"أول أمر يقوم به لدى خروجه من العيادة، الذهاب إلى صيدلية قريبة من مكان عمله، لكي يأخذ منها نسبته"، تكررت هذه الرواية في ثلاثة مواقف لدى إعدادي لهذا التقرير، إحداها لصيدلي كان يعمل بالقرب من مستشفى حكومي، قبل امتلاكه لصيدليته الخاصة في الضاحية الغربية لمدينة ذمار.
ويعتقد رئيس مركز كايزن للتوعية بأضرار الأدوية المهربة والمزورة -مؤسسة مدنية وغير حكومية- الدكتور مهيوب الشبيبي، أن سبب ما وصفه بـ"توحش الشركات في سوق الأدوية" يعود إلى عدم وجود مكاتب علمية لشركات الأدوية العالمية بسبب الحرب، والاكتفاء بوكلاء محليين لتلك الشركات.
يقول الشبيبي في حديث لـ"خيوط": "وكلاء الأدوية المحليين -وهم من يسوّقون للدواء في البلد- ودخول عدد كبير من شركات الأدوية، أدّى إلى التنافس على من يبيع أكثر، بغض النظر عما إذا كان المريض محتاجًا لهذه الأدوية أم لا".
ليظهر ما يسميه البعض "التسويق القذر" في مجال الأدوية في اليمن، إذ يؤكّد رئيس مركز "كايزن" للتوعية، أن الشركات تقوم بإنزال الأدوية في الصيدليات، وهي بدورها تقوم ببيعه للمريض مقابل "بونص" نسبة من البيع للدواء، فوق قيمة الدواء، مدللًا على ذلك بالقول: "الدواء ثمنه ألف ريال من الشركة للصيدلية التي تبيعه للمريض بألف ومئتين مع إضافة نسبة عمولة تصل إلى 50%".
و"البونص" نسبة يحصل عليها الصيدلاني تعتمد على نوع الدواء وتصنيعه وجودته ويختلف من صنف إلى آخر، وهي ظاهرة موجودة في بعض الدول وبعض الدول تجرم ذلك.
بالنسبة للتسويق الدوائي في اليمن، يأتي عبر "مندوب عملي" -من يقوم بتسويق الدواء للطبيب- وهو حلقة الوصل بين الشركة والطبيب، ولديهما اتفاق غير مكتوب على نسبة معينة من الدواء أو تقديم خدمات وهدايا تصل إلى منح سيارة للطبيب.
والخدمات التي تقدمها الشركات للطبيب كـ"النسبة أو هدايا أو خدمات"، يشوبها الكثير من المصالح؛ بمعنى "مشّي لي الدواء، وأنا أقدم لك خدمات وهدايا عينية ومعنوية". يقول الشبيبي، مؤكدًا أنّ سوق الأدوية مضطرب دائمًا والكثير من الأدوية فاقدة للجودة، وجزء من الموجود في السوق هي أدوية مهربة أو مزورة، وما حدث لأطفال مستشفى الكويت بصنعاء، حين ذهب قرابة عشرين طفلًا ضحيةً لأدوية مهربة، إلا دليلًا على الفساد الذي يحدث في سوق الدواء في البلد.
اختلال مهنة إنسانية
الحجم الهائل في المرافق الطبية والأطباء في ذمار، يرفع مؤشرات استحواذ بعض الشركات على سوق الدواء مقابل "نسبة" تذهب إلى الأطباء. مدير المنشآت الطبية بمكتب الصحة العامة والسكان بمحافظة ذمار، عبدالجبار الجرفي، أشار إلى وجود 22 مستشفى ومستوصفًا في محافظة ذمار، فيما عدد الأخصائيين يصل إلى نحو 73 أخصائيًّا، بدون أخصائيات "النساء والولادة"، موزعين على جميع التخصصات.
يؤكّد في تصريح لـ"خيوط"، أنّ العام الفائت 2022، شهد إضافة 80 سرير عناية مركزة جديدة، وإضافة 28 حاضنة خدج وحديثي الولادة جديدة، وفتح أشعتَين مقطعيتين، بالإضافة إلى إقامة 16 مخيمًا طبيًّا مجانيًّا في تخصصات (نسائية – عيون – جلدية – باطنية – جراحة - مسالك بولية – كلى – مرارة- فتاق- عظام).
