تحول المواطن اليمني إلى فريسة سهلة لأبسط الأمراض والأوبئة المتفشية، جراء انهيار المنظومة الصحية المتواضعة بعد الحرب، لكن أورام الدماغ ما زالت هي القاتل الأبرز والصامت الذي يفتك بآلاف السكان في مناطق يمنية مختلفة، دون أن يتصدى له أحد.
وخلافًا لبقية الأوبئة والأمراض التي تعلن عن نفسها بشكل سريع في ملامح اليمنيين، ولا يكون أمامهم سوى المقاومة أو الاستسلام التام، تتسلل الأورام إلى أجساد اليمنيين المنهكة، وتعبث فيها لفترات قد تمتد لسنوات طويلة، قبل أن تردي حامليها، في ظل غياب التوعية الصحية بهكذا أمراض من جهة، وترهل النظام الصحي العاجز عن مقارعة أوبئة بدائية، من جهة أخرى.
لا يزال نظام الرعاية الصحية متخلفًا في اليمن، رغم الزيادة الطفيفة التي حدثت في حجم الإنفاق، حيث شكّل مجموع الإنفاق على الرعاية الصحية عام 2012، ما نسبته (5.41%) من إجمالي الإنفاق العام للدولة، مقارنة بـ(3.98%) من إجمالي الإنفاق العام، في العام 2002.
في العام نفسه كان الإنفاق للفرد الواحد للرعاية الصحية منخفضًا جدًّا، بالمقارنة مع غيرها من بلدان الشرق الأوسط.
وفي الوقت الذي لا تتجاوز تغطية الخدمات الصحية الـ64% من السكان، جُلها تتركز في المناطق الحضرية، تكشف نتائج مسح شامل قامت به وزارة الصحة والسكان في العام 2014، حصلت "خيوط" على نسخة منه، عن عجز كبير في الأطباء والأخصائيين العاملين في اليمن، مقارنة بعدد السكان الذي يقترب من الـ30 مليون نسمة.
وحسب المؤشرات الواردة في هذا المسح، فإن إجمالي عدد الأطباء في اليمن يصل إلى (4840)، ونحو (12897) ممرضًا، وحوالي (16852) سريرًا، وفقط (1704) أخصائيين، منهم 651 في صنعاء، و457 في عدن، و157 في حضرموت، بينما كانت ريمة هي الأقل بأخصائيين اثنيين، وقبلها محافظات مأرب والجوف والمهرة والمحويت بنحو 6 أخصائيين، في حين لا يوجد في بعض المحافظات أي أخصائي.
وبالنظر لهذه الإحصائية، فإن هناك طبيبًا لكل أربعة آلاف نسمة، وأخصائيًّا لكل ثمانية آلاف نسمة، بينما تعاني بعض المحافظات شحًّا كبيرًا في الكادر الطبي، حيث يعمل فيها طبيب لكل (14.634) نسمة، وأخصائي لكل (80.000) نسمة، مع الأخذ في الاعتبار ضعف في القدرات والمهارات، إما بسبب نقص التأهيل والتدريب المتخصص أو عدم الاهتمام بالتدريب المستمر خلال الخدمة.
تلجأ المصانع اليمنية، إلى دفن مخلفاتها بشكل عشوائي وفي محيط مناطق مأهولة بالسكان، وهو ما يجعل آلاف المدنيين، وخصوصـًا كبار السن، عرضة لخطر محدق وأورام سرطانية تختلط بالهواء، أو تتسلل عبر التربة إلى المحاصيل الزراعية
ولا يعد اليمن رقمًا في الدول الصناعية، إلا أن تقارير صحية حديثة تؤكد أن نسبة ظهور الأورام، في البلد الواقع تحت وطأة الحرب منذ ست سنوات، هي الأعلى من بين الدول المجاورة، بل قد تزيد قليلًا عن المعدل العالمي.
وأدّى غياب الدور الرقابي لمؤسسات الدولة وترهلها، إلى اتساع رقعة تفشي الأورام القاتلة بالمدن اليمنية، ووَفقًا لمصادر طبية لـ"خيوط"، فإن بؤرة أمراض أورام السرطان تتركز بدرجة رئيسية في محيط المصانع، التي تمارس أنشطتها بدون أي رقابة حكومية، سواء فيما يخص مصير العوادم المنبعثة منها، أو مخلفات المواد الصلبة والكيماوية.
وتلجأ المصانع اليمنية، إلى دفن مخلفاتها بشكل عشوائي، وفي محيط مناطق مأهولة بالسكان، وهو ما يجعل آلاف المدنيين، وخصوصًا كبار السن، عرضة لخطر محدق وأورام سرطانية تختلط بالهواء، أو تتسلل عبر التربة إلى المحاصيل الزراعية التي يتم زراعتها بالقرب من تلك مدافن مخلفات المصانع.
قناعات خاطئة
خلافًا للكلفة الباهظة التي تحتاجها الوقاية من الأورام السرطانية وتحرم شريحة الطبقة الكادحة والمتوسطة من التفكير فيها، ما زالت جراحة الأورام، وخصوصًا المخ والأعصاب، تمثل مصدر هلع وفوبيا لآلاف المصابين الذين يترددون في إجراء تدخلات علاجية لها، نظرًا للنتائج السيئة التي لحقت بنماذج سابقة من أقاربهم، أو جراء فرص النجاح المتدنية لتلك العمليات الخاصة باستئصال الأورام.
ونظرًا لتلك القناعة التي ترسخت في أذهان غالبية المصابين بالأورام، وخصوصًا سكان البلدات الريفية، كان مئات المرضى يرفضون إجراء تدخلات جراحية، ويفضلون المكوث في منازلهم حتى الإصابة بالشلل التام، باستثناء الشريحة القادرة على تلقي العلاج خارج البلاد، جراء تزايد الهوة بين المريض اليمني والطبيب.
