الكتاب- المبحث العلمي، وثيقة رصد لخارطة الفساد: منابعه، ومنابته. يزدان المبحث بالنزول الميداني والاستقصاء بالشهادة والتتبع الدقيق، كما يعزز بالجداول والأرقام الصحيحة الدقيقة وبالتقارير الدولية الصادرة في أعوام مختلفة.
يرصد الكتاب آليات وأشكال الفساد في القطاع النفطي- المرتع الخصب للفساد، ويرصد التعتيم الرسمي على البيانات، واختفاء جانب كبير من عائدات هذا القطاع في جيوب مديري الشركات والوسطاء والمسؤولين، ويرى أن الاعتمادات الإضافية شكل من أشكال الفساد القائمة على مسميات عامة ومصطلحات مبهمة ومضللة.
السلطة التشريعية والرقابية ورئاسة البرلمان لا تعرف شيئًا عن البيانات الحقيقية للنفط، ولا يعرفها -بحسب إشارة الدكتور- سوى أنفار قلائل، وتمر عبر قناة ضيقة، لتصل إلى أعلى هرم السلطة.
الاعتماد الإضافي مخالف للقانون المالي، ويدرس الباحث كل مظاهر الفساد في الاعتماد الإضافي، وبالأخص في موازنة الدفاع والداخلية ورئاسة الجمهورية (أدوات الحرب والقمع ورأس الفساد). [القارئ].
ويعزز الباحث البحث بجداول للجهات المستأثرة بالاعتمادات، ويتناول التعويضات، وأتعاب وتكاليف المرافعات القضائية الدولية، بسبب فساد وإجراءات التعاقد، كما يدرس الفساد عبر تهريب المشتقات النفطية والمتهمين بالتهريب، ومناطق التهريب، ويدرس الأشكال الأخرى للفساد النفطي: حالة الإهدار، غياب الرقابة، عدم وجود سجل شامل بالمعفيات. مدخلات الشركات النفطية بمئات المليارات معفية تخصم من نفط الكلفة يفترض عودتها بعد انتهاء العقود، ولكنها لا تعود. (ص192).
قطاع الإيرادات لا يعلم عن الصادرات إلا بعد أسابيع، ولا عن الإيرادات من تلك الصادرات. ويدرس مخالفات الشركات، والتجاوزات للقوانين والأنظمة بالتفصيل؛ ليصل إلى أن السبب الأساس لتفشي الفساد هو السياسة الرسمية الراعية للفساد والحامية له، ويجدول نسبة صادرات النفط الخام خلال الفترة من 2000-2006، بملايين الدولارات، وجدول بحصة الحكومة، وآخر بأبرز مظاهر الفساد في اليمن، وأهم الجهات المهمشة، والجهات المستأثرة بالاعتمادات، بحسب قراءة الباحث الاقتصادي. ويرى أن الفساد في اليمن بمثابة وباء مدمر يبتلع مقدرات وموارد التنمية، ويجهض الجهود الرسمية والمجتمعية وأية محاولات لإصلاح الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية، كما أنه استنزف -ولا يزال- موارد البلاد الشحيحة، ويحرم خزانة الدولة منها، ويقف حجر عثرة أمام قدوم وتفعيل الاستثمارات الوطنية والأجنبية. (ص 159).
يدرس الباحث طبيعة الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية؛ فيقرأ تراجع معدلات النمو الاقتصادي للناتج المحلي الإجمالي من 5.6% خلال العام 2005، إلى 3.6% عامي 2006 و2007 على التوالي، ويرجع السبب -كما يرى- إلى تزايد ارتفاع الأسعار عالميًّا للصادرات من النفط. (ص160).
كما يأتي على قراءة الأُسَر الواقعة تحت خط الفقر عام 2006، البالغة نسبتها حوالي 40% من مجموع الأسر اليمنية، إضافةً إلى أن 45.2% من السكان يعيشون تحت خط الفقر ممن يحصلون على دولارين في اليوم الواحد. ويدحض تقرير الحكومة المقدم إلى البرلمان أوائل العام 2008، حيث يشير إلى تراجع حالة الفقر إلى ما نسبته 35%، وهي كما يرى نسبة مئوية لا تأخذ في الحسبان الأرقام المطلقة للأعداد المتزايدة من الفقراء مقارنة بالنمو السكاني المتزايد. (ص160)، مدللًا على تسييس الأرقام، وتكييف قاعدة البيانات الرسمية. (ص 160).