من جهته، قال مسؤول في مكتب الصحة بمحافظة ذمار -فضل عدم الكشف عن هويته- إنّ "النسبة" لم تعد أمرًا مخفيًّا بل يتم التعامل معها كأمر عادي وروتيني، مضيفًا في حديثه لـ"خيوط": "يتم الاتفاق بين الطبيب والشركة أو المندوب على نسبة معنية 20 في المئة أو أكثر، وتصل إلى 50 في المئة مقابل أن يكتب الطبيب الأدوية الخاصة بالشركة في الوصفات الطبية التي يكتبها للمرضى، ويتم وضع كميات كبيرة من تلك الأصناف في صيدلية المرفق الطبي أو صيدلية يتعامل معها الطبيب".
يتابع حديثه: "تحول العمل الطبي من عمل إنساني إلى تجاري يدفع بعض الأطباء إلى بيع ضمائرهم لشركات الأدوية مقابل مبالغ مالية أو هدايا وسفريات، وتسمى "خدمات"، تقدمها للطبيب؛ لذلك يخون هذا النوع من الأطباء القسَمَ الطبي، وتدفع به إلى كتابة الأصناف المطلوب تصريفها لمن يستحق ومن لا يستحق من المرضى، ويكون الهدف بيع أكبر كمية من تلك الأصناف للحصول على نسبة أعلى".
وبيّن أن هذه القضية "لا يتدخل فيها مكتب الصحة أو هيئة الأدوية، وإنما المجلس الطبي، في حال وجدت شكوى مثبتة من قبل المريض، وفي الغالب لا تصل إلى نتيجة؛ لأن الأمر بات ممارسة يومية لا يمكن تجريمها رغم كونها في الأصل جريمة أخلاقية وسلوك غير صحيح".
ضمير غائب
"الضمير هو الأساس"، هذا ما خلصت إليه الدكتورة أمة الخالق مهراس- رئيس لجنة أخلاقيات المهنة بالمجلس الطبي اليمني، وعميد كلية الطب البشري بجامعة ذمار، وأكدت عدم وجود أي قانون يحدد نسبة الطبيب في الأدوية أو أي خدمات طبية، بل الموضوع موضوع أخلاقي في المقام الأول، وضمير الطبيب في النهاية هو الأساس.
وتقول مهراس لـ"خيوط"، إن الطب مهنة إنسانية في المقام الأول، لكن هذا لا يمنع أن يحصل الطبيب على فائدة مادية نظير عمله، فحصول الطبيب على "النسبة" هو عرف اعتاد عليه الطبيب وشركات الأدوية والمقدمون للخدمات الطبية، وليس له قانون يحدده.
وفي تقديرها، أنّ "النسبة قانونية ما دامت لا تؤثر على المريض". وترى مهراس أنّ المعيار الأخلاقي وضمير الطبيب هو المقياس لهذه الأمور، ولا يمكن تحديد آلية لذلك.
خلال حديثها، أشارت إلى وجود اتفاقيات غير مكتوبة بين "بعض" الأطباء وبعض شركات أو وكلاء الأدوية على أن يصف الطبيب أدوية تلك الشركة بشكل يفوق أصناف غيرها من الشركات الأخرى المنافسة، للحالات المرضية التي تصل إليه، مقابل حصول الطبيب على "نسبة مالية" أو هدايا أو مزايا، مثل التكفل بتغطية حضور مؤتمرات طبية، بما لا يخل بمعايير العمل المهني والأخلاقي، وصرف الدواء للمريض عائد لتقديرات الطبيب والحالة المرَضية.
وبيّنت أن صرف دواء مهرب أو مزور أو ذات جودة منخفضة تعد جريمة. ولفتت أن وجود أدوية مهربة أو مزورة أو ذات جودة قليلة مسؤولية الهيئة العليا للأدوية وليس الطبيب.
تتحدث مهراس -وهي أديبة وشاعرة- لـ"خيوط"، في مكتبها بالطابق الثاني بمبنى كلية الطب البشري، وتكتب في ورقة جانبية: "يحصل الطبيب على نسبة، النسبة لا تؤثر في سعر الدواء بل تتحمله الشركة"، شارحةً ذلك في عملية رياضية حول نسبة الطبيب من دواء ثمنه ألفَا ريال، يتم تقسيمها بين الصيدلية والطبيب. رغم دفاعها عن "قدسية مهنة الطب"، تعتقد أنّ خيار العائد المادي يوجد لدى البعض.
