في مذكراتها، عبّرت هيلاري كلينتون عن مخاوف عميقة تعيشها الولايات المتحدة من بُعْبُع اسمه "الصيني" ومن صمته الاستراتيجي، الذي برز فجأة من مصباح علاء الدين التقني. لقد أدركت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة -وهي تسرد إسهامها في تهريب أحد عملاء بلادها في الصين- أنّ هذه الدولة المغروسة ثقافتها في عمق التاريخ لا تدخل في بيات شتوي أو زمني من أيّ نوعٍ كما كانت تعتقد.
ويبدو أنّ كلينتون قد انتابها الرعب؛ لأنّ الصين ظلّت صامتة حينًا من الدهر، ولم تُظهِر عنتريات خائبة؛ لأنّها علِمَت أن لا طاقة لها بـ"جالوت" العصر، وهي بالتأكيد تعرف قدر نفسها في تلك اللحظة، مستلهمة نظرية صانع الإصلاحات الصينية الحديثة؛ "اعمل بهدوء، وراقب اللحظة المواتية". لا بدّ أنّ اللحظة الصينية المنتظرة قد لاحت.
الولايات المتحدة وليدة الحملات الاستعمارية الأوروبية عبر الكشوف الجغرافية والحملات العسكرية والمغامرات الدموية؛ لذلك يجب عدم الاستغراب من الغطرسة التي تُظهرها وتمارسها على الكوكب، فهي جينات متوارثة من الحقبة الاستعمارية لبريطانيا العظمى والإمبراطورية البروسية والنمساوية وفرنسا تحديدًا.
لقد نالت الصين حظّها من الصَّلَف الاستعماري، وهي تقدر معنى السيادة والاستقلال أكثر من المستعمِرين، وهي تفهم بالتالي أنّ وضع ومصير أيّ منطقة أو دولة أو شعب بين يدي أيّ دولة أو تحالف دوليّ، هو خطر داهم يهدّد ليس فقط استقراها، بل ويهدّد مستقبلها لصالح تلك الدولة أو ذلك التحالف.
في أوج مجدها، لم تتجاوز الإمبراطورية الصينية حدود إقليمها المتعارف عليه، كما فعلت الإمبراطورية الرومانية والبيزنطية ثم بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وتواصل الولايات المتحدة نفس التقليد منذ نشأتها (المكسيك، وأفغانستان، والعراق، ودول الكاريبي، وأمريكا الوسطى؛ نماذج أصيلة لذلك).
كان طريق الحرير هو ما يربط العالم بسلالات الإمبراطورية الصينية؛ وتحاول الصين الجديدة إعادة إحيائه نحو المستقبل، جامعة بين الإرث التاريخي الحضاري والثقافي والتقدم العلمي والتقني. لكن هذا الطموح يمكن أن يكون مصيره كمصير خطّ الغاز الروسي "السيل الشمالي"، إذا لم تظهر الصين عينها الحمراء بجدية، وهو ما بدأته بالفعل بردّ فعلها فيما يتعلق بتايوان وبتقنية الاتصالات عبر (الجيل الخامس والسادس) أو عبر رعب المناطيد، أو من خلال موقفها من حرب أوكرانيا.
كش ملك
عندما وقّعت كلٌّ من الصين وإيران اتفاقهما الاستراتيجي في 27 مارس 2021، قلنا "إنّ الصين فتحت لنفسها بابًا نحو الخليج العربي وأفريقيا، بعيدًا عن كمائن التهديد الغربية"، ونضيف هنا أنّ ذلك الاتفاق الذي عُزّز باتفاقيات تنفيذية عديدة سبّب صدمة عنيفة للقوى الغربية من جهة، ومن جهة أخرى يعتبر عملية إحماء لبدء اللعب الصيني في ملعب الخصوم "الأمريكيين" أو هكذا كان يعتبر إلى أمد قريب، خاصة منذ تراجع الهيمنة البريطانية على المنطقة، وتسليمها للولايات المتحدة منذ النصف الثاني من القرن العشرين.
