المشاركة المجتمعية مفهوم آخذ في الانتشار والتداول بين رجال التخطيط والإدارة اعتبارًا مـن النصف الثاني من القرن العشرين، وذلك على المستويين القومي والعالمي، وترتكز على إشراك المواطنين بوصفهم أفرادًا ومنظمات ومؤسسات في الاضطلاع بمسؤوليات التفكير والعمل من أجل مجتمعهم وتنميته، وقد بينت الخبرة التاريخية أن المجتمعات لا تنمو ولا تتطور إلا بالشراكة المجتمعية التي تعني اشتراك كل أفراد المجتمع وفعالياته الاجتماعية بتنمية مجتمعهم بما يتيحه لهم من فرص متساوية في الممارسة الاجتماعية (1).
وتنطلق فكرة الشراكة المجتمعية من واقع أن الناس في المجتمع هم شركاء فيه على قدر متساوٍ من الحق والأهلية. والشرط الأولي لكل عيش مجتمعي مشترك ممكن ومستقر، ينتهج طريقًا وأساليب سلمية عقلانية رشيدة في حل مشاكله ونزاعاته التي لا سبيل إلى تجاوزها، وهذا لا يتم إلا بالتفاوض والتفاهم والحوار الإيجابي بين الفاعلين الاجتماعيين في سبيل تحقيق العدالة والإنصاف وتكافؤ الفرص بين جميع الفاعلين الاجتماعيين.
هذا معناه أن أي حوار وتفاوض وتفاهم وتنسيق لا يمكنه أن يقوم ويتحقق وينمو ويزدهر ويثمر بدون التسامح الإيجابي الذي يرتكز على الاعتراف المتبادل بين الأطراف بالأهلية والقيمة والندية والقدرة والسلطة والنفوذ، بما يكفل لكل طرف من الأطراف قول رأيه والتعبير عما يعتقده صوابًا، بحرية كاملة وظروف متكافئة؛ فالتشارك هو الشرط الضروري للتعايش والعيش بسلام والتفاهم بشأن المشكلات والأزمات والنزاعات الاجتماعية التي تنشأ في سياق الحياة الاجتماعية للناس الساعين وراء إشباع حاجاتهم وتأمين شروط حياتهم. ويمكن تلخيص أهم شرط من شروط التسامح الفعّال بأنه الاعتراف بقيمة الآخر وجدارته ونديته وحقوقه المتساوية مع جميع أعضاء المجتمع المعني، وهو نمط من أنماط العلاقة بين الذات والآخر، يعني التقدير والاحترام وتكافؤ الفرص والعدالة والإنصاف والاعتراف، إذ إن أكبر المصائب التي يمكن أن تصيب الإنسان هو غياب التقدير والإنصاف والاعتراف، ويمكن أن يتحمل المرء كل المصائب الخارجية مقارنة بالظلم والإهمال والاحتقار. وتلك هي سمة المجتمع المتصالح والمتسامح مع ذاته، وعكسه عدم التسامح، وهو يتساوى مع اللامبالاة والانعزال والإهمال أو غياب الاهتمام؛ بمعنى عدم التفاعل والتعاون والتضامن الفعّال، إذ تجد فيه كل فرد من أفراد المدينة أو المجتمع أو المؤسسة العامة، منشغلًا بأمور حياته الخاصة، ويعزف عن الاهتمام بالموضوعات العامة التي يتشارك بها مع غيره من أعضاء المؤسسة أو الحي أو المدينة أو المجتمع عامة، ويتصرف وكأنها لا تعنيه! وهذا هو المستوى الأدنى من التسامح الهش الذي لا يمكن البناء عليه؛ لأنه لا يدوم على حال من الأحوال، بل يظل سريع التبدل والتحول والزوال. بينما التسامح المطلوب والملحّ والضروري في وضعنا الحالي هو التسامح الإيجابي الذي يعني أن الفاعلين الاجتماعيين المستهدفين بالتسامح قد استشعروا الحاجة الحيوية إلى بعضهم، وأن لديهم مشاعر واعية ومشتركة بأهمية التعايش والاندماج في مجتمعهم ويمتلكون القناعة الراسخة بأهمية الحفاظ على سلمه وسلامته ونظامه واستقراره وتنميته وترسيخه بالتسامح الفعّال بالأفعال والأقوال، بوصفه قيمة أخلاقية وثقافية مقدرة خير تقدير في حياتهم المشتركة، وحقًّا من حقوق كل الإنسان الذي يستحق التقدير والاحترام.
يمهد التسامح الشرط والمزاج العام للتضامن العضوي بين جميع أفراد المجتمع في مشروع إعادة بناء مؤسستهم السياسية الوطنية الجامعة
وهذا النمط من التسامح لا ينمو إلا في مجتمع مدني منظم بالقانون والمؤسسات العامة التي يجب أن تقف على مسافة واحدة من جميع أفراد المجتمع بما يجعلهم على قناعة تامة بأنها مؤسساتهم وأن الحفاظ عليها وصيانتها وتنميتها هي مسؤوليهم جميعًا، ويستشعرون في أعماقهم الدافع والحماس للعمل والنشاط والتضامن الفعّال، وبذلك يمهد التسامح الشرط والمزاج العام للتضامن العضوي بين جميع أفراد المجتمع في مشروع إعادة بناء مؤسستهم السياسية الوطنية الجامعة؛ أي الدولة، على أسس عادلة ومستقرة، جديرة بالجهد والقيمة والاعتبار، والأفراد يأتون ويذهبون، أما المؤسسات فهي وحدها التي يمكن أن تدوم إذا ما وجدت من يتعهدها بالصيانة والحرص والاهتمام.
والنَّاس هم الذين يشكلون مؤسساتهم ثم تقوم هي بتشكيلهم! فكيفما كانت مؤسساتهم الحاضرة، يكونوا في مستقبل الأيام! هذا هو التسامح المطلوب في واقع حياتنا الراهنة؛ إنه التسامح الذي لا يعني أن على المرء أن يحب جاره، بل أن يجهد في احترامه ويصون حقوقه، وفقًا للقاعدة الأخلاقية: عامل الناس كما تود أن يعاملوك!
هامش:
(1) ينظر: إيمان محمود، أفكار للشراكة المجتمعية، موقع المرسال، 28 فبراير 2019.