في منتصف أبريل/ نيسان 2024، أثار مقطع فيديو منشور على وسائل التواصل الاجتماعي في اليمن، لفتاة تجلس جوار شاب في مقعد السيارة الأمامي المخصص لشخص واحد غضب الكثير من رواد مواقع التواصل الاجتماعي، الذين اعتبروه عملًا منافيًا للآداب والقيم الدينية، ويخدش الحياء، وفي غضون ساعات قليلة تحول ذلك المقطع إلى قضية رأي عام كبيرة، يناقشها الجميع.
تعرضت الفتاة والشاب لوابل من التعليقات والشتائم، وصل الأمر إلى حدّ التحريض على حياتهما. وعلى الرغم من أن المقطع كان عاديًّا وطبيعيًّا لا يستدعي كل هذا النفير والغضب المبالغ فيه، فإنه تبيّن في اليوم التالي أنّ المقطع تم تسريبه، وأن من في السيارة هم أفراد عائلة واحدة، وأن الفتاة جلست بجانب شقيقها بسبب ضيق المكان. ومع ذلك، لم يصدق كثيرون، وظلوا يحرضون عليهما. والمُثير للدهشة أنّ السلطات في صنعاء استجابت لتلك الأصوات، وبدلًا من حماية خصوصيتهما، ألقت القبض عليهما وأوقفتهما، وذلك بعد أن قام بعضهم بإنشاء حملة إلكترونية تحت وسم #حرام_مانسكت.
ومن خلال تتبع الوسم الذي تم نشره عقب تسريب الفيديو، تبيّن أن من يقف وراءه شخصيات مشهورة لها متابعون كثيرون على مواقع التواصل الاجتماعي، وتربطها علاقة جيدة مع سلطات الأمر الواقع في صنعاء، وتقوم بالتبرير والترويج لكل انتهاكاتها، وإلى جانب تلك الشخصيات حسابات لشخصيات أمنية وأخرى قيادية في جماعة أنصار الله (الحوثيين).
وتضمنت المنشورات المصاحبة له تحريضات واضحة على أشخاص عديدون بسبب آرائهم وصورهم الشخصية، وتم تصنيفها على أنها مخلّة بالشرف، حسب ما تم نشره، ولم يقف الأمر عند التشهير والتحريض ضدّ الآخرين فقط، بل كانت معظم المنشورات تطالب السلطات بضبط هؤلاء الأشخاص وسجنهم، والسبب أنهم نشروا آراءهم وصورهم الشخصية.
بالرغم من أنّ هناك قضايا كثيرة تُهدّد أمن وحياة المواطن اليمني في مختلف المجالات، فإن القضايا التي تُثار على مواقع التواصل الاجتماعي بعيدة كل البعد عنه. أصبحت القضايا التي تمس المرأة أو تنتهك الحريات الشخصية للأفراد هي الشاغل الرئيسي، وتُثير نقاشًا واسعًا بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي.
في السياق، يُؤكّد خبير التقنية محمد غالب، في حديثه لـ"خيوط"، أنّ نشر الفيديو كان مرتبطًا بالحملة التي تمت ضد الفتاة والشاب. ويُشدّد على أنّ الحملة كانت منظمة بشكل مدروس ولم تكن عفوية. كما يلاحظ تفاعل حسابات وهمية كثيرة، وهو ما يدل على وجود تخطيط مسبق للحملة. ويربط محمد غالب نشاط هذه الحسابات بتضليل الرأي العام ونشر القضايا التي تشغل المواطنين.
توحش المجتمع
لم تمضِ سوى أيام قليلة على قضية الفتاة والشاب، حتى تم إثارة الرأي العام من جديد من خلال حملة موجهة للفنان حسين محب. وبنفس الطريقة، ركّزت أغلب الانتقادات الموجهة لمحب على شخصيته. وبهذا، يستمر الرأي العام في إثارة قضايا هامشية بشكل دوري.
وليست هذه المرة الأولى التي يتم فيها إثارة قضايا شخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، ويتم التشهير بأحد لأسباب شخصية، وتحويلها إلى قضية رأي عام، بل سبقتها قضايا كثيرة، إذ أصبح الفضاء العام مكانًا خصبًا للتشهير والتحريض ضد الآخرين، الأمر الغريب أن هذه القضايا باتت تثير الرأي العام بشكل كبير وتُثير جدلًا واسعًا في المجتمع؛ ما يُزيد من حدة التوتر والعنف والتحريض بين مختلف الفئات.
وقد ساهمت الحرب الدائرة في اليمن منذ سبتمبر/ أيلول من العام 2014، والتوجه السياسي للسلطات والجماعات المتطرفة في نشر العنف، وأصبح المجتمع يعاني من صراعات واضطرابات كثيرة تصل إلى عُمق الأُسَر، وشهدت السنوات الأخيرة تصاعد حالة العنف بأشكال مختلفة، ومن أبرزها ما يتم نشره في وسائل الإعلام ومنصات التواصل من قضايا وأحداث بعضها حقيقية وأخرى زائفة، وتركز غالبية هذه القضايا على قضايا المرأة والحريات الشخصية والدينية للأفراد، تحت غطاء الشرف والعار والحفاظ على الهُوية الدينية والتقاليد اليمنية وغيرها، وفي الغالب يتم تسويق هذه القضايا من زعماء الحرب والجماعات المسلحة، خاصةً الحوثيين، وعلى ما يبدو فإن الغرض من ذلك هو إشغال الرأي العام عن القضايا الأهم والأكبر، وعن حقوق المواطنين المسلوبة منذ حوالي عشرة أعوام.
