لا يكاد يخلو شارع في العاصمة اليمنية صنعاء إلّا وتسمع أصواتًا تناديك لتعرض عليك شراء ما تبيعه من الفواكه الموسمية "موز، برتقال، فرسك، رمان، تفاح، حَبْحَب، بَلَس، شمّام، تسمعها كلمات صورية من هنا وهناك، أصوات مبحوحة وممزوجة بحرارة الشمس ورائحة الأسفلت، تلتفت فتجد أمامك فاكهة قُشّرت للتو، تقدّمها روحٌ تنشد الرضى قبل المال، وتحملها يدٌ لو تمعنت جيدًا في تقاسيم كفّها لقرأت سورة مكتملة من الكفاح، ونقشًا حميريًّا خالدًا شاهدًا على مقاومة اليمنيين وصمودهم.
لكنّك لا تنتبه لذلك بالعادة، لأنّ جاذبية ما يعرض عليك من فواكه الأرض الطيبة، لا تترك لك فرصة للتركيز على أيّ شيء آخر غير مذاقها الذي يطعمه الفم من حاسة النظر.
على أية حال، بإمكانك مرافقتي في رحلتنا القصيرة التي لن تأخذ من وقتك سوى بضع دقائق، ولن تكلفك إلّا قطع شارعٍ فقط إلى الناحية المقابلة، شارعٌ واحدٌ من شوارع منطقة الحصبة (شمالي العاصمة).
ستقطع نصف شارع بالمحصلة، فيما النصف الآخر قد تم اقتطاعه من قبل السيارات المرصوصة على جانبي الخط الأسفلتي وبسطات الباعة المتجوّلين الذين يمثّل لهم العمل في مهنة بيع الفواكه الموسمية مصدر الدخل الوحيد لتلبية المتطلبات الأساسية لأسرهم في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعيشها البلد، نتيجة للحرب المفروضة عليها منذ أكثر من سبع سنوات.
هدية قاسم
في سوق الجبلي بشارع مأرب (شرق صنعاء)، كان بائع فاكهة السفرجل الأربعيني، قاسم أحمد، يدفع عربته بفرح كأنه بدأ يومه للتو، ليتجوّل بها من الصباح الباكر إلى المساء، مشيرًا إلى أنّ سعر الكيلو السفرجل يصل إلى 1000 ريال يمني.
قاسم يعمل في بيع الفواكه الموسمية المتنوعة، كالتفاح، والبرتقال، والموز، والرمّان، والشمام، منذ سنوات طويلة، لكونها مهنة "لا تحتاج إلى أموال كثيرة للضمار، ولا يترتب عليها دفع إيجارات وضرائب، ويمكن البداية فيها كل مرة من الصفر"، وهنا ستعرف أنّك في موسم السفرجل حاليًّا.
بالنسبة لقاسم الذي يعول أسرة مكونة من ستة أفراد، ويستأجر منزلًا شعبيًّا مكوَّنًا من غرفتين بمبلغ 30 ألف ريال، فإنّ الربح الذي يجنيه من العمل ببيع الفواكه الموسمية، وإن كان يتفاوت حسب كل فاكهة، ويختلف مقداره كل يوم، ما زال يكفيه لتوفير "وجبة الغداء، ودفع تكلفة الإيجار شهريًّا"، ذلك لا يحقّق الرفاه بالنسبة لقاسم، لكنه يُغنيه عن الاعتماد على غيره.
"السوق بورة ما تخارجش"
ما حصلت عليه من بائع السفرجل؛ جعلني أستبشر ببداية مشجّعة للاقتراب من ثلاثة شبّان سمر يقفون خلف عربات تشكّل مع بعضها على رصيف الشارع، نقاطًا منفصلة في صف أفقي واحدٍ من فاكهة عَنْب الفلفل المعروفة شعبيّا بالـ"عمبا".
