منذ شهرها الأول في الحياة، بدأت حماس الدعيس (23 عامًا)، تعاني من إسهال ومغص وإمساك متكرر، إضافة إلى فقر في الدم ونقص حادّ في بعض الفيتامينات، ولا تزال تعاني من هذه الأعراض حتى الآن، بالرغم من محاولة والديها معالجة الأمر في وقت مبكر وزيارة الأطباء بشكل مستمر لإيجاد طريقة علاجية أو حتى تشخيص مناسب للمرض، غير أنهم لم يجدوا ما سعوا إليه.
تقول الدعيس، لـ"خيوط"، إن كل الحلول التي كانت تقوم بها والدتها خلال فترة طفولتها باءت بالفشل، ما ضاعف من معاناتها مع المرض منذ فترة مبكرة في السن، وظلت معاناتها تكبر معها إلى السابعة من عمرها بعد أن تم تشخيصها وتأكيد إصابتها بمرض "السيلياك" في إحدى المستشفيات خارج اليمن.
يعتبر السيلياك (Celiac Disease) أو ما يطلق عليه بالداء البطني أو الداء الزلاقي، ويسمى في بعض الأحيان مرض حساسية القمح- مرضًا باطنيًّا مناعيًّا وراثيًّا مزمنًا، ومكتسبًا طويل الأمد، وينتج عن عدم تحمل الأمعاء أيَّ أكل يحتوي على بروتين القمح (الغلوتين)، أو بروتين الشعير، الذي يسبّب ضمورًا وتحطيمًا للأغشية المخاطية في الأمعاء الدقيقة، كما يؤدّي كذلك إلى سوء امتصاص المواد الغذائية والأملاح والمعادن الضرورية للجسم، حيث يهاجم فيها الجهازُ المناعي أنسجةَ الجسم عند تناول المصابين مادة الغلوتين، ممّا يضر بالأمعاء؛ لذلك لا يمكن للمصاب به تناول العناصر الغذائية، وفقًا لخدمة الصحة الوطنية" (NHS) في بريطانيا.
عاشت حماس الدعيس، وغيرها كثيرون في اليمن، طفولةً صعبة للغاية مع تزايد أعراض المرض، التي كانت تبدو عليها من فترة إلى أخرى، خاصة الأعراض التي تسبّبت لها بمشكلات في نموها، والتي بدأت تظهر بشكلٍ أكبر مع تقدمها في السن، إضافة إلى مشكلة نقص الفيتامينات، الذي ينتج عنه تبعات صحية كثيرة.
بالرغم من الحرص المستمر الذي تبديه إحدى الأمهات على حماية طفلها والتزامه بالنظام الغذائي الذي وضعته، تُفاجَأ من حين لآخر بتناوله بعضَ الأطعمة المكشوفة في الشارع، التي تسبب له انتكاسات مستمرة، بالإضافة إلى أن صعوبة الأوضاع الاقتصادية والمعيشية وتدهورها، وارتفاع أسعار الأطعمة المخصصة لمرضى "السيلياك" وندرتها، تشكّل عائقًا كبيرًا لدى الكثير من الأُسَر.
وبالرغم من عدم وجود إحصائيات للمرضى الذين يعانون من مرض "السيلياك" في اليمن، فإنّ المؤسسة المتخصصة "يمن سيلياك" استطاعت الوصول إلى أكثر من 1300 مريض، في حين توضح مؤسِّسة ورئيسة المؤسسة (بسمة مصطفى)، أنّ الأرقام أعلى بكثير من هذا الرقم الذي تم التوصل إليه.
يتطلب هذا المرض من المصابين التعايشَ معه طوال عمرهم، في ظل عدم وجود أيّ علاج له حتى الآن، إذ يرى مختصون أنّ اتّباع حمية غذائية هو الحل الأنسب، وقد تكون صعبة إلى حدٍّ ما، وتناول وجبات معينة خالية من مادة الغلوتين الموجودة في كثير من الأطعمة، لكن الأمر قد يكون صعبًا بالنسبة للأطفال، بحسب الدعيس، التي تشير إلى صعوبة تقبُّلها موضوع الحمية الغذائية بالنسبة لها ولأهلها أيضًا خلال مرحلة الطفولة، بالرغم من كسرها القواعد أكثر من مرة، ما كان يسبّب لها انتكاسات صحية مستمرة، غير أنها تجاوزتها، وأصبحت تعتمد على نظام غذائي معين من أجل الوقاية من المرض.
أسعار مرتفعة للبدائل الغذائية
بينما استطاعت الدعيس معرفة المرض في وقت مبكر من عمرها، وعملت على الوقاية منه؛ ظلت نعمة ناصر أكثر من ثمانية أعوام تبحث عن تشخيص وعلاج للمرض الذي أصاب طفلها عُدي (في العام الثاني من عمره)، وتسبّب له بمعاناة تفوق قدرته وسنّه على تحملها.
