استقبل العالم قرارَ محكمة العدل الدولية باهتمام واسع، بعد ترقب استمر أيامًا، انتظارًا لبصيص من العدالة بالإمكان أن يلوح من لاهاي، حيث سجّلت جنوب أفريقيا موقفًا تاريخيًّا وضعت فيه العالم والعدالة الدولية على المحك في محاسبة "إسرائيل"، التي تواصل مجازرها البشعة بحق الفلسطينيين في قطاع غزة.
كان هناك إجماعٌ حول ما صدر من محكمة العدل الدولية، حيث اعتبره كثيرون بمثابة قرار استراتيجي في أخذ إسرائيل إلى "العُزلة"، وبدء عمليات المحاسبة ورفع الغطاء القانوني عن أفعالها الإجرامية، حيث أكّدت المحكمة اختصاصها القضائي؛ النظر في دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بارتكاب جريمة إبادة جماعية. بالمقابل، لم تقبل المحكمة طلبَ إسرائيل ردّ الدعوى في القضية المرفوعة من جنوب أفريقيا، ولم توافق بما جاء به الدفاع الإسرائيلي.
يأتي ذلك بالرغم من أنّ التدابير التي أمرت بها المحكمة وفق خبراء ومراقبين، لا تستجيب لجميع طلبات جنوب أفريقيا، ولا تنص بشكل واضح وصريح على وقف الحرب، ومع ذلك فإن القرار يطلب بشكل واضح من إسرائيل وقفَ جميع الإجراءات المنصوص عليها لمنع جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة، حسب نص اتفاقية مكافحة الإبادة الجماعية، بما في ذلك التوقف عن قتل الفلسطينيين، حيث فسر قانونيّون هذه الفقرة بأنها بمثابة نص قانوني يمكن تفسيره بوقف إطلاق النار.
طلبت محكمة العدل الدولية من إسرائيل أن تقدِّم تقريرًا لها بشأن جميع التدابير المتخذة لتنفيذ هذا الأمر خلال شهر من تاريخ صدور هذا الأمر.
فضلًا عن أن قرار التدابير الاحترازية نهائي ومُلزم، ويعتمد على الأدوات الحقوقية الدبلوماسية والقانونية، وكيفية تفسير وتوظيف النصوص التي سيتم توظيفها لاحقًا للبناء على القرار الصادر من لاهاي، إذ يستند ذلك إلى مسودة القرار الصادر الذي اقتنع به وأيده 15 من أصل 17 من القضاة- هناك سببٌ كافٍ يشير إلى وجود إبادة جماعية يبرر اتخاذ ما يلزم من التدابير الاحترازية.
قرارات المحكمة
شددت محكمة العدل الدولية على ضرورة أن تتخذ إسرائيل كلَّ ما بوسعها لمنع جميع الأعمال التي تتضمنها المادة الثانية من اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، فيما يتعلق بالفلسطينيين في غزة. ويشمل ذلك على وجه الخصوص، الأعمال المتعلقة بقتل أعضاء من جماعة أو إلحاق أذى جسديٍّ أو نفسيّ خطير بِهِم أو إخضاع الجماعة -عمدًا- لظروف معيشية يراد بها تدميرها كليًّا أو جزئيًّا.
جاء ذلك في الجلسة التي أعلنت فيها المحكمة قرارها بشأن التدابير المؤقتة التي طلبتها جنوب أفريقيا في قضيتها ضدّ إسرائيل المتعلقة بتطبيق اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، والمعاقبة عليها في قطاع غزة. شملت التدابير المؤقتة التي أصدرتها المحكمة أيضًا، اتخاذ إسرائيل ما يلزم لمنع "فرض تدابير تستهدف الحيلولة دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة".
وقالت رئيسة المحكمة، جون دوناهيو، في الجلسة التي عُقِدت في لاهاي الجمعة 27 يناير/ كانون الثاني، إن على إسرائيل ضمان عدم قيام قواتها بأيٍّ من تلك الأعمال المذكورة سابقًا، وأن تتخذ إجراءات لمنع ومعاقبة المشاركة في التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية فيما يتعلق بالفلسطينيين.
