بقرة "هندوسيَّة" لمواجهة الآثار الاقتصادية للحرب اليمنية

أسر تكافح بها شظف العيش
رضوان فارع
February 13, 2023

بقرة "هندوسيَّة" لمواجهة الآثار الاقتصادية للحرب اليمنية

أسر تكافح بها شظف العيش
رضوان فارع
February 13, 2023
الصورل: بسكال ماريشو وزوجته ماريا ماريشوا

صباح كل يوم، تنتظر البقرة "حُميرة" عودةَ الحجّة "نعيم" (65 عامًا)، من الوادي الذي ذهبت تجلب منه الزرع (العَلَف) لها وللأغنام التي تملكها في البيت.

أثناء عودة الحجّة نعيم من الحقل واقترابها من عُشة حُميرة، ترفع البقرة خوارها، تُنادي نعيم بلغُة الأم، فتردّ نعيم: "هاااا، لقد جئت يا حميرة"، وسرعان ما تصل إلى عشة البقرة وتضع الزرع الذي عادت به من الوادي أمامها. 

يَنظرُ المجتمع اليمني للبقرة بشيء من التقديس؛ فهي الأُم الثانية للأسرة اليمنية، بعد ربة البيت، وهي التي تتكفل بتغذية جميع أفراد الأُسرة من الطفل إلى الكهل، بل يصل خيرها إلى جميع منازل القرية التي قد تتجاوز عشرة منازل.

تمتدّ العلاقة بين البقرة والأسرة اليمنية إلى آلاف السنين، وهو ما تؤكّده الآثار، والرسومات، والنقوش، والمُجسّمات المعروضة، من عهد دولة سبأ إلى حمير، ومعين وقتبان في العديد من متاحف العالم إلى واقعنا اليوم.

تصحو فاطمة غالب (73 عامًا)، في الخامسة فجرًا من كل يوم؛ ليس من أجل تجهيز أحفادها للذهاب إلى المدرسة، ولا من أجل تناول وجبة الفطور، بل من أجل إطعام بقرتها الوحيدة التي تسكن معها في المنزل نفسه في ريف مُحافظة تعز، وتتكوّن وجبة الفطور من: العلف المجفف، والماء الدافئ الممزوج بالملح الذي يُقدَّم للبقرة في فصل الشتاء. 

تلي خُطوة تقديم الماء الدافئ والعلف، مرحلة نقل البقرة مع بداية شروق الشمس من الإسطبل إلى العشة؛ وذلك من أجل تعريض البقرة لأشعة الشمس، ولتنعم بالدفء، بعد ليلة باردة.

تُشبه حياة البقرة في الريف اليمني، السكنَ في الفنادق الفارهة، حيث تجد البقرة الاهتمامَ من ربات البيوت، ومن جميع أفراد الأُسرة، فالحفاوة والدلال الذي تحظى به البقرة؛ يأتي بمثابة العرفان والتقدير لما تمنحه البقرة للأسرة اليمنية.

تقول فاطمة، لـ"خيوط": "أقوم بنشر بقايا العلف، والزرع المجفف في مكان نوم وجلوس البقرة بما يسمى "البثو" في الإسطبل، والعشة؛ كي لا تتسخ البقرة من مخلفاتها، وحتَّى يبقى المكان دافئًا وجافًّا في الشتاء".

فاطمة ليست الوحيدة التي تؤدّي هذه الطقوس للبقرة، فمعظم النساء في الأرياف اليمنيّة، يقمن بذات الطقوس عند تربية الأبقار، من الاهتمام والرعاية.

جميع النسوة هنا يرين في الأبقار الأم والابنة؛ فهي جزء أساسي من الأسرة اليمنية في المجتمع الريفي، كما تقول فاطمة. 

ترفض النساء مغادرة الأرياف إلى المدن حيث يقيم أولادهن؛ الأمهات يفضلن حياة الريف بالقرب من البقرة التي يجدنها دومًا معهن كأسرة بديلة، فالعلاقة هنا صارت أسرية بحتة بين الإنسان والحيوانات الألفية.

من جهتها، تؤكّد نعيم بنت سعيد، لـ"خيوط"، أنّ البقرة تكفّلت معها بتربية أطفالها؛ فهي لم تبخل عليهم بمنتجات الألبان من "الزبدة، واللبن، والحليب، والزبادي، والحقين، واللِّبَأ، ومن يريد صنع أجبان فيمكنه ذلك، لكن نحن في اليمن نستكفي بالمنتجات الأولية والسريعة التحضير".

هذا، وتحظى الأبقار في اليمن باهتمام كبير، بل يرتقي هذا الاهتمام أحيانًا ليقارب تلك التي يقوم بها الهندوس في تعاملهم مع أبقارهم. 

فالبقرة في الريف اليمني جزءٌ أصيل فيها، ترتبط بالمُخيلة الثقافية، وبجملة من المعتقدات التي يؤمن بها المُجتمع، فلا يقوم المنزل ولا تحلو الحياة إلَّا بوجود بقرة تمنح الحياةَ للأسرة التي تستمرّ بوجودها معهم. 

