لحظات حرجة عاشها المريض، أحمد عبدالله حميد النبوص (54 سنة)، أحد ضحايا الأخطاء الطبية، في مستشفى حكومي بصنعاء.
وصل النبوص الذي يعمل مديرًا لإدارة بناء القدرات في شعبة التدريب والتأهيل في مكتب تربية صنعاء، مشيًا على الأقدام، يشكو من ضعف نظر بسيط في العينين- إلى عيادة عيون في أحد المشافي الحكومية، بناءً على نتائج فحوصات كان قد عملها في مستشفى خاص، بينت أنّ حدة النظر في العين اليمنى (400/20)، و(CF1-50mt) في العين اليسرى بسبب المياه البيضاء في العينين.
لكن النبوص، فقدَ بصره تمامًا بسبب خطأ طبي، إصابة النبوص مجرد حادثة ضمن عشرات الحوادث والأخطاء التي قد تؤدي إلى حصد أرواح المرضى أو التسبب بإعاقات وعاهات مستديمة، في ظل غياب الرقابة وعدم الإحساس بالمسؤولية.
الجدير بالذكر أنّ الأخطاء الطبية باتت تشكّل هاجسًا لدى جميع اليمنيين الذين فقدوا الثقة في الخدمات الطبية عمومًا، ولعل عدم رصد هذه الأخطاء، سواء في المستشفيات الحكومية أو الخاصة، يقف عائقًا أمام تحديد حجم الكارثة، غير أنّ المؤكّد للجميع أنّ مسلسل الأخطاء الطبية مستمر ولا أحد يعلم متى سينتهي.
جريمة خطيرة وانتهاك إنساني
عبدالرحمن الزبيب، مستشار قانوني وإعلامي، يقول لـ"خيوط": "يلجأ المريض للمستشفى، سواء كان حكوميًّا أو خاصًّا، طلبًا للتطبيب وتخفيف الألم، لكن قد يتحول هذا اللجوء لسبب في حدوث عاهة مستديمة أو أوجاع أكبر وأشد بسبب احتمالية ارتكاب خطأ طبيٍّ ما، إذ لا تقتصر الأخطاء الطبية على العمليات الجراحية الكبيرة أو الصغيرة فقط، بل قد تحدث في أي مرحلة من مراحل الاستشارة أو التشخيص أو العلاج والتدخلات الجراحية أو حتى في مرحلة الرعاية اللاحقة للعمليات الجراحية، نتيجة قصور في القدرات المادية والتجهيزية للمستشفيات أو في الكادر البشري غير المؤهل.
في اليوم الثاني، قاموا بإزالة الشاش عن عيوني وسألوني: "هل ترى؟"، فأجبتهم: "لا، لا"، قاموا بتوجيه إضاءة التلفون وكشاف الإضاءة الخاصة بالعيون دون جدوى، بينما الدكتور المعالج قام مسرعًا من غرفته إلى عندنا بعد سماع حديث الممرضة وهي تقول إني فقدت النظر، همس إليها بكلمات خافتة: "الخطأ في (التخدير)"!
خطأ لا يغتفر
يمسح أحمد النبوص دموعه وهو يتحدث لـ"خيوط": "كنت أعاني من ضعف نظر في العينين، لجأت لإحدى المخيمات الطبية لإزالة المياه البيضاء، قالوا لي بأن المياه ما اكتملت في العين، انتظرت فترة قصيرة وذهبت إلى مستشفى خاص لإجراء فحوصات متكاملة للعينين والشبكية وضغط العين. أظهرت نتائج التحليلات وجود مياه بيضاء تحتاج إلى عملية سحب بمبلغ 600 ألف ريال يمني للعينين، كانت ظروفي لا تسمح بدفع هذا المبلغ كوني موظفًا حكوميًّا ونحن بلا مرتبات منذ ست سنوات، نصحوني بالتوجه إلى أحد المستشفيات الحكومية التي تقدم عرضًا بمناسبة المولد النبوي الشريف".