كما قالت المحكمة إنّ على إسرائيل اتخاذ إجراءات فورية وفعّالة لتمكين توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية التي تمس الحاجة إليها لمعالجة الظروف المعيشية الصعبة للفلسطينيين في قطاع غزة. وعلى إسرائيل أيضًا أن تتخذ تدابير فعّالة لمنع إتلاف الأدلة المتعلقة بالادعاءات في نطاق المادة الثانية والثالثة من الاتفاقية.
كما طلبت محكمة العدل الدولية من إسرائيل أن تقدّم تقريرًا لها بشأن جميع التدابير المتخذة، لتنفيذ هذا الأمر خلال شهر من تاريخ صدور هذا الأمر.
وفق الأمم المتحدة فإن التدابير المؤقتة هي أوامر تُصدِرها المحكمة قبل حكمها النهائي في قضية ما، بهدف منع وقوع أضرار لا يمكن إصلاحها. وبموجبها تُلزم الدولة المدعى عليها بالامتناع عن اتخاذ إجراءات معينة حتى تصدر المحكمة الحكم النهائي.
واقتبست القاضية دوناهيو، رئيسة محكمة العدل الدولية، في الجلسة التي قرأت فيها قرارات المحكمة، معلومات وتصريحات صادرة من الأمم المتحدة ومسؤوليها، بمن فيهم الأمين العام ومنسق الإغاثة الطارئة والمفوض العام للأونروا.
وقالت إنّ مارتن غريفيثس، وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية، ومنسق الإغاثة الطارئة، ذكر في الخامس من الشهر الحالي أنّ غزة أصبحت مكانًا للموت واليأس، وأن الأُسَر تنام في الخلاء، فيما تنخفض درجات الحرارة. ونقلت عنه أيضًا القول إنّ الأماكن التي تُوجّه بشأنها أوامر للمدنيين بالانتقال إليها، قد قُصفت، كما تتعرض المنشآت الطبية للقصف المستمر.
وأشارت القاضية دوناهيو، قبل النطق بأوامر المحكمة بشأن التدابير المؤقتة، إلى ما قالته الأمم المتحدة آخر العام الماضي بعد إيفاد مهمة إلى شمال القطاع، عن أنّ 93% من السكان يواجهون مستويات الأزمة من الجوع مع عدم توفر الغذاء الكافي وارتفاع معدلات سوء التغذية.
وقالت إنّ 25% من الأسر في غزة تواجه ظروفًا كارثية وشُحًّا حادًّا في الغذاء وتجويعًا، مما أدى إلى اضطرارهم إلى بيع مقتنياتهم، واللجوء إلى تدابير قاسية ليتمكنوا من تحمل تكلفة وجبة بسيطة.
بعد الحكم الذي أصدرته محكمة العدل الدولية، في نظر كثيرين، انتصارًا مدويًا لجنوب أفريقيا وللعدالة وللإنسانية، بالرغم من كونها لم تأمر مباشرة بوقف إطلاق النار، فالاستجابة لكل الإجراءات التي طلبتها المحكمة لا يمكن تنفيذها إلا من خلال وقف فعلي لكافة العمليات العسكرية ضد المدنيين.
واعتبرت الأمم المتحدة قرارات محكمة العدل الدولية مُلزمة، بموجب مـيثاق الأمم المتحدة والنظام الأساسي للمحكمة. وأكّدت ثقتها في أنّ كل الأطراف ستمتثل على النحو الواجب للأمر الصادر عنها.
كما دعا مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، إسرائيلَ إلى تطبيق أوامر محكمة العدل الدولية بشكل كامل، فيما يتعلق باتفاقية منع الإبادة الجماعية. ودعا الأطراف، مرة أخرى، إلى احترام التزاماتها بموجب القانون الدولي.