بالنسبة لإيران، شكَّل هذا الاتفاق الطموح رئة للتنفس من الخنق السياسي والدبلوماسي الذي فرضَه الحصار ونظام العقوبات الغربي (الأمريكي) على النظام الإيراني، ومثّل أفقًا للتعاون طويل المدى، وفوائد اقتصادية وسياسية كثيرة تجنيها من حين التوقيع. ولا تقل فوائد الصين الاقتصادية من هذا الاتفاق عن فوائدها الاستراتيجية.
وفي 8 ديسمبر 2022، حذت السعودية حذو إيران، وأُعلِن عن توقيع اتفاق شراكة استراتيجية شاملة بين الصين والسعودية عقب زيارة الرئيس الصيني للرياض. ووقّعت عددٌ من الاتفاقيات في هذا الإطار بين البلدين، واستغلّ الرئيس الصيني زيارة السعودية، وعقد لقاءات مع بعض القادة العرب.
وهنا ظهرت الصين بصورة مغايرة تمامًا لما تعوّد عليه العرب من الأمريكيين؛ فقد عبّرت الصين عن احترامها للعرب والثقافة العربية والإسلامية، وقدّمت خطابًا متزنًا. إلى جانب أنّ الصين تتحدّث بلغة الشراكة مع أصدقاء مفترضين، على عكس من الخطاب الأمريكي الذي يتوجّه عادة إلى أتباع خاضعين لا يمكن أن توضع مصالحهم وحقوقهم في نفس الكفة التي توضع فيها مصالح إسرائيل. وحتى حين يتواجد المسؤولون الأمريكيون في المنطقة العربية، فإنّهم لا يتوانون عن تجديد التزام المؤسسة الأمريكية الرسمية وغير الرسمية، بتفوق إسرائيل العسكري والاستراتيجي.
لقد كانت الاتفاقيات السعودية-الصينية متعدّدة الجوانب؛ تأتي الطاقة في صدارتها، وربما تتعزز لاحقًا بأطر ومجالات أخرى –إذا ما صدقت النوايا السعودية طبعًا- ربما تكون التكنولوجيا والتكنولوجيا النووية جزءًا منها.
وليس ذلك فحسب، بل إنّ الصين ذهبت بثقلها الاقتصادي نحو أفريقيا لتزاحم التواجد الغربي الذي أنهك القارة السمراء، ولكنه أخذ يتقهقر أمام النموذج الجديد للعلاقات الدولية الذي تقدّمه الصين عبر الاقتصاد والتنمية. ورأينا كيف خرجت فرنسا من مالي محطمة معنويًّا لتحل روسيا بديلًا عنها.
فتح الوجود الصيني والروسي سجالًا جديًّا بين الأفريقيين، وقوبلت التصريحات والنصائح الغربية من تواجد الدولتين ردودًا أفريقية حادّة. فقد استنكر السفير الألماني في ناميبيا التواجدَ الكثيف للصينيين في هذا البلد، قائلًا إنّ "عدد الصينيين المقيمين لديكم في ناميبيا حاليًّا، يتجاوز الألمان بأربعة أضعاف"، وإنّ "هذا ليس ما يحدث في مختلف أنحاء العالم"، فما كان من الرئيس الناميبي إلا الرد عليه بصورة محرجة: "ما مشكلتك مع هذا؟ إنّك تتحدث عن التواجد الصيني في ناميبيا، وكأنّه مشكلة أوروبا، وليس موضوعًا يهمنا نحن".
جاء الإطفائي ينفث سلامًا بدلًا من الحمم، وبضربة معلم واحدة جمع الخصمين العنيدين (السعودية وإيران) على طاولة واحدة، بعد جولات متباطئة -لن نقول: متعثرة- من الحوار في كلٍّ من بغداد ومسقط. في بكين، الأمر لم يستغرق أكثر من خمسة أيام، ولكن ليس بدون معلم.