سبب عدم وجود شكاوى تصل إلى المجلس الطبي تتعلق بـ"النسبة" بين الطبيب والشركات، ربما يعود إلى حدة التنافس بين الشركات للحصول على جزء من السوق، ولا يكون ذلك إلا عبر الأطباء، وفق ما يشير إليه الدكتور الصيدلاني محمد الجنيد، وقال: "تعتبر قصة "النسبة" معضلة لدى الأطباء والصيادلة، وعند الشركات، والشركات لن تستطيع تصريف الأدوية إلا بهذه الطريقة".
فاتورة العلاج تصل أحيانًا إلى عشرين أو ثلاثين ألف، في الزيارة الأولى أو الثانية للطبيب، وهو مبلغ يثقل كاهل المريض أو أقربائه، يضطر لشراء تلك الوصفات على أمل الشفاء، وهنا ثغرة يستغلها البعض لتصريف أدويتهم والحصول على "عمولات". ويشير الجنيد إلى الأدوية المهربة، وقال: "أصناف مهربة ليس لها بدائل، وتصرف أحيانًا من قبل الأطباء، وخاصة الأدوية الكيمائية، وأدوية الأمراض المستعصية".
الصيدلي عبدالله محمد، يتحدث لـ"خيوط"، أنّ بعض الأطباء الذين يتعامل معهم يكتبون أصنافًا رديئة أو مشارفة على انتهاء الصلاحية ولا تستطيع الشركات بيعها؛ لذا يتم "الاتفاق مع الطبيب على نسبة" تكون هي الطريقة الأفضل لتصريف هذه الأصناف، وهناك أطباء يرفضون هذا الإغراء "للنسبة والخدمات الأخرى"، وآخرون يقبلونها ونسبتهم قليلة.
وبيّن أنّ الفيتامينات والمهدئات والمضادات الحيوية وأدوية المعدة، هي على رأس قائمة الأدوية التي يحصل فيها الأطباء على نسبة؛ كونها مستهلكة بشكل كبير، وإضافتها ضمن أي "خطة علاجية" أمر معتاد.
انتشار الأدوية المهربة والمزورة بشكل لافت، ساهم في اتساع هذه الظاهرة، وسط توحش "شركات الأدوية" ولجوئها إلى أساليب تسويقية متعددة؛ مثلًا سأل معدّ الاستطلاع عن دواء "حموضة المعدة" في عدد من صيدليات مدينة ذمار، فكانت النتيجة أنّ عدد أصناف الدواء تصل إلى 26 صنفًا دوائيًّا متنوعًا بين "حبوب، كبسولات، شراب، فوارات": 20 نوعًا من الحبوب، 5 أنواع من الشراب، وصنف واحد من الجل.
تصريف الدواء أولًا
مدير أحد فروع الشركات الأدوية في ذمار -فضل عدم الكشف عن هويته– يشير إلى أنّ الخدمات التي تقدم للأطباء تصل في بعض الأحيان إلى 30 في المئة من إجمالي ثمن الأدوية، وقال لـ"خيوط": "هناك استراتيجية تتخذها الشركات، وهي محاولة بيع أكبر قدر ممكن من الأدوية، وإعطاء الأطباء نسبة من البيع أو تقديم هدايا أو خدمات، وتلك إحدى الطرق التي تستخدم بشكل كبير في تسويق الأدوية".
يضيف: "لكن بيع بعض الأدوية، وخاصة ذات الفعالية العالية، لا يتم وضع نسب لها أو تقديم هدايا للأطباء مقابل وصفها؛ كونها تباع بدون حاجة إلى مسوق دوائي". وأوضح أنّ الأدوية والخدمات التي يأخذ منها الطبيب نسبة أو هدايا هي في الغالب أدوية، عليها منافسة عالية أو تكون غير معروفة أو تكون حديثة.
وتحولت ظاهرة تقديم "نسبة" للأطباء مقابل وصفات طبية أو فحوصات أو كشافات للمرضى، إلى آلية معتادة في مختلف التخصصات، واستراتيجية تسويقية دخلت في صلب العمل الطبي، حتى باتت إعلانات طلب الوظائف للعاملين في مجال تسويق لا تخلو من عبارة "مرتب ونسبة".
