تعود من جديد قضية استحواذ أقارب مسؤولين في الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًّا، على المناصب والمنح الدراسية الخارجية، وسط موجة غضب عارمة من قبل يمنيين.
وكشفت، مؤخرًا، وثائق رسمية مسربة لمنح دراسية صادرة عن وزارة التعليم العالي في العاصمة المؤقتة عدن، تصدرَ فيها أبناء وأحفاد وأقارب مسؤولين ووزراء، من ضمنهم رئيس المجلس الرئاسي رشاد العليمي، ورئيس البرلمان سلطان البركاني، ووزير التعليم العالي خالد الوصابي، بالإضافة إلى دبلوماسيين وقادة عسكريين وحزبيين؛ ما أثار سخطًا شعبيًّا، رفضًا لما وصفه الكثيرون بـ"الفساد".
وعلى مرّ العقود الأربعة الماضية، رفعت الحكومات المتعاقبة في اليمن شعار "محاربة الفساد"، وأعلنت عن قرارات لتطبيق مبدأ تكافؤ الفرص، من دون أن تُقدِّم إجراءات لتنفيذ ذلك عمليًّا، لا سيما في ظل هيمنة المحاصصة السياسية أو ما يُعرف بـ"المحسوبية".
تضمّ الوثائق المُسرَّبة، وعددها 464 وثيقة، قوائم بأسماء المبتعثين للدراسة في الخارج؛ بالإضافة لكشوفات صرف المساعدات المالية للربع الرابع لعام 2021 للطلاب المبتعثين من وزارة التعليم العالي وبقية الوزارات الأخرى، في 40 دولة، لما عدده 4 آلاف و910 طلاب وطالبات، بمبلغ تجاوز 8 ملايين دولار.
ورأى يمنيون في هذا نموذجًا بارزًا عن الفساد في أجهزة الدولة، واستغلال المسؤولين الوظيفةَ العامة لخدمة أقاربهم وذويهم على حساب الطلاب المتفوقين.
ويحتل البلد الذي يشهد حربًا منذ ثمانية أعوام، الترتيبَ الـ16 عربيًّا، والـ174 عالميًّا، في مؤشر مدركات الفساد لعام 2021، وفق تصنيف منظمة مكافحة الفساد العالمية "الشفافية الدولية".
أوائل بلا منح
محمد عبدالعزيز عسكر، أحد أوائل الجمهورية، وواحد من بين مئات الطلاب الذين حُرموا من حقّهم في الحصول على منح دراسية، رغم تفوقهم العلمي.
حصل محمد على 99.5% في الثانوية العامة، واحتل الترتيب الثالث ضمن العشرة الأوائل في وادي حضرموت لعام 2020-2021. إلّا أنّه لم يحصل على منحة رغم الوعود التي قُطعت له بالحصول عليها؛ كما يؤكّد والده الذي يقول لــ"خيوط، أنّه يشعر بالخيبة والظلم من عدم حصول ولده على حقه في الابتعاث والدراسة في الخارج.
ورغم مرور عام على تخرجه إلّا أنّه لا يزال متوقفًا عن الدراسة، أملًا في الحصول على منحة دراسية يواصل من خلالها تعليمه الجامعي.
فتحت كشوفات المنح المسربة البابَ أمام خريجي الجامعات للمطالبة باعتماد قرارات التعيين لكافة أوائل الدفع، حيث تظاهر العشرات من طلاب أوائل جامعة تعز بتعيين أوائل الجامعات الحكومية بدرجة معيد، واعتماد حصة محددة لأوائل الجامعات من منح الابتعاث للدراسات العليا، وعدم استئثارها لأبناء المسؤولين.
يضيف: "طرقنا كافة الأبواب، ولكن دون نتيجة حتى الآن. كان ردّهم أنّ منح الأوائل أُلغيت وأنّها تقتصر فقط على المراكز الأولى".
شارك محمد هذا العام في امتحانات المفاضلة على منح التبادل الثقافي، وحصل على الترتيب الثاني عشر على مستوى محافظة حضرموت. وحتى الآن لم يحصد بعدُ نتيجةَ تفوقه.
أمّا أحمد محمد (21 عامًا)، طالب يمني، تخرّج من إحدى مدارس الثانوية العامة- القسم العلمي، في السعودية، بمعدل 99.8% عام 2020، ثم قدّم وثائقه إلى السفارة اليمنية بالرياض للحصول على منحة دراسية، لكن دون جدوى.