تؤكّد ناصر لـ"خيوط"، أنّ طفلها ظل يعاني من انتفاخ في البطن وغثيان وإسهال متواصل، ونقص حادّ بالوزن وخمول وإرهاق، كما كانت تظهر عليه علامات طفح جلدي وحكّة؛ إذ تطلّب الأمر بذل مجهود ومعاناة شاقة في التنقل من مستشفى إلى آخر، وعرضه على كثير من الأطباء، لمعرفة ما أصاب طفلها من مرض تجهل أسبابه وأعراضه، حيث كان يعاني بشدة.
بعد مرور ثمانية أعوام، استطاع أحد الأطباء في صنعاء، من تشخيص مرض طفلها، وأخبرها أنه مصاب بمرض "السيلياك"، وحذّرها من تقديم أي طعام يحتوي على "الغلوتين" لطفلها، وهو ما جعلها تقرر وضع نظام غذائي وقائي، حسب توجيهات الطبيب لطفلها، الذي بدأ بالتحسن.
بالرغم من حرص ناصر المستمر على تشجيع طفلها على اتباع ما وضعته من نظام غذائي، تُفاجَأ من حين لآخر بتناوله بعضَ الأطعمة المكشوفة في الشارع، التي تسبب له انتكاسات مستمرة، حيث تصبح عملية السيطرة على المرض والتشافي منه عملية صعبة، خاصة عند الأطفال.
إضافة إلى أن صعوبة وتدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، وارتفاع أسعار الأطعمة المخصصة لمرضى "السيلياك" وندرتها، تشكّل عائقًا كبيرًا عند الكثير من الأُسر والمرضى المصابين بهذا المرض، إذ يصل سعر الكيلوغرام من الدقيق الخالي من "الغلوتين" إلى نحو 7500 ريال (ما يقارب 14 دولارًا)، بينما يصل سعر "الباكت" من بسكويت الأطفال المخصص للمرضى إلى 3500 ريال (7 دولارات)، كما يبلغ سعر الحبة الواحدة من المكرونة نحو 4500 ريال (8 دولارات)، وهذا مُكلِّف جدًّا بالنسبة لمعظم شرائح المجتمع، إضافة إلى شحة توفرها في الأسواق المحلية.
أعراض المرض وصعوبة التشخيص
يعاني مرضى "السيلياك" في اليمن، من صعوبة في التشخيص والحصول على الرعاية الصحية الجيدة؛ بسبب تردِّي الأوضاع الصحية في اليمن منذ سنوات؛ الأمر الذي يتسبّب لهم بالكثير من المتاعب والصعوبات، في ظل ندرة وشحة الأطباء المتخصصين ومرافق الرعاية الصحية المختصة، إلى جانب المشكلة الأهم، وهي صعوبة تشخيص المرض الذي تتشابه أعراضه مع أمراض أخرى.
يشرح أحمد هدنة، طبيب أطفال، لـ"خيوط"، أنّ هناك نوعين لظهور المرض عند الأشخاص؛ الأول يظهر من خلال أعراض المرض الموجودة في الجهاز الهضمي، مثل الإسهال وانتفاخ البطن المتكرر، وهو الأكثر شيوعًا، ويظهر عند الأطفال من عمر أربعة إلى ستة أشهر، حيث لا يستجيب الطفل المصاب لأي علاجات بعد أن يتم إعطاؤه مأكولات تحتوي على "الغلوتين".
فيما تكون أعراض النوع الثاني خارج الجهاز الهضمي، وقد تظهر من خلال تساقط مزمن للشعر أو نقص شديد في الدم أو نقص شديد في فيتامين (دال) مع هشاشة وكسور في العظام، أو مشاكل في الجلد نتيجة حساسية مزمنة، وعلامات لفطريات والتهابات مزمنة في الجلد لا تستجيب لأي علاجات، وغيرها من الأعراض، مثل: تأخر الدورة الشهرية عند النساء، ومشاكل في الكبد، فضلًا عن أعراض كثيرة جدًّا، غير مألوفة، تظهر في المرضى، مثل الإسهال، بعكس الأعراض في النوع الأول الاعتيادية.
تشخيص النوع الأول يكون سهلًا بالنسبة للأطباء؛ من خلال إجراء فحوصات الدم التي تبيّن مناعة الطفل، ويتم عمل منظار للجهاز الهضمي، إذ يضيف هدنة، بالقول: "نأخذ عينة من الجهاز الهضمي، ويتبيّن لنا اختفاء للخملات الموجودة في الجهاز الهضمي، وهذا يعطي تشخيصًا دقيقًا بأن الطفل مصاب بمرض السيلياك".
يتابع: "أما في النوع الثاني، فإنّ المريض عادةً يأتي في مرحلة متأخرة من المرض، ويكون من الصعب على الطبيب الوصول إلى تشخيص المرض بسهولة؛ لأنّ الأعراض الظاهرة تبدو كأنها أعراض لأمراض أخرى. إضافة إلى أنّ الطب قد وصف أعراض النوع الأول، في حين يواجه الأطباء صعوبةً في النوع الثاني، واكتشاف المرض؛ بسبب ظهوره في صور مختلفة بعكس النوع الأول الذي يمكن تشخيصه بسهولة، بينما تظل الحمية من القمح والشعير والمواد التي تحتوي على مادة الغلوتين؛ أفضل خيار متاح للمرضى".
