يرقد محمد عاطف (46 عامًا)، في منزلهِ الكائن في محوى (اسم مكان سكن المهمشين)، في منطقة سعوان (المدينة السكنية) بصنعاء، منذُ أكثر من ثلاثةِ أعوام إثر مرض جلدي أصابهُ نتيجة عمله في النظافة، إذ تشير التقارير الطبية إلى أنّهُ أصيب بـ"طفح جلديّ حادّ"، بسبب عمله في جمع النفايات المكشوفة والملوثة من الشوارع دون أي وسائل حماية.
في بداية الأمر، تورّمت قدما عاطف ثم يداه، وكان يظن أنّها أعراضٌ عادية نتيجة الإجهاد الذي يقوم به أثناء العمل، ومع مرور الوقت انتشرت تلك الأورام إلى مناطق أخرى من جسده ثم بدأت تفرز قيحًا، وفي بعض الأحيان دمًا، يقول عاطف في حديثه لـ"خيوط"، أنّه لم يستطع الحصول على الرعاية الطبية من قبل صندوق النظافة والتحسين، ولا حتى تكفلوا بعلاجه، وتحمّلَ أعباء الرعاية الصحية الباهظة على نفقتهُ، ولم يستطع الالتزام بها أو مواصلتها.
عمل عاطف في صندوق النظافة والتحسين التابع لأمانة العاصمة، لأكثر من 25 عامًا بمقابل ماديّ زهيد لا يكاد يذكر، ولم يجني من عمله سوى الأمراض، إذ يشير عاطف إلى أنّ العمل في مجال النظافة بحاجة إلى حرصٍ كبير ووسائل عديدة من أجل وقاية العامل من إصابته بأي أمراض، وهذا ما لم يحصل عليه إلّا في حالات قليلة جدًّا أثناء عمله طوال تلك الأعوام.
يعتبر "المحوى" التجمعَ السكني للكثير من المهمشين (ذوي البشرة السمراء)، يكتظ بداخله عادةً الآلاف من هذه الفئة، المنسيون، والذين يعمل أغلبهم في النظافة، في حين لا يخلو منزل من وجود شخص أو أكثر مصاب بمرض معين نتيجة عمله في هذا المجال.
وتنتشر الأمراض الجلدية والرئوية والمعدية بين عمّال النظافة في صنعاء ومختلف المدن اليمنية، معظمهم من فئة المهمشين، إذ تعدّ هذه الوظيفة من الأعمال والمهن التي ينظر إليها المجتمع بدونية.
يفتقر عمال النظافة إلى أبسط الأدوات والوسائل التي تقيهم من الأمراض والمخاطر الأخرى أو حتى الأدوات المساعدة للعمل بعد توقف كافة المساعدات التي كانوا يحصلون عليها قبل الحرب في اليمن عام 2015.
ويعمل أكثر من 20 ألف عامل من فئة المهمشين في النظافة في عموم المحافظات اليمنية، بحسب تقديرات رسمية، منهم حوالي 3200 في أمانة العاصمة، وصنعاء عمومًا.
يقول نعمان الحذيفي، رئيس الاتحاد الوطني لتنمية الفئات الأشد فقرًا باليمن (المهمشين)، لـ"خيوط"، إنّ عمّال النظافة من المهمشين لا يتمتعون بأي حقوق وظيفية، كالتقاعد في حال بلوغ أحدهم الشيخوخة والعجز، بل إنّ كثيرًا ممّن يتعرضون للإصابة أثناء العمل، وتؤدّي تلك الإصابة إلى العجز الجزئي أو الكلي، لا يحصلون على التعويضات أو الإحالة إلى التقاعد أسوة بموظفي الجهاز الإداري للدولة.
عمل خطير دون وقاية
في شارع النصر بمدينةِ سعوان في العاصمة صنعاء، تمر سيارة النظافة وعليها أربعة أشخاص يقومون بجمع المخلفات والنفايات من الشوارع وأماكن تكدسها إلى السيارة باستخدام أكياس بلاستيكية أو قطعة قماش أو بأيديهم في معظم الأحيان، دون وجود أي وسائل حماية تقيهم من التلوثات والأمراض والأوبئة التي قد تحدث لهم بسبب عملهم.
يقول علي مبروك، عامل نظافة، ساخرًا، لـ"خيوط": "يكفي أنّ الدولة وفّرت لنا سيارة للنظافة، وإلا كنّا نحملها على ظهرنا"، مشيرًا إلى أنّ الجهات المعنية في صندوق النظافة والتحسين لا تبالي بصحتهم أبدًا، ولا توفر لهم حتى المتطلبات الرئيسية من أجل ممارسة العمل، إضافة إلى الدعم الذي يحصل عليه الصندوق من المنظمات الدولية التي توفر له كذلك أدواتٍ كثيرة للنظافة وأدوات ووسائل وقائية ومساعدات أخرى، لكنها تختفي ولا يعلم أحد إلى أين تذهب.
