"ثقلت لساني وتجمّد الدم في عروقي، شعرت أنّ الحياة أظلمت في عيني، فهي ابنتي الكبرى"؛ هكذا يصف محمد علي حالته لحظة إخبار الطبيب له بنتيجة فحص طفلته ذات التسعة الأعوام، والتي تم عرضها عليه إثر ظهور أجزاء من الغدد الليمفاوية خلف أذنها.
أثبتت نتائج الفحوصات الأولية معاناة هذه الطفلة من هبوط كبير في الصفائح، وهو مؤشر أولي للإصابة بداء اللوكيميا أو كما يعرف باسم "سرطان الدم"، إذ يقول والدها لـ"خيوط": "تابعنا إجراء الفحوص الطبية، لكنها أكّدت إصابتها بهذا المرض"، مشيرًا إلى أن تطمينات الأطباء أعادت إليه الأمل تدريجيًّا، ولا يزال متشبثًا به حتى الآن.
شهدت السنوات الأخيرة، تزايدًا ملحوظًا لأعداد المصابين من الأطفال باللوكيميا في اليمن، ويعزُو مختصون ذلك إلى مخلفات الحرب وتبعاتها، والتغذية غير الصحية، التي تحتوي على مواد مسرطنة مع تردّي معيشة نسبة كبيرة من اليمنيين في ظل معاناة البلاد من تدهور واسع في الخدمات الصحية.
بدوره، يتطرق المواطن نبيل محمد، والد أحد المرضى لـ"خيوط"، بنبرة خافتة، ونظرات تحبس الكثير من الدمع، وملامح تخفي مزيدًا من الوجع- إلى الحديث عن فحص النخاع الذي خضع له طفله، الذي يعتبره من أسوأ ما يمر به المريض، حيث يتم سحب الدم من النخاع في الظهر أسفل العمود بواسطة إبرة غليظة وحادّة، ويتم تخدير المريض لشدة الوجع، فيما يسمى بالعمليات الصغرى.
مجموعة من الأطباء غالبيتهم من النساء، يعملن ببرنامج محكم في مركز علاج اللوكيميا، لكبح هذا الداء، في محاولة مضنية ومستميتة لإنقاذ مئات الأرواح، وإعادة البسمة التي فقدت من على شفاه الطفولة.
يقول أطباء إنّ فحص النخاع هو من يحدد إصابة المريض بهذا الداء من عدمه، لكنه يتكرر أكثر من مرة أثناء أخذ الجرع، وتأخذ نتيجة هذا الفحص في مختبرات المستشفيات الحكومية وقتًا يصل إلى ثلاثة أيام.
ويجبر الوضع الحالي الذي يمر به اليمن، بحسب منظمة الصحة العالمية، أكثر من 35 ألف مريضًا بالسرطان –وما يقارب من 10 آلاف حالة جديدة يتم تشخيصها كل عام– على أمل البقاء على قيد الحياة فقط، وذلك بالنظر إلى وضعية القطاع الصحي بسبب الحرب والصراع في البلاد، حيث تضررت تقريبًا نصف المستشفيات والمرافق الصحية في اليمن، ممّا أودى بالنظام الصحي لحافة الانهيار.
تكاليف مضنية للبقاء
لا تزال أعداد المرضى المترددة على مركز اللوكيميا بصنعاء من جميع المحافظات في تزايد مستمر، في حين يفتقر المركز بشدة للمستلزمات الطبية والعلاج الكيميائي. ويتم تغطية ما يزيد على 20% فقط من احتياجات المرضى.
"انتظرتها أمي خمسة وعشرين عامًا، فهي وحيدتنا بين خمسة أولاد"؛ يقول أخو رنين -لـ"خيوط"- إحدى المصابات باللوكيميا، التي فارقت الحياة عندما أكملت جرعتها الأولى، بعد مضاعفات كبيرة دخلت على إثرها إلى قسم الرقود، ووصلت مناعتها إلى سالب واحد تحت الصفر، فيما الصفائح كانت درجة واحدة؛ غادرت الحياة ببراءتها وعمر لا يتجاوز الأربعة أعوام، وتركت خلفها حلمًا لم يكتمل.
يفقد الكثير من المرضى توازنه بعد أخذ جرع الكيماوي الأولى، فيما بعضهم تخور قواه، ويعجز عن المشي، كما هو الحال مع الطفلة أريام ذات التسعة أعوام، يقول والدها لـ"خيوط": "كانت تلعب وتمارس حياتها كالمعتاد، ومع أخذ الجرعة الأولى بدا على وجهها التعب، ثم الإرهاق والخمول والغثيان، وضعف المناعة. وصولًا إلى العجز عن المشي، وتساقط الشعر".