مبادرة سيلياك اليمن الإنقاذية
بعد أن عانت بسمة مصطفى من مرض "السيلياك" سنوات، ووصلت إلى مرحلة الموت، لا سيما بعد أن كان يتم تشخيصها بأمراض أخرى تختلف من طبيب لآخر، حيث ظلت شهورًا في فراشها منتظرة الموت، إلى أن شخصها أحد الأطباء، إذ كشف عن إصابتها بمرض "السيلياك"، فبدأت بعد ذلك بالتحسن، بعد اتباعها الحميةَ الغذائية.
بعد قيامها بعملية بحث معمق على المرض واكتشاف انتشاره بشكل كبير في محيطها الاجتماعي، قررت بسمة القيام بمبادرةٍ بدأتها بإنشاء مجموعة على تطبيق "الواتساب" من أجل إفادة ومساعدة هؤلاء المرضى وأُسرهم من خلال نشر التوعية بهذا المرض وطريقة تحضير الأطعمة المناسبة للمرضى.
بعد قيامها بعملية بحث معمق على المرض واكتشاف انتشاره بشكل كبير في محيطها الاجتماعي، قررت "بسمة" القيام بمبادرة بدأتها بإنشاء مجموعة على تطبيق "الواتساب" من أجل إفادة ومساعدة هؤلاء المرضى وأُسرهم من خلال نشر التوعية بهذا المرض، وطريقة تحضير الأطعمة المناسبة للمرضى، قبل أن تطلق بعد ذلك مبادرة تحولت إلى مؤسسة تعنى بمرضى "السيلياك".
تقول مصطفى لـ"خيوط"، إن أعداد المشتركين في مجموعة "الواتساب"، كانت تشهد تزايدًا وارتفاعًا يومًا بعد آخر، حيث استمرت في تقديم المحتوى والنصائح لهم خلال الفترة من 2016 إلى 2020، قبل أن تطلق مبادرة "بسمة حياة"، بهدف الانتقال من العالَم الافتراضي إلى الواقع، واستطاعت تنفيذ العديد من الفعاليات، كانت أولها بعنوان: "طعامي بدون غلوتين"، وكان لها صدى كبير في ذلك الوقت بعد إطلاق المبادرة.
ثم سعت لتأسيس كيان رسمي لمرضى السيلياك، إذ وجدت صعوبة في الحصول على تصاريح عمل للمؤسسة التي أطلقت عليها اسم "يمن سيلياك" حتى العام 2021، مرجعةً ذلك إلى عدم وجود معرفة أو وعي لدى الكثير بهذا المرض، وهو ما تسبّب بتأخير أوراق المؤسسة، الأمر الذي جعلها تقوم بتوعية العاملين والموظفين في وزارة الصحة ووزارة العمل حول هذا المرض، وإقناعهم بضرورة وجود كيان مؤسسي لهؤلاء المرضى.
ركّزت المؤسسة بعد انطلاق عملها على مجال التوعية في المجتمع وفي القطاع الصحي، وحاولت توعية متاجر بيع المواد الغذائية والاستهلاكية عن المرض، وأنّ هناك طعامًا خاليًا من "الغلوتين" يحتاجه هؤلاء المرضى، وهو علاجهم الوحيد، في حين كانت هناك مشكلة بعد توفر الأطعمة، تتمثل في ارتفاع أسعارها بصورة تفوق قدرات الناس على توفيرها.
تتابع بسمة، أنه تم العمل على إيجاد "طاحون" للأطعمة الخاصة بمرضى "السيلياك"؛ لأنّ الطواحين الموجودة لا يمكن استخدامها بسبب عملها في طحن حبوب القمح، حيث يمكن لأيّ ذرة قمح أن تعيد المريض إلى نقطة الصفر.
وتقدم المؤسسة الكثيرَ من الخدمات للمرضى، منها دورات توعية في المدارس، وبرامج تدريبية لطلاب وطالبات الجامعات من أجل معرفة المرض، كما نظّمت دورات طبية في بعض الجهات، مثل المختبر المركزي، بهدف التوعية بعملية إجراء الفحوصات اللازمة، التي لم تكن متوفرة من قبلُ، وقد تم توفير الفحوصات رغم ارتفاع أسعارها، في حين مثّلَ المؤتمر اليمني الأول الذي تم تنظيمه منتصف العام الماضي لمرض "السيلياك" -وفق حديث بسمة- نقلةً نوعية في هذه الجهود بعد أن تم عقده وتنظيمه تحت رعاية وزارة الصحة في صنعاء، والهيئة العليا للأدوية، والهيئة العامة للمواصفات والمقاييس.