ذهب النبوص لعمل عملية إزالة المياه البيضاء في المستشفى الحكومي، قاموا بإعادة كافة الفحوصات، التي بيّنت وجود مياه بيضاء، على إثر ذلك تم إدخاله غرفة العمليات وهو يمشي على رجليه ويرى كلَّ من حوله، بعدها قامت طبيبة التخدير بتخديره. فور انتهائها من التخدير، فقدَ النبوص قدرته على النظر مباشرة، كأنها قامت بإطفاء نظره، وقتها صرخ النبوص بأعلى صوته: "نظري راح، نظري راح"، قالوا له: "لا تقلق، هذا فقط بسبب التخدير، وسوف يعود لك النظر طبيعي بعد الانتهاء من العملية".
يقول النبوص لـ"خيوط": "قام استشاري أمراض وجراحة العيون ورئيس قسم العيون بإجراء العملية لي، وبعد الانتهاء من العملية قام الأطباء والممرضون بإخراجي، وعيوني مغطاة بالشاش، حاولت النظر من تحت الشاش دون جدوى تُذكر، كنت لا أرى غير ظلام مطبق، لا ملامح لضوء الشمس، ولا بصيص ضوء، وقتها تأكدت بأنني قد فقدت النظر"، ويضيف: "في اليوم الثاني، قاموا بإزالة الشاش عن عيوني وسألوني: "هل ترى؟"، فأجبتهم: "لا، لا"، قاموا بتوجيه إضاءة التلفون وكشاف الإضاءة الخاصة بالعيون دون جدوى، بينما الدكتور المعالج قام مسرعًا من غرفته إلى عندنا بعد سماع حديث الممرضة، وهي تقول إني فقدت النظر، همس إليها بكلمات خافتة: "الخطأ في التخدير"، وأعطاني علاجات خاصة بالنزيف لاستخدامه في المنزل على أساس أنّ هذا العلاج سيعيد نظري".
الإهمال جريمة أيضًا
ويضيف الزبيب: "الجريمة قد ترتكب بعمد أو بإهمال، وفي كلا الحالتين يتحمل الطبيب والمستشفى المسؤولية القانونية والأخلاقية".
هذا ويعتبر القانونُ اليمني الخطأَ الطبي جريمةً جسيمة إذا نتج عنه وفاة المريض؛ حيث نصت المادة (241) من قانون العقوبات على أنه: "يعاقب بالدية المغلظة أو الحبس مدة لا تزيد عن خمس سنوات من اعتدى على سلامة جسم غيره بأية وسيلة ولم يقصد من ذلك قتلًا ولكن الاعتداء أفضى إلى الموت".
وفي حالة عدم وفاة المريض فإن الجريمة غير جسيمة، وبالتالي عقوبتها الحبس سنتين أو غرامة مع الأرش بناءً على نص المادة (245) من قانون العقوبات: "يعاقب بالدية أو الأرش على حسب الأحوال، من تسبب بخطئه في المساس بسلامة جسم غيره، وبالحبس مدة لا تزيد عن سنة أو بالغرامة، وإذا نشأ عن الجريمة عاهة مستديمة أو إذا وقعت نتيجة إخلال الجاني بما توجبه عليه أصول وظيفته أو مهنته أو حرفته أو مخالفته للقوانين واللوائح أو كان تحت تأثير سُكر أو تخدير عند وقوع الحادث، كانت عقوبته الحبس مدة لا تزيد عن سنتين أو الغرامة".
لا داعي للعلاجات
تواصلت معاناة النبوص بعد العملية، إذ تأكد تمامًا استحالة أن يعود نظره، وأن كل تلك الأدوية التي يتناولها على أمل أن يعود، ليست ذات جدوى ولن تأتي بنتيجة، يقول: "وقتها أصبت بانهيار وصدمة شديدة، خاصة بعد أن تم عرضي على أكبر جراح عيون لديهم، وكانت النتيجة مخيبة (العين منتهية)".
عاد أحمد النبوص إلى المستشفى الحكومي الذي عمل فيه العملية مرة أخرى غاضبًا جدًّا، لكن الدكتور الذي عمل له العملية طمأنه من جديد، وأخبره عن إمكانية إجراء عملية ثانية عند أكبر أطباء العيون في اليمن، عن طريق حقن الغاز، حيث يتم حقن الغاز لمن يعاني من انفصال جزئي في الشبكية، لكن النبوص كان يعاني من (انفصال كلي).