خلال هذه المرحلة يدخل الكثير من المرضى قسم الرقود بعناية مضاعفة، في محاولة لاستعادة ما أفقدته جرعة الكيماوي، في حين تستمر هذه المرحلة من أسبوعين إلى شهر مع إجراء فحوصات يومية لمتابعة الحالة.
من جانبه، يجد صفوان الشرعبي صعوبةً بالغة في الحصول على الكمية التي يحتاجها ابنه من الدم من مستشفى السبعين، إذ يقوم غالبًا بشرائه من مستشفيات خاصة.
لم يصمد ابنه عبدالله كثيرًا، فقد لفظ أنفاسه في غرفة الرقود، بعد ما يزيد على أربعة أشهر من الألم، ومعاناة أهله في متابعة علاجه في المستشفى.
تختلف أسعار "قربة" الدم كما يطلق عليها في اليمن (أكياس حفظ الدم)؛ حسب ندرة الفصيلة، حيث تتراوح أسعارها بين 5 آلاف و12 ألف ريال.
وقربة أو أكياس الدم نوعان: كيس صفائح أصفر، وقرب دم أحمر، عادة ما يتم طلبها حسب حالة المريض؛ فمرض اللوكيميا (سرطان الدم) من أعراضه انخفاض الصفائح الدموية وكريات الدم البيضاء الطبيعية، وهذا يبدأ من أول جلسات الجرع الكيماوية، وأحيانًا قبلها وأثناءها، بينما تبدأ حاجة المريض للدم الأحمر والأصفر من الشهر الأول لاكتشاف المرض، وأحيانًا عند الرقود، حسب مناعة المريض ومقاومته.
وضعية النظام الصحي
تسبّبت الحرب والصراع في اليمن، في تدمير النظام الصحي الهش، ووصوله إلى حافة الانهيار، وفق منظمة الصحة العالمية، التي تؤكد صعوبة حصول المصابين بالأمراض المزمنة على العلاج أكثر من أي وقت مضى.
يُعدّ مركز علاج لوكيميا الأطفال في صنعاء الوحيد من نوعه في اليمن من حيث التخصص. ومع غياب الدعم الحكومي، يبقى المركز بحاجة ماسة إلى الإمدادات الطبية، حيث إن ما يتوفر لدى المركز حاليًّا لا يغطي سوى جزءٍ قليلٍ من احتياجات المرضى.
مجموعة من الأطباء غالبيتهم من النساء، يعملن ببرنامج محكم في مركز علاج اللوكيميا، لكبح هذا الداء، في محاولة مضنية ومستميتة لإنقاذ مئات الأرواح، وإعادة البسمة التي فُقدت من على شفاه الطفولة. تبيّن الطبيبة نسيم العبسي، نائبة رئيس مركز علاج اللوكيميا في صنعاء، لـ"خيوط"، بقولها: "المرض يظهر نتيجة نشوء خلايا سرطانية في نخاع العظم، فتعمل على نقص الدم، وهذا الخلل في نخاع العظم، يتسبب في إضعاف الجسم؛ وذلك بسبب الخلايا الخبيثة المتمركزة في النخاع العظمي المسؤول عن إنتاج كريات الدم البيضاء التي تقوي المناعة، إضافة إلى إنتاج الصفائح التي تحمي الجسم من النزيف، حيث يصدر خلايا دم ضارة غير طبيعية بنسبة كبيرة، فتنتقل إلى الجسم وتهاجم الخلايا السليمة، وتعمل على قتلها وأخذ مكانها، ما يؤدي إلى سرعة انتشاره في الدم كله، وفي أعضاء مختلفة من الجسم.
تضيف العبسي أن نسبة الشفاء في "مركز اللوكيميا" تصل إلى 65%، حيث يتوقف ذلك على مدى استجابة جسم المريض للعلاج، ونوع المرض، فهناك نوعان منه: ثقيل"b"، وخفيف "T"، لافتةً إلى أهمية الكشف المبكر، وانتظام استخدام الأدوية وفق وصفة الطبيب، إضافة إلى الرعاية والاهتمام من قبل الأسرة والمجتمع.
تردي الوضع المعيشي لدى أغلب الأسر في اليمن، وانشغالهم بتوفير لقمة العيش، سهّل للمرض التوغل بنسبة كبيرة، حيث لا يتم الالتفات للمريض إلا وهو في مرحلة متقدمة من المرض، وفي هذه الحالة يصعب السيطرة على الداء، وتكون نسبة الشفاء ضئيلة.
يعاني مركز علاج اللوكيميا بصنعاء من ضغط هائل يتخطى حجم قدراته وإمكانياته؛ كونه المركز الوحيد المتخصص في اليمن، في ظل تزايد الأعداد الكبيرة من المرضى القادمين من مختلف المحافظات، التي تفوق السعة والإمدادات الطبية المتوفرة.
