذي يمر به؛ نتيجة للحرب التي هشمت النفوس، ودفعت بنا إلى الهاوية، حتى أن (مثنى) بدا قلقًا مرتبكًا موجوعًا في كل سطر من سطورها، ونتيجة لذلك لم يجد وقتًا -وربما مزاجًا صافيًا- لإعادة النظر في كثير من الفقرات والأفكار؛ تركيبها غير سليم، لعلك تريد: ليقترب بها من الإبداع الصرف، وليبتعد عن الإبداع المباشر.
لقد أُنهِك (مثنى) كثيرًا -مثل المبدع اليمني عمومًا- في اللحظة الحاضرة كما أُنهِك في اللحظات الماضية التي عبر عنها، وقد انعكس هذا الإنهاك -في لحظة الإبداع- على تفريغ ما تجيش به النفس في هذه السيرة. وما بدا أخطاءً فيها لم يكن كذلك لو كان (مثنى) في لحظة خارجة عن هذه اللحظة الموجوعة، ولو كان مستقرًا ماديًا ونفسيًّا لكانت هذه السيرة أكثر سحرًا وإدهاشًا.
سيرة (مثنى) المشار إليها ليست سوى مرآة لمعظم النتاج الإبداعي الذي تم نشره في زمن الحرب، ولم يكن (مثنى) الموجوع ذاته سوى مثال للمبدع اليمني في زمن الموت المجاني الذي نعيشه.
ومن النتاج النقدي الصادر في زمن الحرب كتاب (القصة القصيرة جدًا في اليمن - ارتباك البدايات وملامح النضج) لعلي أحمد قاسم، وهو كتاب كان يبدو فيه (قاسم) شغوفا بالتأصيل، والفتح، والسبق، لكنه كتاب بدا عليه تعب الظروف أيضًا في كل فقرة من فقراته، من حيث العنونة والتبويب والضبط المصطلحي والعمق النقدي النافذ، والتوثيق أيضًا، ولو كانت الظروف أفضل لربما كان (قاسم) أكثر تجليًا فيه، وأكثر دقة وموضوعية وتجويدًا، لكنه مثقلٌ بتعب اللحظة الذي أفرزته الحرب وتبعاتها القاسية.
وفي النتاج الببليوجرافي -مثلًا- أنتج الأديب والناقد زيد الفقيه ببليوجرافيا للسرد اليمني حاول من خلالها أن يستكمل ما بدأه هو وغيره من نقاد قبله، أمثال د. صادق السلمي، ود. إبراهيم أبو طالب، وقد نجح في ذلك إلى حدٍّ كبيرٍ، غير أن ما أنتجه قد صاحبه كثير من القصور والهنات والنقص، وذلك كله لم يكن ليحدث لو كان قد أنتجها في ظرف صحي وأوضاع سليمة. لقد أنهكت زيدًا ظروف الحرب وقسوة الواقع المأساوي الذي يحيط به.
لقد تشتت المبدعون، وتشتتت أذهانهم، وارتبك نتاجهم الإبداعي، فمعظم من ينشرون نتاجاتهم في ظل هذه الظروف القاسية -من وجهة نظري- لديهم من الشجاعة الشيء الكثير، وإلا لما غامروا بنشر نتاجاتهم، وهم -وأنا على ثقة من ذلك- على وعي كبير بأن نتاجاتهم فيها قصور، لكنهم يؤمنون بأن الكتابة فعل مقاومة، والنشر فعل مقاومة، والمقاومة تشبثٌ بالحياة.
لم يهتم أحد بالقصور منهم بقدر الاهتمام بالتشبث بالحياة، ومحاولة العبور إلى لذة نفسية، لقد أنتجوا برغم غياب الدعم والرعاية كليًّا، ولعل معظم ما أنتجوه كان استقطاعًا من قوت أولادهم.
وإذا كان ذلك كذلك فإن المبدعين لم ينكسروا، ولم يهتم معظمهم بتجويد نتاجاته، لقد تجاوزا العثرات، وتجاوزوا الانكسارات، إلا أن الانكسار جاءهم من منافذ أخرى، فقد امتد تعب اللحظة وقسوة الحرب إلى توقف نشاط اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين في صنعاء (المركز)، وماتت الأطراف كليًّا، وتم السطو على مبنى الاتحاد في محافظة ذمار، وعجز الأدباء عن استعادته في ظل خذلان الجهات المعنية.
لقد تشتت نتاجات المبدعين بين ظروف قاسية أفرزتها الحرب، وعززها التيه العام المحيط بالبلد كله، فتلوّن بلونها، وشابته شوائبها، ومع ذلك فقد كانت هذه النتاجات طيلة السنوات الماضية -على قلتها- شموعًا تأنس إليها الروح، وتعوّض غياب الكتاب العربي في اليمن.