يواجه أطفال اليمن أسوأ ما تمر به البلاد من ظروف، ابتداءً بتدني مستوى دخل الفرد وانعدام فرص العمل وارتفاع الأسعار، وليس انتهاء بانهيار العملة المحلية؛ نتيجة استمرار الحرب، ليجد الأطفال أنفسهم أمام البحث عما يعينهم على استمرار الحياة، مقتحمين سوق العمل مبكرًا، وتاركين مقاعد الدراسة في مقابل الالتحاق بأعمال شتى لا تتحملها قدراتهم البدنية والجسمانية.
لا تكاد تمر بجولة أو إشارة مرور إلا وتجد الأطفال الباعة منتشرين على الأرصفة وعلى جوانب الطرق؛ مشاهد مؤثرة تحكي مأساة من مآسي الوطن المكلوم.
أسوأ الأعمال
أطفال في مقتبل العمر يواجهون ظروفًا شاقة ومآلات مجهولة، يقول رئيس منظمة سياج لحماية الطفولة، أحمد القرشي لـ"خيوط": "إن عمالة الأطفال في اليمن ازدادت بشكل كبير، وغير مسبوق خلال سنوات الحرب الأخيرة، حيث تقدر "سياج" بأن أعداد الأطفال المنخرطين في أعمال شاقة، كالتجنيد والمشاركة في القتال، قد تضاعفت إلى أكثر من ثلاثة أضعاف ما كان عليه الوضع قبل سنة 2014، إذ أدى الانهيار شبه الكامل للعملية التعليمية وتدمير كثير من المداس، إضافةً إلى حالة الفقر التي زادت إلى أكثر من 75% وفق تقديرات الأمم المتحدة، مقارنة بـ47% سنة 2014، علاوة على موجات النزوح التي بلغت أربعة ملايين نازح غالبيتهم أو قرابة 70% منهم من الأطفال والنساء، وغياب آليات حماية الأطفال وعدم وجود مؤسسات تقدم الحماية والرعاية لهم- إلى توسع الظاهرة بشكل كبير.
تشير منظمة العمل الدولية إلى أنّ 1.4 مليون طفل يعملون في اليمن محرومون من أبسط حقوقهم، وأنّ نحو 34.3% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم ما بين 5 و17 عامًا يعملون باليمن، مع توسع الظاهرة خلال فترة الحرب بنسب قد تتجاوز أربعة أضعاف عما كانت عليه قبل الحرب.
أطفال خارج الطفولة
جحيم جعل من الأطفال في مواجهة مباشرة مع لفحات الشمس الحارقة ولسعات البرد، فيما يبقى همهم الأكبر مرتبطًا بكيف يبيعون ما بأيديهم من قناني الماء، والمناديل الورقية وإنهاء يوم شاق، يخرجون بعده بمردود يسد رمق جوعهم ويواري حاجتهم وعوز أسرهم في بيئة تضيق بالطفولة شيئًا فشيئًا.
يضمن قانون الطفل رقم 45، الحقوق الكاملة التي يجب أن يتحصل عليها الطفل، وبمقتضى هذا القانون ينتفي أي عارض يجيز أي عمل للطفل يخرجه من بيئته الطبيعية لبيئة لا تلائم مرحلته العمرية
غصةٌ أصابت البلاد، فلا أنكى من ترك الأطفال تحت لهيب الشارع المحموم بقضايا العالم، ناهيك عن تجليات وطن أكلته الحرب، يتجرعون همومًا أكبر من أعمارهم.
ترى المرشدة النفسية، مروى العواضي، أن ظاهرة عمالة الأطفال كغيرها من الظواهر السلبية المنتشرة في المجتمع لها آثار سلبية على الطفل بشكل خاص والمجتمع بشكل عام، حيث يتأثر نمو الطفل وتطوره الجسدي والمعرفي والانفعالي والأخلاقي والنفسي جراء تعرضه للمخاطر في أعمال تفوق قدراته.
وتضرب العواضي في حديثها لـ"خيوط"، مثالًا حول ذلك قائلةً:" تتأثر صحة الطفل الجسدية من ناحية التناسق العضلي وضعف بعض الحواس نتيجة الجروح والكدمات والوقوع من أماكن مرتفعة والاختناق بالغازات السامة وغيرها من المخاطر، تنخفض أيضًا قدراته في القراءة أو الكتابة أو الحساب، إضافة إلى تدني إبداعه ونموه الانفعالي.
وتشير العواضي إلى أن الطفل يجد نفسه فاقدًا احترامه لذاته وارتباطه الأسري وتقبله للآخرين، جراء بعده عن الأسرة وتعرضه للعنف من قبل صاحب العمل، وخاصة إن كان يتكتم على ما يحصل له من تعنيف، وبالتالي يتحول كالعبد لدى صاحب العمل.