ويتناول تزايد معدلات التضخم، وخاصة خلال الثلاث السنوات الأخيرة [من زمن البحث]، لتبلغ في العام 2005، ما نسبته 20.2%، ثم إلى 22% عام 2006؛ بل إن معدلات التضخم لأهم مجموعة من السلع الغذائية، خلال النصف الأول من عام 2007، وصل إلى 29%، ويتوقع تصاعد معدلات التضخم بشكل أكبر. كما يقرأ تزايد الدين الخارجي الواصل 5.8 مليار دولار منها 1.5 مليار ديون خارجية غير مستخدمة بسبب سوء الإدارة، وعجز الحكومة عن استيعابها وتوظيفها. (ص161). يضيف الباحث: "أما إذا أضفنا صافي الدين الداخلي إلى الناتج المحلي في نفس الفترة فنسبته حوالي 38%، وهي نسبة كبيرة تقترب من حد الخطر غير الآمن، خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار الوتيرة المتسارعة لتناقص إنتاج وصادرات النفط والاحتياطي منه". (ص 161).
الكتاب –الخريطة– ملف، بل ملفات زاخرة بسرديات الفساد الكبرى في مفاصل الدولة اليمنية، "من الساس إلى الراس"، وهي دراسة علمية تتقصى الفساد وتترصد منابته ومنابعه، راصدةً بموضوعية ودقة وكفاءة، التقارير المحلية والدولية، وتتحرى المعلومات الموثقة والصادقة، وتنزل إلى الميادين لمعرفة واقع الفساد ورموزه وآلياته
يقف الباحث إزاء الاختلالات في القطاع النفطي؛ فيرى أن تراجع معدلات النمو الاقتصادي خلال السنوات الأخيرة يعود إلى عدة أسباب، أهمها: تراجع نمو الناتج المحلي لقطاع النفط والغاز بحوالي 8.3%، و12.2 خلال عامي 2006 و2007، على التوالي؛ إذ تناقص إنتاج النفط الخام من حوالي 146 مليون برميل عام 2005، إلى حوالي 117 مليون برميل عام 2007. (ص 162).
كما يرصد دور الإيرادات النفطية في موازنة الدولة؛ فهي نسبة عالية وصلت إلى 68%، و74% من إجمالي موازنة العامين 2005 و2006، بالترتيب. يضيف أن الصادرات النفطية تعتبر المصدر الوحيد تقريبًا لما تحتاجه البلاد واقتصادها من العملات الصعبة؛ إذ وصلت عائداتها إلى 93% و92%، من الإجمالي العام للصادرات خلال عامي 2005 و2006، على التوالي. (ص163).
يصل الباحث أمام تلك المعطيات، فيقرأ عميقًا، وببصيرة نافذة، انحدار المؤشرات؛ فاستمرار تناقص الإنتاج النفطي في ظل الفساد الرسمي الذي يرتع ويستنزف مقدرات هذا القطاع العام الذي يعتبر بمثابة شريان الحياة الرئيسي، لشعب يزداد فقرًا وإنهاكًا، حتمًا سيكون له آثار خطيرة على معدلات النمو الاقتصادي، وعلى الإيرادات النفطية، وعلى الاحتياطي الخارجي من العملات الصعبة، وينعكس الأمر بصورة كارثية أشد وطأة على الأوضاع الاجتماعية والمعيشية. (ص 163).
يرى الباحث أن الحكومة ومراكز الفساد فوتت فرصة الطفرة النفطية بالإنفاق العبثي، واستيلاء حيتان الفساد على العائدات، ولم توظف الطفرة بما يخدم الاقتصاد الوطني. ويدين تجاهل الدولة الدعوات، ومنها دعوة صندوق النقد الدولي حول التوقعات الاقتصادية العالمية المؤكدة على أهمية الاستفادة من الفوائض الناجمة عن ارتفاع أسعار النفط واستثمارها في المجالات التي تحقق نموًّا على المدى الطويل. (ص 164، بتصرف).