بدأت جراحة المخ بشكل بدائي في عصر ما قبل التاريخ بما يعرف بثقب الجمجمة (نقب الجمجمة)، حيث تعتبر هذه العملية أقدم الجراحات المعروفة وقد ظهرت في العصر الحجري الحديث. أما بالنسبة لجراحة الأعصاب أو الجراحة العصبية (neurosurgery) كما نعرفها الآن، فهي تخصص دقيق من تخصصات الطب، ويعنى بأمراض الجهاز العصبي المركزي والجهاز العصبي المحيطي، وعلاجها بالتدخل الجراحي، ويسمى المتخصص في هذا المجال "جرّاح مخ وأعصاب"، ويحتاج المتخرج من كلية الطب إلى التدرب لمدة ست سنوات على الأقل، في مركز متخصص للحصول على زمالة جراحة المخ والأعصاب .
في سبيعينيات القرن العشرين الماضي، كان في اليمن مستشفى واحد فقط تجرى فيه الجراحة العصبية، وفي محافظة واحدة هي صنعاء، وكان عدد الجراحين لا يتجاوز عدد أصابع اليد، وكلهم يأتون إلى اليمن بنظام الزيارات الطبية.
اليوم أصبحت اليمن مركزًا للبورد العربي في الجراحة العصبية، مع اعتماد تسع مستشفيات للتدريب على مستوى الجمهورية. واستمرارا للتطور الكبير الذي شهدته الجراحة العصبية، فإن المرأة اليمنية خلال العشر سنوات الماضية، خاضت غمار هذا التخصص المعقد، حيث وصل عدد طبيبات جراحة المخ والأعصاب والعمود الفقري إلى ست طبيبات.
استشاري جراحة المخ والأعصاب الدكتور إسماعيل الكبسي يؤكد أن نسبة الإصابة بالأورام في اليمن، تزيد قليلًا عن المعدل العالمي، خاصة أن معظم الحالات لا يتم تشخيصها، وتموت بدون معرفة الأسباب، نتيجة لعدم توفر الإمكانيات، والشحة في الأطباء المؤهلين والمراكز الخاصة
ووفقًا لاستشاري جراحة المخ والأعصاب، ماجد عامر، الذي كان يتحدث في مؤتمر المخ والأعصاب الثالث بصنعاء، منتصف أكتوبر/ تشرين الأول 2020، فإن جراحة المخ شهدت نقلة نوعية بعد استحداثها في معظم المرافق الحكومية والمتخصصة، لافتًا إلى أن اليمن باتت تمتلك كوادر متميزة في هذا المجال، بل وتنقل خبراتها إلى دول خليجية مجاورة.
شحة الإمكانيات
على الرغم من القفزة الحاصلة في حقل جراحة المخ والأعصاب بعد التطور التكنولوجي في الجراحة وظهور أجهزة الأشعة المغناطيسية والرنين المغناطيسي الذي أعاد جزءًا من الثقة المفقودة بين المريض اليمني والطبيب، إلا أن الأورام حققت هي الأخرى قفزة مماثلة في التفشي وسط المجتمعات الفقيرة بشكل لافت.
الطبيب إسماعيل الكبسي، وهو استشاري جراحة المخ والأعصاب، يقول لـ"خيوط"، إنه لا وجود لإحصائية رسمية تكشف حجم انتشار أورام الدماغ في اليمن، رغم التوقعات بأن نسبة الظهور داخل البلد، هي الأعلى من بين الدول المجاورة.
يضيف الاستشاري الكبسي، أن نسبة الإصابة بالأورام في اليمن، تزيد قليلًا عن المعدل العالمي، خاصة أن معظم الحالات لا يتم تشخيصها وتموت بدون معرفة الأسباب، نتيجة لعدم توفر الإمكانيات والشحة في الأطباء المؤهلين والمراكز الخاصة.
وحسب الكبسي، فإن أسباب زيادة تفشي الأمراض الدماغية، يعود إلى زيادة التعرض للمواد المسرطنة، سواء في جانب التلوث البيئي العام أو التعرض للمواد المشعة والملوثة بمواد مسرطنة والمستوردة من الخارج كالأطعمة وغيرها، إضافة إلى الإسراف في استخدام أنواع مضرة من الأسمدة الزراعية غير المطابقة للمواصفات والمقاييس العالمية.
وتنتشر الأورام الحميدة والخبيثة بشكل مكثف في المجتمع اليمني، وقال الطبيب اليمني، علي الأشول، وهو استشاري في المركز الوطني لعلاج الأورام بصنعاء، إن الأورام الحميدة بمنطقة الدماغ، تتسبب بمشاكل عديدة لا تقل عن الخبيثة، وتهدد حياة المريض.
وكشف الطبيب اليمني لـ"خيوط"، أن مكمن خطورة هذا النوع من الأورام، يعود لكونها تتواجد في جزء محدود هو الجمجمة، وحساسيتها أنه في الدماغ، حيث إن أي زيادة في حجم الورم -سواء كان حميدًا أم خبيثًا- تتحتم ضرورة إزالته جراحيًّا وإشعاعيًّا، معًا أو كلًّا على حدة، حسب نوع الورم.
وبالنسبة للزيادة في انتشار الأورام الدماغية في اليمن، قال الدكتور الأشول: "إن الزيادة عالمية في عدد الحالات المصابة، وهي ناتجة عن أسباب كثيرة، أهمها التلوث البيئي سواء الكيميائي أو الإشعاعي ونفايات المصانع".