لعب القات الشامي برأس "العَرُوضي"(*) لعبته، وصلت النشوة إلى أعلى قمة الرأس.
أحمد غانم هناك، والـ"عُسيق" وعبدالملك، والصديق، وآخرون كثر.
يتوزعون على "السرائر" المصنوعة من مادة "الخوص"، كان الوقت يقترب من العيد الكبير.
أصوات السائقين تتداخل، ثم لا تنفك أن تتفرق، وينشغل كلٌّ بما هو فيه، وهمهم كان متمركزًا على "الفِرْزة".
لكن صوت العروضي قطع الطريق على كلّ الأصوات:
سكتوا، قال العُسَيق:
قال أحمد غانم مازحًا:
لم يكن بال العروضي عند الكباش ولا الضيوف، كان باله في مكان ثانٍ، ارتفع صوته:
شيخ مشايخ الجنس الأسود جاء إلى الحديدة من أجل رمضان، جاء يدور على الرعية، والرعية يدرون جيدًا أنّ طلباته لا تُرد.
ذهب محمود ليبحث عنه، وجده أمام معرض الغنامي في شارع صنعاء:
انفرجت أسارير العروضي.
بعد يومين كانوا في تعز، طلبوا من أيوب الخروج، وافق.
* *
هلَّ العيد، حنّ صوت المرفع، أخذ الكون المحيط علمًا بأن العروضي سيزوّج ابنه، وإنّ أيوب طارش سيأتي، غنّت المنطقة كلها: "بالله عليك وا مسافر".
ثلاثة أيام بلياليها أحياها أيوب.
ودندن المرفع والدف أجمل أغاني الفرح.
وجد العروضي نفسه أمام استحقاق لا بدّ أن يوفيه للفرقة المصاحبة، لم يدرِ كيف مرت الطريق الوعرة حتى وجد نفسه والشيخ وأيوب على أبواب تعز.
همس، وقد وصلوا، في أذن عبدالله عبدان:
وببديهية اشتهر بها شيخ الجنس الأسود:
ذهب وعادا بالمطلوب؛ فقد حرر الشيخ الأبيض كشفًا بمن يفترض أن يدفعوا نيابة عن العروضي؛ "المهم أنك شرفت قدس بأيوب"...
على رأس الكشف كتب اسمه وأمامه مبلغ.
كل رموز قدس ...
فاض عن المطلوب، وما زاد كان من نصيب الشيخ عبدالله.
بديهية لا مثيل لها اشتهر بها الشيخ، بدأت ببرقية إلى الإمام أيام الجوع. لفت التوقيع انتباه الإمام:
من يومها، اعتمد نفسه شيخًا على كل اللون الأسود في منطقة الحجرية كلها.
من يساويه ذاكرة وتذكر؟!
نزلت مع سعيد باشا في حملته إلى لحج.
وفي مارسيليا، بلاد اللبن، هناك ترك شقيقه يذهب محاربًا مع الفرنص، ولم يعد إلا عندما زاره في عام تلا بعد سنين:
لكن عبدالله عبدان عاد، وظل مدركًا وبفهم عالٍ أنّ الحكاية كلها ترتبط بارتفاع الوعي، والوعي يأتي من التعليم، والتعليم في مدارس بعد ثورة 26 سبتمبر 62، إليها دفع بأولاده وأحفاده، وكلما مددت يدي إلى يده محاولًا تقبيلها، سحب يده:
لكن عبده وهو نجله الأصغر، كان يطرد التلميذ من الفصل في مدرسة القرية إذا لم يسبق اسمه بـ: الأستاذ.
قلت:
محمد كان يشار إليه بالبنان في شوارع تعز كلما مر ببابور الـ"GMC":
وآخر أحفاده ذهب للدراسة في دمشق، أرسل لي رسالة شفهية:
لماذا أنا بالتحديد؟
لأنني كنت صديقه برغم فارق السن. السن الذي لم يمنعه من ذرذرة ذكرياته في كل مكان يصل إليه.
وإذا لاحظ أن لا أحد يستمتع، علق على عدم الفهم بالإيطالية بلغة الفرنص، تلك التي اكتسب الأولى من الصومال، والثانية من مارسيليا التي اشتغل فيها في البحر مع صاحبه البحار محمد سلام خويلد، والذي عاش حياته بالطول والعرض.
بعد أن تقاعد في قريتهما، كثيرًا متذكرًا نوادرهما:
كان ذلك النهار جميلًا إلى درجة أنّ الشمس سطعت قبل الأوان. كان عيدًا احتشد له الفرنسيون بما لذ وطاب.
دارت الرؤوس والكؤوس، ليمتشق كلٌّ خصره ويراقص جميلات مارسيليا.
صاحب ذبحان من الجنس الأسود، طلب إحدى الجميلات يراقصها، فقبلت على الفور، مما زاد من غيرة خويلد؛ كيف لذلك القوام الممشوق أن يُراقص "الخادم" حتى تبللت الأرض بعرقهم. لاحظ عبدان غيرة خويلد، وجدها فرصة للفتنة وليرد على مقلب سابق لخويلد.
بمجرد أن جلس "خادم" ذبحان، حتى همس في أذنه:
فجن جنون الذبحاني:
- "مخدامة حتى في مارسيليا؟!".
أحس خويلد أن فتنة قد حبكها عبدان، الذي طرح أمامه حلًّا واحدًا:
لم يجد طريقة أخرى ليحل مشكلته، فطلب من عبدان وعدًا بألا يكلم الشيخ تحديدًا عندما يعودان إلى القرية، فتعهد، وخويلد قبل الرأس كثيف الشعر المجعد.
بمجرد أن عادا، ذهب عبدان إلى الشيخ فورًا وأخبره، ليعتكف خويلد في البيت طوال أيام الإجازة، ويخرج تحت جنح الليل عائدًا إلى البحر.
عمره الذي امتدّ إلى ما بعد المئة، ظل شيخ مشايخ الجنس الأسود ذلك الحكيم الذي يدرك أنّ الأمر الذي سيدفن الهوة بين خويلد وخادم ذبحان طريق العلم وحده.
أولاده وأحفاده وحفيداته يحملون شهادات جامعية في واقع يصر على الوقوف حيث هو! لا ماضٍ ذهب، ولا مستقبل أتى.
____________________
(*) عثمان العَرُوضي على أنه واحد "بتانات" عدن، كانت عصاه وعبده جُلود يغلقان حوافي بحالها، هكذا كانا يوصفان.