تطوُّر الأمور بهذا الاتجاه، دفعَ الرئيسَ الفرنسي للتصريح أثناء جولته الأفريقية بـ: "انتهى عصر فرنسا الأفريقية"، وأنّ بلاده ستقدِّم نفسها لأفريقيا بصورة مغايرة عمّا كانت عليه سابقًا. مشكلة الدول الاستعمارية أنّها منذ نهاية فترة الاستعمار، لم تتغير نظرتها نحو مستعمراتها السابقة إلّا كتوابع أو ممتلكات منسية مؤقتًا، وهي لن تتغير بدون أن تتغير المستعمرات السابقة نفسها. وهكذا بعد تفكير عميق بتحركها على رقعة الشطرنج العالمية، تقول الصين للغرب: كش ملك.
التنين يطفئ الحرائق
بعدما أوصلت الولايات المتحدة التوترات في الشرق الأوسط إلى ذروتها، وتنتظر من يشعل عود الثقاب كي تنقض للمرة الأخيرة، وبينما كان الجميع ينتظر الحبكة الأخيرة للسيناريو الأمريكي-الإسرائيلي الذي يجب أن ينتهي بإعلان تشكيل الشرق الأوسط الجديد، حسب الخريطة التي أعدّتها الإدارة الأمريكية (بوش الابن)، وهو السيناريو الذي كان يحتاج لحرب جديدة تشعل المنطقة، تكون خاتمة الحروب حيث لا تتمكن المنطقة بعدها من التنفس مجدّدًا.
تأخّرت الحبكة الأمريكية (ربما) بفعل سكرة صفقة أبراهام، وفجأة من العدم ترتسم أمام ناظرينا حبكة جديدة، تقود مسار الأحداث في المنطقة في اتجاه آخر.
جاء الإطفائي ينفث سلامًا بدلًا من الحمم، وبضربة معلم واحدة جمع الخصمين العنيدين (السعودية وإيران) على طاولة واحدة، بعد جولات متباطئة -لن نقول: متعثرة- من الحوار في كلٍّ من بغداد ومسقط. في بكين، الأمر لم يستغرق أكثر من خمسة أيام، ولكن ليس بدون معلم.
بيان مشترك صدر في بكين، يعلن استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران. مرة أخرى، تقدِّم الصين نموذجها المختلف للعلاقات بين الدول؛ أن تكون وسيطًا نزيهًا، غير ملزم بتقديم مصالح طرف على حساب آخر، كما تفعل الولايات المتحدة، أو حتى بعض أطراف الرباعية الدولية فيما يخص فلسطين. قدّمت الصين نفسها كوسيط حسن النية- حسب تعبير وزير الخارجية الصيني.
في التفاصيل، نعرف أنّ الدولتين قررتا إعادة فتح سفارتيهما في غضون شهرين، وتفعيل الاتفاق الاقتصادي الشامل لعام 1998، والاتفاق الأمني لعام 2001. هنا لن نقدِّم قراءة للفوائد والخسائر التي يمكن أن تجنيها مختلف الأطراف في المنطقة؛ فهي جلية من ناحية، ومن ناحية ثانية، فنحن لا نريد أن نستبق ظهور نوايا الطرفين التي لا بدّ أن يجليها مرور الشهرين- أي قبيل 15 مايو القادم- إما عن مكر وخديعة (تكتيك)، وإما عن حسن نية وبُعد نظر (استراتيجية) تتجلى فيها الحكمة وبعد النظر السيادي والاقتناع المبرر بأن العالم يمر بلحظة مخاض تاريخية حاسمة، ستغير كل تصوّراتنا عن مفهوم النظام الدولي والعلاقات الدولية.
عقب الإعلان عن استئناف العلاقات بين طهران والرياض، سارع الكثير من المحللين إلى تكهن النتائج والتحولات التي يمكن أن تطرأ على العلاقات الإقليمية والدولية، وقضية توازن القوى في المنطقة؛ وبالتالي تحديد مكامن القوة والضعف التي ستصنف بها المنطقة بعد تنفيذ الاتفاق.
الواضح الجلي أنّ الطرفين، السعوديّ والإيرانيّ، هما الرابحان الأساسيان من الاتفاق بدون أيّ جدال، ولا يحتاج الأمر إلى كثيرٍ من العناء لفهم ذلك. وبالمقابل، هناك أطراف خاسرة بالضرورة.