تدابير ملزمة
شدّدت الأمم المتحدة على تعليمات المحكمة بشأن ضرورة ضمان إسرائيل، بشكلٍ فوريّ، عدم ارتكاب جيشها لأيٍّ من هذه الأفعال.
وصرح أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، بأن قرار محكمة العدل الدولية، يأمر إسرائيل -من بين أمور أخرى- باتخاذ كل التدابير في إطار سلطتها، لمنع ارتكاب أعمال تقع تحت البند الثاني من اتفاقية منع الإبادة الجماعية فيما يتعلق بالفلسطينيين في غزة.
يتضمن ذلك: منع القتل أو إلحاق الضرر الجسدي أو النفسي، أو إخضاع جماعة -عمدًا- لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليًّا أو جزئيًّا أو فرض تدابير تستهدف الحيلولة دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة.
وفي بيان صحفي منسوب للمتحدث باسمه، تطرق غوتيريش إلى أمر المحكمة لإسرائيل بضرورة ضمان توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية التي تمس الحاجة إليها، لمعالجة الظروف المعيشية الصعبة للفلسطينيين في قطاع غزة، مشيرًا إلى تأكيد المحكمة على أنّ كل أطراف الصراع في قطاع غزة مُلزمَة بالقانون الدولي الإنساني، ومطالبة المحكمة بالإفراج الفوري وغير المشروط عن الرهائن الذين اختُطِفوا أثناء الهجمات على إسرائيل في 7 تشرين الأول/ أكتوبر والمحتجزين منذ ذلك الوقت من حماس وغيرها من الجماعات المسلحة.
وبما يتماشى مع النظام الأساسي للمحكمة، سيرسل الأمين العام، على وجه السرعة، الإخطارَ بالتدابير المؤقتة التي أمرت بها المحكمة إلى مجلس الأمن الدولي.
فتح الباب أمام الشعوب
يعد الحكم الذي أصدرته محكمة العدل الدولية، في نظر كثيرين، انتصارًا مدويًا لجنوب أفريقيا وللعدالة وللإنسانية، بالرغم من كونها لم تأمر مباشرة بوقف إطلاق النار، فالاستجابة لكل الإجراءات التي طلبتها المحكمة لا يمكن تنفيذها إلا من خلال وقف فعلي لكافة العمليات العسكرية ضد المدنيين.
واعتبر مراقبون وخبراء قانونيون أنّ قرار المحكمة وضع إسرائيل ونتنياهو في قفص الاتهام والمساءلة، إضافة إلى أن "الحصانة" والتصرف فوق القانون التي تتصرف على ضوئها قد سقطت، فالجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم.
مؤكدين أنّ الموقف من قرار لاهاي يقتضي دراسة مضمونه ودلالاته وأبعاده والبيئة التي وُلد فيها، والنتائج التي سيُفضي إليها؛ حيث فتح قرار لاهاي البابَ للمحكمة الجنائية الدولية للبدء بملاحقة كبار المسؤولين الإسرائيليين بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وهذا سيفتح على إسرائيل وحلفائها بابًا من الجحيم لا يغلق، بسبب حجم القضايا والأطراف التي شرعت في إعداد قضايا وتقديمها، وقد انتقلت تل أبيب بذلك إلى حالة من الانكفاء على المستوى الدولي بعد عقود من التصرف والعجرفة دون مساءلة.
الأهم في ذلك، وفق خبراء، أنّ كثيرًا من الشعوب التي عانت من جرائم إبادة وجرائم حرب، ستستفيد من قرار محكمة لاهاي، وسيتيح لها ذلك رفع قضايا مماثلة، وتُسقط الحصانة عن أنظمة مستبدة، وقد وُضعت لبنةٌ مهمة من أجل العدالة وسيادة القانون، الأمر الذي يقتضي التحرك لتشكيل جبهة عالمية من أجل العدالة وحماية الشعوب من أعمال الجرائم ضد الإنسانية.