النساء اليمنيات -هن الأخريات- دفعتهن ظروف الحرب لاقتحام سوق العمل في مختلف المهن، حتى التي كانت حكرًا في السابق على الرجل، كالعمل في المحال التجارية، أو سائقة تاكسي، ومهندسة هواتف على سبيل المثال، مع ذلك لم يكن من المتوقع أن نجد امرأة تعمل كبائعة متجوّلة بفاكهة العنب على مقربة من بائع السفرجل.
اكتفى الأول بالقول، إنّهم قدموا من مديرية الحسينية بمحافظة الحُديدة (غرب صنعاء)، قبل أن يحيلني لسببٍ ما زلت أجهله، إلى زميله الآخر، للإجابة عن سؤالي "كيف تسير الأمور معكم؟"، والذي بدوره أشار لي بالحديث مع زميلهما الثالث عبدالرقيب الأهدل، الشاب النحيف ذي العشرينيات من العمر، يعصب شالًا خفيفًا (دسمال) على جانب رأسه، يبدو عليه الملل من محاولاته الجاهدة للفت أنظار المارّة دون جدوى، إلى فاكهة عَنْب الفلفل التي قاربت حباتها التحول إلى حساء ساخنٍ بفعل أشعة الشمس الحارقة.
أدركت سبب اختيار زملاء عبدالرقيب له، للحديث عنهم، بمجرد ما بدأ كلامه الذي أشعرني بالأسف وأفقدني، في لحظة، حلاوةَ طعم السفرجل؛ دون ترتيب للكلام قال بائع (العمبا): "السوق بورة بورة ما تخارجش"؛ أي إنّ الأمور لا تسير على ما يرام.
تنتظر أسرة الشاب عبدالرقيب، المكونة من تسعة أفراد، في مسقط رأسه بالحسينية، ما سيحمله ابنها من مال عند عودته من صنعاء التي قصدها لبيع حصادها من فاكهة عنب الفلفل "البابايا"، لتأمين متطلباتها الأساسية من السلع الغذائية ونفقات الحياة، وذلك أسوأ ما في الأمر، إذ كان الأخير يؤكّد أنّ "تكلفة السلة الواحدة من حيث الزراعة والنقل تصل إلى ستة آلاف ريال، فيما لا يتجاوز ربحه بأعلى مستوياته ثلاثة آلاف ريال، وأحيانًا أخرى يخسر مبلغ الربح كاملًا أو يبيع بسعر أقل من التكلفة".
يزرع الناس في الحسينية ومناطق تهامة بشكل عام، الكثيرَ من أصناف الفواكه والخضروات التي يأتي في مقدّمتها المانجو، الحَبحب (البطيخ)، الشمام، الموز، الليمون. وتتصدر محافظة الحُديدة قائمة المحافظات اليمنية في زراعة الفواكه، حسب مركز الإحصاء الزراعي، إلّا أنّ أحد أبرز المشكلات التي تواجه مزارعي تهامة واليمن بشكل عام، هو الكساد الذي يتعرّض له محصولهم نتيجة لغياب الجمعيات والاتحادات الزراعية المناط بها القيام بعملية التسويق، وضمان عدم ذَهاب تعب المزارعين وكدحهم دون فائدة أو طائل، كحال صديقنا عبدالرقيب ورفاقه.
خسارتان
في نفس المكان الذي كنت أقف فيه مع عبدالرقيب، مرَّ أمامنا طفل بالكاد طول قامته تصل إلى مستوى عربة الرمان التي يدفعها بمشقة، توجّهت نحوه مباشرة، لكنه رفض بشكل قاطع الحديث أو السماح بالتقاط صورة، بلا شك احترمت رغبته وتمنّيت له ألّا يخسر المزيد من فرص الحياة بعد خسارته للمدرسة، كما خسرت أنا للتو قصة صحفية، يا للؤم الصحفي حينما ينظر للإنسان كمادة صحفية، ويا لغبائه إذا لم يفعل ذلك، إنّها حقًّا معضلة!