وتخلص العواضي أن هذه الإشكاليات تسبب خطرًا كبيرًا على الأطفال، خاصة الفتيات اللواتي يعملن كعاملات منزل ويعشن بعيدًا عن الجو العائلي، إذ قد يصبحن ضحايا للاعتداء الجسدي والنفسي والجنسي، أما الفتيات اللواتي يعملن في بيوت "مخلة" فإن الضرر الذي يلحق بهن بالغ الخطورة، نتيجة للانتهاك العاطفي والجنسي، الذي قد يتعرضن له في سن مبكر، مما يهدد توازنهن النفسي والاجتماعي مستقبلًا.
غياب المعيل وحُجة عمل الطفل
قد يكون ألم فراق المعيل من أثقل ما تواجهه العائلة الصغيرة، وهو ما قد يدفع بالأطفال، خاصة الطفل الأكبر للعمل، وفاقم غياب مؤسسات كفالة الأيتام، من محدودية الخيارات. المحامي أكرم الأشبط، يتحدث لـ"خيوط" قائلًا: "إن القانون يجرم عمالة الأطفال؛ كون الطفل مكانه الطبيعي المدرسة، وأبواه ملزمان بتوفير متطلباته الصحية والتعليمية، وتلبية احتياجاته من مأكل ومشرب حتى يصل إلى السن القانونية التي تسمح له بالعمل"، وأشار إلى أن قانون الطفل رقم 45، الحقوق الكاملة التي يجب أن يتحصل عليها الطفل، وبمقتضى هذا القانون ينتفي أي عارض يجيز أي عمل للطفل يخرجه من بيئته الطبيعية لبيئة لا تلائم مرحلته العمرية.
وتابع: "ما نلاحظه أن الأطفال يعملون في أعمال شاقة لا يقدر عليها الكبار، وهذا الانتهاك لحقوق الأطفال والاستغلال الذي يمارسه أرباب العمل مستغلين مرحلة ضعف الدولة وحاجة الأطفال للعمل لا يقف أحد ضده."
ودعا المحامي الأشبط، المنظمات المحلية المعنية بالطفل وغيرها من المنظمات التي تناصر القضايا الإنسانية إلى تكثيف جهودها في جانب الحث على تحجيم وإنهاء ظاهرة عمالة الأطفال الآخذة بالازدياد، من خلال إقامة ورش ودورات مع الآباء وقادة المجتمع وتعريفهم بالقوانين المحلية والدولية التي تحرِّم عمالة الأطفال، وتركهم لحقوقهم في العيش.
الحرمان من التعليم السمة الأبرز
يحرم الأطفال العاملون من التعليم، وهو ما يضاعف من نسبة الأمية التي تعاني منها البلاد، ويهدد الجهد العام في القضاء على الأمية، ففي حين صار مفهوم الأمية في العالم متعلقًا بعدم إجادة استخدام التكنولوجيا وإجادة اللغة الإنجليزية، وليس عدم القدرة على القراءة والكتابة، ما نزال في اليمن في فجوة الأمية البدائية؛ نتيجة تسرب عدد كبير من الأطفال من التعليم والانخراط في سوق العمل.
وتجدر الإشارة إلى أنه لا يُعرف العدد الحقيقي للأطفال المبتعدين عن التعليم والملتحقين بسوق العمل، أو المنخرطين في صفوف طرفي الصراع كمقاتلين.
يحكي الطفل مختار محمد، ذو الخمسة عشر ربيعًا قصته مع العمل لـ"خيوط" قائلًا، إنه بدأ بمساعدة والده في مصاريف المنزل عند الثانية عشرة من عمره، حينها بدأ يعمل في بقالة ونقل بضائع من المخازن، وبألم يتذكر تلك الحمولات الثقيلة التي كان يحملها، لدرجة أنه كان يلجأ لسحب بعضها؛ بسبب ثقلها ووزنها الزائد. ويتابع مختار حديثه، "أن المضايقات من أرباب العمل تمثلت باستغلاله وعدم مراعاة عمره في إسناد الأعمال الشاقة إليه".
مختار الآن يعمل في بسطة لبيع البطاطا، يقول إنها أهون من وضعه السابق، مؤكدًا أنه لن يترك المدرسة مهما كان الأمر، ولذلك يسعى للتوفيق بين عمله وبين المدرسة؛ كون التعليم وحده هو من سينتشله من عمل الشارع.
ترتبط ظاهرة تسول الأطفال بخروجهم للبحث عن عمل، وربما يكون الاضطهاد الأسري في المنزل دافعًا لذلك، ثم إن إجبار الطفل على ممارسة التسول، بما فيه من امتهان لكرامته، تضع أسرته في موضع المساءلة الأخلاقية قبل القانونية، وتفتح الباب على مصراعيه لضرورة إعادة التفكير بمنهجية واضحة في حال الإقبال على بناء عائلة تمثل اللّبنة الأساسية لأسرة سعيدة، وفق معطيات واقع المقبل على هذه الخطوة.
وإذا كان بعبع "الفترة الاستثنائية" هو المسيطر في تبريرات الوضع القائم، فإن نماذج أخرى صنعت إنجازات في ظل ما نعيشه، تستحق المقارنة والسير على نهجها بإمكانيات محدودة تحفظ ماء الوجه.