ويتوقع الدكتور، أو بالأحرى يقرأ التوقعات حول موعد نضوب النفط، ويربط تضاؤل الكميات المنتجة بتزايد حالات الفقر والبطالة واتساع مساحتيهما مع تزايد سكاني، واستشراء الفساد وتعاظمه، حسب تقارير معظم الهيئات والمنظمات المحلية والدولية. (ص 163، بتصرف). متوقعًا القضاء على الاستقرار الاقتصادي الكلي؛ ما يعني العجز عن تقديم أقل الخدمات الاجتماعية، مشيرًا إلى أنه لم تقدم أي قضية ضد أي مسؤول، ويشير إلى قول فلافيا بانسيري: "إن اليمن ليس بلدًا فقيرًا بالكامل؛ فله موارده الخاصة، ولكنه يحتاج إلى استخدامها بشكل جيد وبدون فساد، وكذلك بالشفافية التي تساعد اليمنيين على معرفة أين تذهب الأموال. (ص 166، مع بعض تصرف).
يدرس سياسة التنمية في اليمن، ويقرأ حسب التقارير الأخيرة للبنك الدولي، تضاعف مشاكل اليمن الاقتصادية والاجتماعية، وشحة الموارد، والسياسات الفاشلة وغياب فاعلية المؤسسات الحكومية؛ ما تسبب في قطع المانحين مساعداتهم، كما علق صندوق تحدي الألفية التابع للولايات المتحدة الأمريكية مساعداته بسبب الفساد، وعدم تنفيذ الحكم بتعهداته بمكافحة الفساد. ويقرأ تراجع الإنتاج ليعود إلى المنتج عام 2001، ويشير إلى السيل الجارف من التصريحات المشيرة إلى تفاقم حدة الفساد، والتحذير من تبعاته وعواقبه. (ص167).
وفي حين يشكك الباحث -ومعه كل الحق- في جدية المعالجات الحكومية، يشير إلى تقارير دولية عدة تدرس مؤشرات الدولة الفاشلة، وظاهرة الفساد والإصلاح في اليمن، مؤكدًا أن أهمها كان 15 تقريرًا، صدرت خلال العام 2007، عن منظمات دولية متخصصة وعريقة. (ص 168).
الجانب المتعلق بالدراسة الميدانية مهم، ويحتاج إلى قراءة متأنية وشاملة.
يدرس الباحث نماذج للفساد في بعض البلدان وعلائم الفشل فيها، كما يزدان الكتاب باستشهادات لباحثين وعلماء مهمين، أمثال الدكتور أبوبكر السقاف وعبدالإله بلقزيز.
الكتاب –الخريطة– ملف، بل ملفات زاخرة بسرديات الفساد الكبرى في مفاصل الدولة اليمنية، "من الساس إلى الراس"، وهي دراسة علمية تتقصى الفساد وتترصد منابته ومنابعه، راصدةً بموضوعية ودقة وكفاءة، التقارير المحلية والدولية، وتتحرى المعلومات الموثقة والصادقة، وتنزل إلى الميادين لمعرفة واقع الفساد ورموزه وآلياته. المبحث المهم غير المسبوق، شهادة وفاة دولة علي عبدالله، التي طالما هربت إلى الحروب الكاثرة: حرب 94 ضد الوحدة وضد الجنوب، وحروب صعدة الستة، وهي إدانة دامغة لأحزاب الحكم والمتحالفين معهم والذين لم يستشعروا خطورة المستوى الذي وصل إليه الفساد.
الاحتجاجات المدنية في عموم المدن اليمنية من الشبان والشابات ومن مختلف فئات وشرائح المجتمع، تردد: "الشعب يريد إسقاط النظام"، كانت تجسد رؤية خارطة الفساد، في حين كانت أحزاب "اللقاء المشترك" تساوم على الفتات.