بعد الانتهاء من حقن الغاز، جلس النبوص أسبوعين في البيت، طوال هذه المدة كان ممنوعًا من رفع رأسه ومن الحركة إلى جانب التزامه بوصفة علاجية جديدة. اكتملت المدة، عاد بعدها للدكتور، ليخبره أنه لم يستفِد من حقن الغاز!
"لاحقًا، خضعتُ لعملية كبرى استمرت ثلاث ساعات، تعرضت فيها لمضاعفات جديدة؛ منها ارتفاع وظائف الكبد، وحساسية شديدة في العين، إضافة إلى مشاكل أخرى بسبب التخدير ووقت العملية الطويل، بعد هذا كله فشلت العملية، وعلمت أنهم كانوا يدركون أنها فاشلة منذ البداية"، يحكي النبوص معاناته.
الموافقة على العملية لا موافقة على الخطأ
يشترط قانون مزاولة المهن الطبية والصيدلانية إعطاءَ المريض المعلومات الضرورية عن العملية الجراحية التي ستجرى له قبل إجرائها (وأخذ موافقته كتابيًّا، أما إذا كان المريض فاقدَ الوعي أو ناقص الأهليّة أو كان مصابًا بعاهة تمنعه من التعبير عن إرادته، فتؤخذ موافقة ولي أمره)، وليس هناك أي إشارة إلى أنّ الموافقة الكتابية تشمل التغاضي أو التنازل عن الحق في حال حدوث أي خطأ طبي.
وَفق القوانين الطبية السائدة، فإنّ مزاوِل المهنة يكون محلًّا للمساءلة التأديبية إذا أخلّ بإحدى واجباته المهنية أو خالف أصول المهنة وآدابها، وفي هذه الحالة يحق للمجلس الطبي الأعلى أن يطبّق إحدى العقوبات التأديبية التي قد تصل إلى شطب الاسم من سجلات المجلس، وإلغاء ترخيص مزاولة المهنة.
رفع القضية إلى المجلس الطبي
يتابع النبوص حديثه: "قررت الذهاب إلى المجلس الطبي لتقديم شكوى، لكني تفاجأت بقرار المجلس الطبي منحازًا للدكتور الذي عمل لي العملية، والذي كذب في إفادته حين قال إني كنت أرى ثاني يوم من العملية".
قصور تنفيذي
ويسرد لنا المستشار الزبيب ما جاء في القانون اليمني حول اختصاص النظر والبتّ في جرائم الأخطاء الطبية على المجلس الطبي الأعلى حصرًا، وفقًا لنص المادة (21) من القانون رقم (28) لسنة 2000 بشــــأن إنشاء المجلس الطبي والتي نصت على أنّ على المجلس الطبي الأعلى البتّ في الشكوى خلال عشرة أيام من تاريخ تقديم الشكوى"، وهو ما لا يتحقق؛ إذ تتأخر الشكاوى لدى المجلس الطبي الأعلى لأشهر طويلة.
كما أنّ القانون منح الطرف الرافض لقرار المجلس الطبي الحقَّ في التظلم، مع ضمان الحق في اللجوء إلى القضاء بحسب المادة (22) من قانون إنشاء المجلس الطبي الأعلى.
وأحال القانون تنظيم إجراءات التحقيق في الأخطاء الطبية إلى اللائحة التنفيذية التي لم تصدر حتى الآن.
أفضل الموت على سريري
في نهاية حديثه لـ"خيوط"، يقول النبوص: "لأني فقير وعديم الحيلة، مرت هذه الجريمة مرور الكرام، وبت لا أتمنى شيئًا سوى الموت على سريري في المنزل، على أن أدخل المستشفيات، سواء كانت حكومية أو خاصة، في اليمن" .
أخطاء بلا حدود
باتت حياة العشرات من المواطنين في اليمن عرضة للأخطاء الطبية القاتلة التي لا تنتهي والتي قد تُظهر الأطباء أشباحًا في نظر المرضى، وما بين قلة الخبرة وبين الاستغلال المادي من أشخاص ليس لهم في مهنة الطب إلا اسمها، يتحول المريض إلى مجرد سلعة للمتاجرة به، ليس (أحمد النبوص) الضحية الوحيدة، قبله وبعده عشرات بل مئات الضحايا.
تحرير خيوط