وتُحدّد -غالبًا- "النسبة" التي يحصل عليها الطبيب بالاتفاق مع المنشأة الطبية أو المندوب العلمي الخاص بشركات الأدوية أو بقية المرافق الطبية (الصيدليات، المختبرات، الكشافة، العمليات)، وتدخل "النسبة" في أغلب العمل الطبي، تصل إلى حصول الطبيب أو العامل الصحي على "نسبة" مقابل تحويل المريض لتلقي العلاج في إحدى المستشفيات الأهلية.
رشوة
ويربط عضو جمعية علماء اليمن، محمد دادية، بين النسبة التي تقدم للأطباء وبين الرشوة، بالإشارة إلى أنّ النسبة تعد إحدى مظاهر الرشوة وهي محرّمة، قاصدًا بذلك حصول الطبيب على نسبة من الأرباح أو هدايا أخرى منها، مقابل صرف الأدوية، حتى وإن كانت الحالة لا تتطلب ذلك، مضيفًا في حديثه لـ"خيوط"؛ أنّ ما يأخذه الأطباء من شركات الأدوية مقابل ترويج أصنافهم يعتبر رشوة محرمة.
ويقول: "المفترض في جميع الأعمال الصدق والأمانة، والابتعاد عن الغش والخديعة، وبخاصة في المجال الطبي المتعلق بصحة الناس وحياتهم. فيحرم على منتجي الأدوية وشركاتها ومندوبيها الترويج للأدوية وتسويق أصنافها عن طريق الرشاوى والخداع ووصف الأصناف بما ليس فيها.
إضافة إلى أخذ الطبيب تلك المبالغ والهدايا، مقابل أن يصف تلك الأدوية دون حاجة المريض إليها، أو يصفها وهناك من الأدوية ما هو أكثر فاعلية وأقل ثمنًا.
غياب النص القانوني
المحامية إبتهال الكوماني، لدى الاستفسار عن الرأي القانوني عن "النسبة التي يحصل عليها الأطباء"، قالت لـ"خيوط": "لا توجد نصوص قانونية صريحة بذلك، ولكن ما يضبط الأمر أنّ هناك النصوص التي تتحدث عن أدبيات المهنة وأخلاقيات الطب، وهي المرجع لمثل هذا الموضوع، وكذلك قد يكون من خلال الرجوع إلى قانون العقوبات إذا لحق بالمريض ضررٌ نتيجة وصفة معينة كان هدف الطبيب فيها الربح والتعاون مع الشركة، فأدّى إلى ضرر للمريض".
لكنها تطرقت إلى مواد قانونية في قانون "مزاولة المهن الطبية والصيدلانية"، منها: "مادة (21-أ): على أية جهة تتولى التحقيق في شكاوى مهنية ضد مزاولي المهنة، أن تستطلع رأي المجلس فنيًّا وعلميًّا قبل السير في إجراءات التحقيق ما لم تكن الشكوى محوله أصلًا من المجلس طبقًا للفقرة (ف) من المادة (10) من هذا القانون، وكذلك مادة (21): يحظر على مزاولي المهنة كلٌّ في مجال اختصاصه منها"، كبيع أدوية بصورة شخصية أو عينات أو مستحضرات صيدلانية مجانية أو حكومية للمرضى".
تضيف الكوماني، وهي أيضًا ناشطة حقوقية في مدينة ذمار: "ما يضبط الأمر هي أدبيات المهنة وأخلاقيات الطب، التي ينبغي للشخص أن يتحلى بها أثناء ممارسته للمهنة، التي تعنى بالتصرف اللائق أثناء ممارسة الأنشطة المهنية، كما تعرف أخلاقيات المهنة بأنها "نظام المبادئ الأخلاقية وقواعد الممارسة التي أصبحت معيارًا للسلوك المهني القويم".
وبينت أنّ "الجشع واستغلال المريض، ومحاولة تصريف أدوية لأسباب مادية، تعتبر تجاوزًا للأخلاقيات الطبية وآدابها ومكانتها".
واختتمت حديثها بالتأكيد على أنّ أدبيات وأخلاقيات المهنة يجب أن تكون إلزامية لمن يمتهن الطب، باعتبارها من الواجبات التي يُلزم بها النظام الطبي الذي تحدده الجهات المختصة، وعدم إغفال مصلحة المريض؛ فقط لأجل الفائدة لأي شركة. وخلصت إلى "عدم وجود مادة قانونية أو رأي قانوني واضح، بشأن حصول الطبيب على نسبة، إلا من خلال الأدبيات والأخلاقيات التي تعتبر بمثابة إلزام، وما يعارضها مخالفة".