يقول والد أحمد، إنّ "مدير البعثات في السفارة طلب منه دفع 20 ألف ريال سعودي، لقَبول الوثائق، على الرغم من أنّ ولده يعدّ ضمن أوائل الرياض". ويرى في حديثه لـ"خيوط"، أنّ "العبث الحاصل في مؤسسات الدولة، حرم الكثير من المتفوقين من الحصول على حقّهم في استكمال التعليم".
حساب بنكي وفيزا!
طلبة الجامعات الأوائل هم الآخرون يشكون أيضًا من عدم حصولهم على الحقّ في الابتعاث للدراسة في الخارج، كما هو الحال مع محمد البحيري، الذي حصل على الترتيب الثاني على دفعته في اللغة الفرنسية بجامعة تعز، ورُشح من قبل الجامعة لمنحة دراسية في فرنسا.
حصل البحيري في 2014 على الموافقة من جامعة رويان الفرنسية لدراسة الماجستير، وقدّم وثائقه إلى القنصلية الفرنسية في العاصمة صنعاء، آنذاك، ولكنّهم طلبوا منه كشف حساب بنكي بمبلغ لا يقل عن 12000 يورو مقابل حصوله على الفيزا للسفر إلى فرنسا، حدّ قوله.
"كنت الأجدر بالمنحة بشهادة الدكاترة والمعلمين، إلّا أنّها ذهبت لشخص آخر!"؛ يضيف في سياق حديثه لـ"خيوط"، مشيرًا إلى أنّه منذ ذلك الحين توقف عن متابعة المنحة، نظرًا لتردّي وضعه المادي.
يصف البحيري كشوفات المنح المسربة مؤخرًا، بأنّها إحدى "صور الفساد المستشري في مؤسسات ما يسمى بالشرعية وهي المحسوبية"، حسب تعبيره.
وفتحت كشوفات المنح المسربة البابَ أمام خريجي الجامعات للمطالبة باعتماد قرارات التعيين لكافة أوائل الدفع. حيث تظاهر العشرات من طلاب أوائل جامعة تعز بتعيين أوائل الجامعات الحكومية بدرجة معيد واعتماد حصة محدّدة لأوائل الجامعات من منح الابتعاث للدراسات العليا، وعدم استئثارها لأبناء المسؤولين.
"ضغوطات كبيرة"
وعلى مدى أسبوع من تسريب الوثائق، تصدّرت هذه القضية منصات التواصل الاجتماعي تحت هاشتاجات عدة، أبرزها: "#فضيحة_المنح"، و"#فساد_التعليم_العالي"، في حملة إلكترونية غير مسبوقة للمطالبة بمحاسبة وزير التعليم العالي خالد الوصابي، وبقية المسؤولين المتورطين بذلك.
ولم يرّد مسؤولون في وزارة التعليم العالي بالعاصمة المؤقتة عدن، على طلب "خيوط" للتعليق حول الأمر.
وكان الوصابي نفى علاقته بأسماء أبناء المسؤولين الواردة في كشوفات الابتعاث، بحُجّة أنّها أُضيفت قبل تعيينه وزيرًا للتعليم العالي. لكن نتائج البحث المتقدم عبر الإنترنت تشير إلى تولي الوصابي منصب نائب وزير التعليم العالي ورئيس لجنة المفاضلة لمنح التبادل الثقافي خلال الفترة من ديسمبر 2017، وحتى إعلان تشكيل حكومة مناصفة بين الشمال والجنوب، وَفقًا لاتفاق الرياض أواخر 2020.
وقال الوصابي الذي ورد عددٌ من أقاربه في الوثائق المسربة، إنّ "الوزارة تُقدّم منحًا سنوية للطلاب اليمنيين أوائل الجمهورية، عبر منح الابتعاث الثقافي".
وأضاف في حوار مع قناة "يمن شباب"، أنّه خلال عامي 2016 و2017، لم يكن هناك وزارة للتعليم العالي في عدن، وتم توزيع المنح عبر السفراء في الخارج.