بائع الرمان واحد ضمن مليوني طفل يمنيّ خارج المدارس، بما في ذلك نصف مليون آخر تسرّبوا من الدراسة منذ شنّ العدوان على البلد واحتدام الصراع في مارس (آذار) 2015، فيما تشير التقديرات إلى أنّ 3.7 ملايين آخرين ما يزالون مُعَرَّضين لخطر التسرّب من التعليم، حسب منظمة الطفولة (يونيسف) التابعة للأمم المتحدة، التي فشلت في نسختها المخصصة للكبار، في إيجاد تسوية تضمن استمرار الهدنة الأممية، وصرف رواتب الموظفين، والسير نحو خطوات السلام الذي يسمح بعودة أطفال اليمن إلى المدارس، ويُنهي حقبة من المعاناة بسبب الأزمات المختلفة، وفي مقدّمتها أزمة المشتقات النفطية التي تنعكس سلبًا على أرباح بائعي فاكهة الرمان، حسب أحد زملاء مهنة صديقنا الطفل.
بائعة العنب
النساء اليمنيات -هن الأخريات- دفعتهن ظروف الحرب لاقتحام سوق العمل في مختلف المهن، حتى التي كانت حكرًا في السابق على الرجل، كالعمل في المحال التجارية، أو سائقة تاكسي، ومهندسة هواتف على سبيل المثال، مع ذلك لم يكن من المتوقع أن نجد امرأة تعمل كبائعة متجولة بفاكهة العِنَب على مقربة من بائع السفرجل.
من منزلها في أطراف مديرية بني حشيش، ضواحي العاصمة، تأتي السيدة أم أماني إلى السوق مرتين إلى ثلاث مرات في الأسبوع، مع ابنتها أماني التي لا يتعدى عمرها العشرة أعوام، وإحدى نساء القرية، هذا اليوم كانت قد نجحت ببيع "تنكة" العنب، لكن الأخرى ما زالت تنتظر، ولكي نجد حيلة للحديث معها، قرّرنا الشراء منها بـ250 ريالًا.
لم يكن قرار الشراء بذلك السعر موفّقًا لنيل الثقة، ضاعفناه مباشرة قبل أن تنزلق الأمور إلى سوء الفهم، فالسعر بخس كما تقول "خالتنا" أم أماني، التي تشتكي من تساهل الناس بسعر العنب الفاخر الذي تجلبه من مزارع بني حشيش، والمسؤولية الكبيرة التي تحملها على عاتقها وراء إقدامها على عمل ذلك، والمتمثّلة في "توفير قوت أولادها الستة الذين لا يملكون أحدًا غيرها، بعد دخول والدهم السجن نتيجة لمشاكل كثيرة"، حد تعبيرها.
الطريق إلى فرزة الدائري
الساعة قاربت الواحدة ظهرًا، ليست المشكلة بالمشوار القريب الذي سأمشيه سيرًا على الأقدام من مكاني إلى فرزة باصات الدائري التي تقع في سوق الحصبة الشعبي للفواكه والخضروات، أمّا المكان الذي كنت فيه فلم يكن إلّا امتداد شارع فرعي إلى سوق القات، لكنني من الأساس لم أنتقِ بائعي فاكهة من غيرهم، وإلّا لكنت اخترت شخصًا ممثلًا عن البلس، تلك الفاكهة التي راجت عملية بيعها بشكل ملحوظ بالسنوات الأخيرة.
كلُّ ما في الأمر أنّني وجدت حكايةً في كل بائع فاكهة صادفته في ذلك الشارع أو المربع إذا احتسبنا الكهل الذي يقف في ركن الجولة ليبيع الذرة الشامية، صورته لوحدها تصلح غلافًا لمجلة عالمية، لو كان هنالك صحفي محترف يلتقط الصورة قبل الاستئذان، ذلك أنّه سيرفض حتمًا، ويسأل عن الفائدة من ذلك؟!
الناس هنا يبحثون عن قوت يومهم؛ ووراء كل عربة حكاية كفاح ملهمة، تستحق الوقوف والدعم وتسليط الضوء على مثل هذه القصص الكفاحية في وجه ظروف الحرب القاسية.