على الشارع المحاذي، يمرّ سالم شوعي وبيده مكنسة مصنوعةٌ من الخشب وهو يكنس الشارع ويلف على رقبته شالًا قماشيًّا من أجل حماية نفسه من الغبار الذي قد يصل إلى صدره فيسقط للأرض من السعال، ويقول شوعي في حديثه لـ"خيوط"، أنّه أصيب بمرض الربو الرئوي قبل أعوام، وأنه يعاني الأمرّين في عمله بسبب هذا المرض، لكنه في الوقت ذاته لا يستطيع التخلي عن عمله الوحيد، مضيفًا أنّ الصندوق لا يقدّم شيئًا لمن يصاب بأي مرض أو أذى آخر.
منذ بداية الحرب الحاصلة في اليمن في مارس/ آذار 2015، زادت خطورة العمل في النظافة بسبب انتشار الأمراض والأوبئة ومخلفات الحرب، إذ فتك وباء الكوليرا في الأعوام السابقة بحياة مئات العاملين بالنظافة، كما توقفت المساعدات الحكومية التي كان يحصل عليها العاملون أو المرضى، إذ يقول شوعي أنّه في السابق كان يتقدم المحتاجون للرعاية الصحية بطلب مساعدة من أمانة العاصمة أو مكتب الرئاسة، بعد تقديمه كافة التقارير الصحية التي تثبت صحة حديثه، ويستطيع الحصول على بعض الدعم المالي، لكنه الآن لا يحصل على شيء ويموت وحيدًا.
الافتقار إلى الرعاية
يفتقر عمال النظافة إلى أبسط الأدوات والوسائل التي تقيهم من الأمراض والمخاطر الأخرى أو حتى الأدوات المساعدة للعمل، بعد توقف كافة المساعدات التي كانوا يحصلون عليها قبل الحرب في اليمن عام 2015، فضلًا عن أنّ العاملين في النظافة لا تتعدّى رواتبهم 30 ألف ريال (50 دولارًا) وتعتبر الأقل مقارنة ببقية القطاعات الحكومية، وهذا المبلغ لا يغطي حتى متطلبات الحياة الأساسية.
لا يعرف كثيرٌ من العاملين في النظافة والتحسين شيئًا عن حقوقهم المكفولة في القانون والدستور، وذلك بسبب أمية الغالبية العظمى التي تعاني منها هذه الفئة، أو بسبب سياسة التجهيل الممنهجة التي تتعرض لها، وهو ما يجعلها عرضة للاستغلال.
كما تعاني هذه الفئة من إهمالٍ شديد في جوانب عديدة؛ أهمها الجانب الصحي، إذ لا يحصل أغلب العاملين على الرعاية الطبية بأيّ شكلٍ من الأشكال، ولا يحصلون على تأمينات صحية، وبحسب أحد العمال فإنّ الصندوق كان في السابق يوفر مبالغ لا تتعدى 50 ألف ريال للأشخاص الذي يُجرون العمليات الجراحية الخطيرة بعد معاملاتٍ طويلة.
لكنّها توقفت بسبب شحة الإمكانيات، بحسب أعذار الجهات المعنية، إضافة إلى ذلك فإنّ معظم القطاعات الصحية الحكومية لا تستقبل المرضى من هذه الفئة لأسباب عنصرية تتعلق بلون البشرة، ويتحمّل العمّال مصاريف باهظة في الإنفاق على الجانب الصحي في المستشفيات الخاصة.
رئيس الاتحاد الوطني لتنمية الفئات الأشدّ فقرًا باليمن (المهمشين)، نعمان الحذيفي، يؤكّد في السياق نفسه، أنّ هناك تمييزًا بين عمّال النظافة وبين باقي موظفي الجهاز الإداري للدولة، إذ يتم التعامل معهم كعمّال سُخْرَة، وهذا النوع من العمالة يشبه إلى حدّ كبير عمالةَ الاستعباد، وهذا يتضح من خلال تدني مستوى أجورهم الزهيدة.
فضلًا عن التعامل معهم من زاوية اقتصادية تحتم عليهم البقاء في دائرة الفقر والأمية والبطالة، وهو جزء من سياسة ممنهجة تتخذها الجهات الرسمية بحق هذه الشريحة من فئات المجتمع.
غياب الوعي الحقوقي
لا يعرف كثيرٌ من العاملين في النظافة والتحسين شيئًا عن حقوقهم المكفولة في القانون والدستور، وذلك بسبب أمية الغالبية العظمى التي تعاني منها هذه الفئة، أو بسبب سياسة التجهيل الممنهجة التي تتعرّض لها، وهو ما يجعلها عرضة للاستغلال.
وينص الدستور اليمني على عدم التمييز بين الناس على أساس اللون أو العِرق أو الدِّين، كما تشير نصوص المواد القانونية رقم (113-118) من قانون العمل والخدمة المدنية، إلى ضرورة وجود فحص دوري للسلامة المهنية ووسائلها لعمّال النظافة.
وتنص المادة (6) في الدستور اليمني على: "تؤكد الدولة العمل بميثاق الأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وميثاق جامعة الدول العربية، وقواعد القانون الدولي المعترف بها".
من جهتهِ، رفض مكتب النظافة والتحسين بأمانة العاصمة، الردَّ على استفسارات "خيوط" بشأن صحة عدم تقديمه لأيّ وسائل حماية لعمّال النظافة ومعالجة المشاكل الصحية لموظفي النظافة، تحت مبرر عدم السماح لأي أحد من المكتب بالتصريح أو التحدث مع وسائل الإعلام.