وترجع العبسي تزايد أعداد الوفيات إلى مضاعفات المرض (الالتهابات)؛ حيث يكون المريض معرضًا للالتهابات خلال فترة العلاج. وتقول: "إن أغلب المرضى يعيشون في بيئة يغلب عليها الفقر، فيكون المريض معرضًا للالتهابات بشكل متواصل، نتيجة التغذية غير السليمة، والمأوى غير الصحي، وكذا ارتفاع تكاليف بعض الأدوية مع طول الفترة الزمنية التي يقضيها المريض في تلقي العلاج".
أعراض ومعاناة مضاعفة
يُجمع مختصون على أنّ الأعراض الشائعة للإصابة باللوكيميا (سرطان الدم)؛ عبارة عن ظهور كدمات في الجسم، مع انخفاض نسبة الصفائح ونقص الدم، أو مع حدوث نزيف دم متواصل من الأنف أو من اللثة، والإحساس بالتعب والإعياء المستمر، وضعف كامل في أجهزة الجسم، مع آلام في البطن والصدر، واصفرار وشحوب في لون الوجه، وضيق في عملية التنفس، وآلام في المفاصل والعضلات، وتعرق ليليّ وإصابة بالحمى.
إضافة إلى فقدان الشهية وانتقاص الوزن وارتفاع درجة الحرارة وقشعريرة دائمة في الجسم، حيث تتفاوت هذه الأعراض أو بعضها من مصاب إلى آخر، حسب مناعة الجسم، وفترة الإصابة؛ لأن الجسم المصاب قد يحمل المرض أربعة أشهر ولا تظهر الأعراض إلا بعد هذه الفترة؛ لذلك يطلق عليه بعض الأطباء "المرض الغادر".
الطبيبة أمل عبيد، اختصاصية لوكيميا الأطفال، توضح لـ"خيوط"، أن من ضمن "الأسباب الرئيسة لهذا الداء هي الجينات وموقعها، وأعدادها، والتعرض للأشعة والمواد الكيميائية والمواد الحافظة للأكل"، مشيرةً إلى ارتفاع عدد الحالات المصابة بالمرض خلال سنوات الحرب والصراع في اليمن، التي تقدرها بحوالي 5 حالات جديدة يوميًّا مقارنة بحالة واحدة في سنوات ما قبل الحرب في العام 2014.
تنوه عبيد أنّ المريض خلال تلقي العلاج يتعرض للكثير من الآثار والمضاعفات التي يعاني منها خلال تناوله العلاج الكيميائي، وهي: تساقط الشعر، والغثيان، والقيء، والدوخة، وفقر الدم، وقلة الصفائح الدموية، وحدوث ضرر في الرئة.
ويعاني مركز علاج اللوكيميا بصنعاء من ضغط هائل يتخطى حجم قدراته وإمكانياته؛ كونه المركز الوحيد المتخصص في اليمن. والأعداد الكبيرة من المرضى القادمين من مختلف المحافظات، تفوق السعة والإمدادات الطبية المتوفرة.
أخصائية التغذية والدعم النفسي عبير الصنعاني، تؤكد لـ"خيوط"، أنّ تردّي الوضع المعيشي لدى أغلب الأسر في اليمن، وانشغالهم بتوفير لقمة العيش، سهّل للمرض التوغل بنسبة كبيرة، حيث لا يتم الالتفات للمريض إلا وهو في مرحلة متقدمة من المرض، وفي هذه الحالة يصعب السيطرة على الداء وتكون نسبة الشفاء ضئيلة.
وتضيف الصنعاني أنّ بعض الأُسَر يضطرون إلى بيع كل ما لديهم لمواجهة المرض وتكاليف العلاج، خاصة عندما يكون المريض من محافظات أخرى، إذ تتضاعف المعاناة بشكل كبير، فيتكبدون معاناة السفر والسكن والمصروفات، وبعضهم يسكن في فناء المركز أو في مكان من ملحقات المستشفى.
تضيف أنّ المركز يواجه أعباء كبيرة بسبب ضعف الدعم ونقص الأدوية؛ بالتالي يكون الأطفال عرضة للخطر واحتمال الموت لعدم قدرة المريض على شراء بعض الأدوية المكلفة جدًّا التي لا تتوفر بالمركز.
وتواجه العديد من أسر المرضى ممن يعانون من أمراض مزمنة ظروفًا قاسية وصراعًا مستمرًّا للحصول على الرعاية الطبية، في حين أن الفقر ونقص الموارد والرعاية الطبية بات أمرًا شائعًا لدى ملايين اليمنيين، إذ يحتاج -كما تؤكد منظمات دولية- أكثرُ من 75%؛ نحو 22 مليون شخص، للمساعدات الإنسانية والحماية.