الإنسان المقهور
وعلى طريقة مقولة "فرّق تسُد"، يستمر المستفيدون من الصراع المجتمعي الحاصل في دعمه وتغذيته بشكل كبير. وتتخذها بعض القيادات النافذة نهجًا في تصريحاتها وما تنشره، ما يزيد من حدة الانقسام والوحشية، ليبقى السؤال المهم: كيف انجرف المجتمع إلى هذه الصراعات وكيف وصل إلى هذا المستوى من العنف والعدوانية بين أفراده؟
يقدم المفكر اللبناني، مصطفى حجازي، في كتابه "سيكولوجيا الإنسان المقهور" -وهو نتيجة بحث معمق لما يعانيه المجتمع العربي واللبناني بوجه الخصوص من اضطرابات مجتمعية- مجموعةً من الأسباب التي قد تفسر وتجيب عن هذا التساؤل؛ إذ يقول إنّ "الإنسان المقهور يرضخ أمام القوى التي تسلطت عليه فيما يلقاه من تبخيس ومهانة، وما يفرض عليه من تبعية يعود ويمارسه على زوجته ونساء أسرته، كما يمكن أن يفرضه على من هم في إمرته"، وفي هذه الحالة يمكن أن نفسر الصراع القائم في وسائل التواصل الاجتماعي في اليمن والأسر اليمنية والمجتمع بشكلٍ عام، بأنه نتيجة لما يتعرض له الفرد من قهر وظلم من السلطات منذ سنوات، ولا يستطيع مواجهته، ليعود إلى تفجير غضبه في أبسط الأشياء.
ويرى حجازي أنّ الإنسان المقهور يعيش في حالة صراع بسبب القهر المسلط عليه، ويخشى دائمًا من افتضاح أمره وبؤسه وعجزه، لذلك فإنه يسعى دائمًا إلى الستر، ويخشى دائمًا من الفضيحة وعدم مقدرته على الصمود، ويتمسك بشدة بالمظاهر التي تشكل واقيًا لبؤسه الداخلي، ويخيم عليه هاجس فضيحة الفقر والعجز والشرف، ويسقط العار على المرأة باعتبارها من تجلب الفضيحة له، باعتبارها مصدر شرفه، ولأنّها الكائن الأضعف في المجتمع فإنه يمارس سلطته المسلوبة عليها.
ويشكل العار عقدة جوهرية يعاني منها الإنسان المقهور، حيث نجد تباهيًا كبيرًا في مصطلحات الذكورة والعار والشرف في الوقت الحاضر داخل المجتمع اليمني، وهذه نتيجة حتمية لأي مجتمع يعاني من القهر والفقر والبؤس، فقد أصبح يعوض نقصه وحرمانه من الحياة الكريمة والحقوق، بهذه الشعارات الرنانة.
انتقاء القضايا
وبالرغم من أنّ هناك قضايا كثيرة تُهدّد أمن وحياة المواطن اليمني في مختلف المجالات، فإنّ القضايا التي تُثار على مواقع التواصل الاجتماعي بعيدة كل البعد عنه. فأصبحت القضايا التي تمس المرأة أو تنتهك الحريات الشخصية للأفراد هي الشاغل الرئيسي، وتُثير نقاشًا واسعًا بين روّاد مواقع التواصل الاجتماعي.
ومن الملاحظ أنّ هذه القضايا التي أصبحت تُثار من وقت إلى آخر، يتم انتقاء بعضها وغض الطرف عن بعضها الآخر حتى لو كانت متشابهة في طبيعتها، فعلى سبيل المثال اعتقال النساء ومنعهن من السفر، وكل انتهاك يحدث لهن، لا يتم التفاعل معه رغم أنّها قضايا تتعلق بالشرف والعار الذي يتذرع به كل من يتفاعل مع القضايا الأخرى. وبالمقابل، فإنّ الصورة الذهنية للتعذيب والقتل والعنف والقمع الذي تمارسه السلطات في المعتقلات والسجون عند المواطنين جعلتهم يتجنبون التعاطي أو التفاعل مع تلك القضايا؛ لأنها تذكرهم بالحرب والألم الذي أصبحوا يفرون منه، بحسب ما يقوله مراد الحكمي، وهو باحث ومختص في علم الاجتماع النفسي.
ويُشير الحكمي في حديثه لـ"خيوط"، إلى أنّ جماعة الحوثي المسلحة تبّنت خطابًا لمكافحة الفساد الأخلاقي منذ سيطرتها على صنعاء، ونشرته في منابر المساجد والجامعات والمؤتمرات والفعاليات الخاصة بها. وساهم هذا الخطاب في تمادي بعض الأشخاص في التدخل المفرط في خصوصيات الآخرين والتحريض عليهم. ودفعَ غضُّ طرف الجهات والسلطات الرسمية عن تلك الممارسات المُسيئة، الجميعَ إلى ممارسة دور الواعظ الأخلاقي على الآخرين دون وجه حق.