وزعم أنّ أكثر من 95% من منح المبتعثين هي لأوائل الجمهورية، مشيرًا إلى تعرضه لـ"ضغوطات كبيرة من قبل مسؤولين وقيادات عسكرية من أجل حصول أبنائهم على منح ومقاعد دراسية".
وأثناء مراجعة كشوفات المبتعثين عثرنا على طلاب من أقارب مسؤولين وقادة أحزاب سياسية، حصلوا على منح دراسية رغم انخفاض معدلاتهم في شهادة الثانوية العامة، كما هو موضح في الجدول أدناه.
توجيه واقتراح
وفي أول موقف حكومي إزاء ما يسمّى بـ"فضيحة المنح"، وجّه رئيس المجلس الرئاسي رشاد العليمي، بـ"إلغاء أسماء كافة المبتعثين غير المستحقين من أبناء مسؤولي الدولة بمن فيهم أيُّ شخص من عائلته المقربين من الدرجة الأولى، وتحويلها إلى طلاب مستحقين مستوفين للشروط".
كما تضمّن التوجيه، تنفيذَ قرار مجلس الوزراء بحصر الابتعاث الخارجي على برامج التبادل الثقافي، وفقًا لمعايير دقيقة، وشفّافة.
منذ ذلك الحين، لم تُتخَذ أيُّ إجراءات عملية، رغم انقضاء نحو أسبوع على التوجيهات التي قلّل البعض من شأنها، ما لم يتم محاسبة المسؤولين عن ملف المنح.
يصف وكيل وزارة الخارجية السابق، مصطفى النعمان، التوجيهات بـ"التفاعل الإيجابي"، لكن في الوقت ذاته، اعتبر بأنّها "مجرد كلمات لامتصاص الضجّة، وسيظل المواطنون يتوجّهون إليه بالنقد والمسؤولية".
وفي منشور على صفحته بموقع فيسبوك؛ اقترح النعمان على المجلس الرئاسي توجيهَ مذكرة إلى رئيس مجلس الوزراء، تتضمن "إلغاء كافة التعيينات في السلك الدبلوماسي التي صدرت منذ 2015، خارج قانون السلك (...)، ووقف صرف كل المخصصات المالية التي تم منحها في السفارات لأيِّ شخصٍ -دون استثناء- لا يقوم بأيِّ مهمة رسمية".
كما اقترح "منع تعيين أيِّ شخصٍ تجاوز السنّ القانونية في البعثات الدبلوماسية دون استثناء؛ والالتزام بقانون السلك الدبلوماسي في تعيينات رؤساء البعثات وعدم تجاوز النسبة المحددة لرئاسة الدولة. إلى جانب إغلاق كافة الملحقيات الفنية العبثية".
ودعا النعمان إلى إيقاف الدرجات الوظيفية على أبناء أيّ مسؤول من وكيل وما أعلاه دون استثناء؛ وألّا تمتد درجة القرابة في الحصول على المنح أو الوظيفة الدبلوماسية، إلى الأقارب من الدرجة الثانية.
خرق القانون
من الناحية القانونية؛ يعدّ استحواذ المسؤولين على المنح الدراسية، خرقًا للمواد 24 و41 و54 من الدستور اليمني، ومخالفًا لقانون الابتعاث، حسبما أفاد المدير التنفيذي للمركز الأمريكي للعدالة، المحامي عبدالرحمن برمان.
وينصّ مضمون المواد الثلاث، على أنّ الدولة تكفل تكافؤ الفرص لجميع المواطنين ومساواتهم في الحقوق والواجبات العامة، وأنّ التعليم حقٌّ للمواطنين جميعًا تكفله الدولة، وفقًا للقانون.
يقول برمان لـ"خيوط" إنّ "هذه المنح كانت حقًّا للطلاب المتفوقين، وكان يفترض أن يكونوا هم الوافدين إلى الخارج للدراسة، لكنّ هؤلاء المسؤولين ارتكبوا جريمة استغلال النفوذ والسلطة في جلب منافعهم الشخصية".
ويوضح أنّ "قانون الابتعاث حدّد شروطًا وإجراءات لاستكمال عملية الإيفاد، من ضمنها تشكيل لجان من عدة وزارات، لوضع خطة الابتعاث وتحديد مجالات تخصص المُبتعثين وفق الاحتياج". واصفًا استحواذ أقارب المسؤولين على المنح الدراسية بأنّها "جريمة جنائية".