على أنّ ذيول الصلح الإيرانيّ السعوديّ ما زالت تتوالى، وتتّجه المؤشرات إلى احتمال دفء العلاقات المصرية الإيرانية، وإلى تسارع خطوات التطبيع المصري التركي، واحتمالات التطبيع التركي السوري، وانطلاق اللقاءات السعودية السورية. كما أنّ الزيارة التي قام بها بشار الأسد إلى الإمارات أيضًا تعزّز تصوّرنا بفشل المخطط الداعم للولايات المتحدة في هذه الدولة، وإقرار من جانب الدول التي ساهمت في عسكرة الأزمة السورية بفشلها وانتصار الحكومة السورية، ولو نسبيًّا، وعودتها إلى الساحة الدولية بخطوات متباعدة ولكنها ثابتة.
خارج السرب
اتضح أنّ بعض اليمنيين فقط، وهم يحللون الاتفاق السعودي الإيراني، غارقون في ذواتهم وعاجزون عن مغادرة متاريسهم القديمة، ويتخيلون أمورًا لا يمكن أن تحدث إلّا في مخيلاتهم وليس في مسرح العلاقات بين الدول والمصالح المتبادلة بينها في مضمار الصراع والاتفاق. فبالقدر الذي كانت فيه إيران بحاجة إلى اتفاق من هذا النوع، فإنّ السعودية كذلك كانت أكثر حاجةً ولهفة له بسبب سقوطها في المستنقع اليمني، وإخفاقها في سوريا وليبيا، وتدهور سمعتها ودول الخليج بفعل صفقة أبراهام وأسباب أخرى.
بعض اليمنيين من الساسة والكَتَبة الذين تناولوا الاتفاق بدلًا من استلهام الدرس والعبرة منه والبحث عن مكامن الشجاعة الأدبية والسياسية والأخلاقية للإقدام على خطوة/ خطوات مماثلة على المستوى الوطني، بدلًا من ذلك، سلكوا -للأسف- اتجاهًا في تصورهم الواهم مجافيًا لحقيقة الدور الأجنبي في البلاد، وكأن الدول الأخرى ستكون أكثر حرصًا على المصالح اليمنية أكثر من اليمنيين أنفسهم.
وجّه البعض -مثلًا- للسعودية شديد اللوم على اتفاقها مع إيران دون مراعاة لوضعهم الذي يمكن أن تجف جيوبهم بسببه، وآخرون ذهبوا للتندُّر على الولايات المتحدة؛ لأنّها ليست طرفًا في الاتفاق، وأنّها نتيجة لذلك تلقّت صفعة قوية. ما الذي يفيد بلادنا إن كانت أمريكا قد تلقّت صفعة، أو حتى حَرْدانة من أصحابها.
بينما ذهب طرف ثالث للتعبير عن تبعيته المطلقة لهذا الطرف أو ذاك، وهذا هو الخرف السياسي الذي ليس بعده خرف. إنّ الذين يحملون قضية وطنية عادلة لا يتصرفون بطريقة كهذه، لقد كان ينبغي على الذين وجّهوا التهاني، سواء للسعودية أو لإيران، أن يوجّهوها للطرفين حتى يبرهنوا أنّهم يمثّلون توجهات منفتحة في العلاقات مع مختلف الدول على قاعدة المصالح المشتركة والاحترام المتبادل؛ لأنّ التمترس خلف هذا الطرف أو ذاك سيأتي بالتأكيد بنتائج عكسية؛ أهمّها أنّه يُظهر هذه الأطراف عمليًّا فاقدةً لاستقلالية قرارها؛ وبالتالي فإنّ حديثها عن السيادة والتكافؤ والانفتاح على الآخرين مجرد كلام استهلاكيّ لا معنى له!
لا يمكن أن يكون الاتفاق بين الدول، صابًّا في مصلحة طرف واحد؛ وبالتالي، فالالتزامات الواردة في الاتفاق الإيراني السعودي هي التزامات متبادلة، وعلينا فهم ذلك، فإذا تضمّن الاتفاق عدم إنشاء ميليشيات أو كيانات أو اختراعها، فإنّما ذلك ملزم للطرفين.