البقرة للوقاية من الجوع

تقول نعيم: "من يملك بقرة، لا يدخل الجوع والفقر إلى بيته، بل الفقير الذي لا يملك بقرة"، بهذه العبارة، تؤكّد نعيم على دور الأبقار في رفد الاقتصاد المحليّ للأُسرة اليمنيّة؛ فهي "تتكفّل بتوفير كل احتياجات الأسرة من مشتقات الألبان،... وما علينا إلَّا أن نجلب الطحين وننوّع بالأكل"، حسب تعبيرها.

تواصل نعيم حديثها: "البقرة ربَّت رجالًا، فخلال خمسين عامًا امتلكتُ فيها أبقارًا ربيتها في المنزل، لم يجُع أحدٌ في البيت، بل إنّ خير البقرة التي أملكها يصل إلى الجيران (بحسب الفائض على الأسرة)".

وترفض النساء مغادرة الأرياف إلى المدن حيث يقيم أولادهن؛ الأمهات يفضلن حياة الريف بالقرب من البقرة التي يجدنها دومًا معهن كأسرة بديلة، فالعلاقة هنا صارت أسرية بحتة بين الإنسان والحيوانات الألفية.

 مواجهة الأوضاع المعيشية

الحجّة ورد بنت عبده (68عامًا)، ربة بيت، اضطرّت في 2015، في بداية الحرب في اليمن، إلى شراء بقرة لمواجهة الآثار التي قد تترتب على الأسرة جراء الحرب، وتأمين احتياجات أحفادها من الحليب واللبن ومشتقاته.

وتقول لـ"خيوط": "مع ارتفاع أسعار أعلاف المواشي، كنت مضطرة لشراء بقرة لمواجهة الأزمة التي قد تنتج عن الحرب، خصوصًا أنّ لدينا أطفالًا كثيرين في البيت".

تضيف: "نحن أُسرة فقيرة بدون مصدر دخل، تتكوّن من 24 فردًا؛ الجدة وأولادها وأحفادها"، لا نملك أرضًا، وامتلاك بقرة يُعدّ عبئًا إضافيًّا، لا سيما بعد ارتفاع أسعار الأعلاف".

وتؤكّد ورد، أنّ هذه الأعباء تحوّلت إلى منحة للأسرة، حيث تروي تجربتها في امتلاك بقرة في ظلّ ظروف الحرب القاهرة التي يمرّ بها اليمنيّون. 

وتُضيف: "اتفقت مع أولادي ونسائهم، على أن يساهم كل فرد من الأسرة في توفير علف للبقرة، بحيث يُوزَّع حليب البقرة للأطفال، وما زاد يُصنع منه الحقين، والسمن والزبدة للجميع.

وتضيف ورد: "باجتهاد وتعاون جميع أفراد أُسرتنا، ها نحن في العام الثامن من الحرب والبقرة موجودة وسدّت احتياجاتنا، وعملت معنا ما لم تقُم به الدولة والمنظمات".

دور في التعليم الأساسي والجامعي

"البقرة علّمت الكثيرَ من الشباب، ومكّنتهم من الالتحاق بالجامعات والمعاهد والمدارس، وساهمت بطريقة غير مباشرة في تسليحهم بالعلم والمعرفة". بهذه العبارة، يؤكّد الصحفي اليمني عبدالعزيز الويز، على دور البقرة في التعليم في اليمن، مضيفًا: "وفضل البقرة على الأُسر اليمنية، حقيقة لا أحد يستطيع إنكارها".

وقال الويز في منشور له على صفحته في فيس بوك: "بدونها –أي البقرة- ما استطاع عددٌ من حملة الشهادات العلمية اليوم -القادمين من الأرياف بالذات- أن يواصلوا تعليمهم، ويحصلوا على ما حصلوا عليه عندما وقفت شحة ظروفهم المادية عائقًا أمامهم، عندما تخلى عنهم من حولهم من الكائنات الأخرى".

وأكّد الصحفي الويز على أنّ ما تنتجه الأبقار من منتجات غذائية ذات جودة عالية، ومذاق بلدي طبيعي، تدرّ عائدًا ماديًّا لا بأس به، يساعد كثيرين على جريان المال بأيديهم، ومواجهة كلفة ضروريات الحياة.

ففي قصة يسردها الصحفي الويز، لـ"خيوط"، يقول: "كان الوالدان يحرصان على بيع ما تنتجه البقرة، وإرسال ثمنه إلى أبنائهم مصروفًا دراسيًّا، حيث كان العجل المبتاع يكفي مصروف فصلٍ دراسيٍّ كامل في تسعينيات القرن الماضي".

يختتم الويز حديثه بالقول، إنّ المعلم الذي أنفقت على تعليمه بقرة حتى حصوله على بكالوريوس في لغة الضاد، يرزح تحت وطأة ظروف معيشية بالغة القسوة، بسبب أزمة انقطاع المرتبات، فالسلطة التي تتولّى أمرَه حاليًّا تتخلّى عن القيام بواجبها بذات الإيجابية التي أدّت بها البقرةُ الدورَ، دون أن يكون مطلوب منها فعل ذلك". 

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English