لم تعتَد العاصمة صنعاء ومختلف المناطق والمدن شمال اليمن مثل هذه الأجواء التي يطغى عليها اللون الأخضر والاحتفالات بهذه الطريقة من التحشيد المبالغ فيها في مثل هذه المناسبات الدينية، في مشهد غير مألوف على المجتمع الذي لم يعتَد سوى على المناسبات الوطنية والعلم الجمهوري للاحتفال بها بطريقة خاصة كتقدير وتبجيل للدولة اليمنية والنظام الجمهوري وتقديم نموذج راقٍ للتعايش ونبذ كل أشكال التفرقة والتشظي مع تقدير مختلف المناسبات الأخرى والاحتفاء بها بالطريقة التي تميز كل مناسبة.
وفي حين تسببت الحرب والصراع الدائر في اليمن بأكبر أزمة إنسانية على مستوى العالم، بحسب تصنيف الأمم المتحدة، وأزمات اقتصادية متعددة، وتهاوي العملة الوطنية المجزّأة بين طرفي الصراع؛ الحكومة المعترف بها دوليًّا وأنصار الله (الحوثيين)، وتدهور معيشي كبير يطال مختلف شرائح المجتمع اليمني مع توقف رواتب الموظفين المدنيين منذ العام 2016، تسخر سلطة أنصار الله (الحوثيين) التي تشنّ هجومًا عسكريًّا واسعًا على محافظة مأرب منذ نحو 8 أشهر للسيطرة على آخر معاقل الحكومة المعترف بها دوليًّا في شمال اليمن– للاحتفال بطريقة مبالغ فيها يصفها كثيرون "بالهستيرية"، بسلسلة من المناسبات الدينية من الغدير إلى المولد النبوي، كما يلاحظ هذه الأيام من احتفالات صاخبة في مختلف المدن شمال اليمن والمؤسسات والدوائر العامة.
يقول المختص في علم الاجتماع، فهمي عبدالخالق، لـ"خيوط": "إن الاحتفال بهذه المناسبات بنهج مذهبي هدفه تأطير المجتمع وتشكيله بطريقة أخرى ترتكز على سياسة مرسومة ومنظمة، لفرض هُوية دينية على حساب الهُوية الوطنية".
ويوضح أن هذه السياسة تعتمد على التكرار والتحشيد وفق سياسة دينية ممنهجة، تستثير عواطف المجتمع أو فرضه بطريقة مباشرة، كما يحدث في مؤسسات الدولة، أو غير مباشرة في المجتمع بشكل عام، والعمل على تغيير الصورة النمطية في أذهان الناس، ليعتادوا على القماش الأخضر كبديل للعلم الجمهوري، والشعارات والأناشيد الدينية عوضًا عن الأناشيد الوطنية، إلى جانب -كما يلاحظ مؤخرًا- إضفاء هذا الطابع على التحشيد العسكري وتصوير مجاميع عسكرية تابعة لجماعة أنصار الله (الحوثيين) في بعض المناطق التي تشهد مواجهات مسلحة في مأرب وهي تحمل الأعلام الخضراء، إضافة إلى ظهور أطقم عسكرية مطلية باللون الأخضر، وهذا بالطبع له دلالة واضحة من قبل الجماعة وهدفها من هذه المعركة.
لكن المحلل الاقتصادي محمد أمين، يرى في حديثه لـ"خيوط"، أن معركة مأرب بالنسبة لجماعة أنصار الله (الحوثيين)، لها مغزى آخر، من ناحية إسقاط آخر معاقل الحكومة المعترف بها دوليًّا في شمال اليمن، والسيطرة على محافظة غنية بالموارد النفطية والغازية وفيها أكبر الحقول النفطية المنتجة في اليمن المتمثل بحقل 18 في صافر، ووضع يديها على أهم موارد الاقتصاد اليمني المعتمد على النفط كمورد رئيسي، وتنويع موارد سلطة صنعاء في ظل انقسام مالي خطير ومدمر في البلاد.
اقتصاد الجبايات
ركزت جماعة أنصار الله (الحوثيين) منذ بداية الحرب الدائرة في اليمن على تكوين اقتصاد موازٍ استند بداية على السوق السوداء عقب قرار الجماعة في مايو/ أيار من العام 2015، تعويم سوق الوقود، الذي استمر بالارتفاع من 3 آلاف ريال، وكانت الزيادة المقرة من قبل حكومة باسندوة بإضافة ألف ريال إلى سعر الصفيحة الواحدة من البنزين "20 لترًا"، الحجة التي تذرعوا بها للانقلاب على مؤسسات الدولة واقتحام العاصمة صنعاء في 21 سبتمبر/ أيلول من العام 2014.
في الوقت الذي يعاني فيه غالبية السكان في العاصمة صنعاء ومختلف المناطق اليمنية، من فقر مدقع وجوع ورواتب متوقفة ويتعذر صرفها من قبل سلطة الأمر الواقع التي تنفق موازنة هائلة على تنظيم احتفالات واسعة بمناسبات دينية كالمولد النبوي، بينما تمتنع عن صرف رواتب الموظفين بحجة أن البلد في وضعية حرب وعدوان وحصار
في آخر ثلاثة أعوام، برزت الجبايات كمرتكز رئيسي لاقتصاد جماعة أنصار الله (الحوثيين) والتي تتهم التحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات، الذي يدعم الحكومة المعترف بها دوليًّا، بفرض حصار شديد، بري وبحري وجوي، يستهدف تضييق الخناق على الشعب اليمني وتجويعه، في حين سخرت سلطة صنعاء كل إمكانياتها لتفعيل الأجهزة المعنية بتحصيل الجبايات وإنشاء هيئة خاصة بالزكاة ولجان معنية بجمع التبرعات، كأدوات رئيسية في هذه السياسة التي تتخذ من المناسبات الدينية الخاصة بها فرصة سانحة لرفع وتيرة تحصيل الجبايات بأساليب وأشكال متعددة.
ومنذ نحو أكثر من 10 أيام، يعمل تجار وملاك محال تجارية وجهات عامة مثل أمانة العاصمة صنعاء وصندوق النظافة وغيرها من الجهات، بتزيين واجهات المحال التجارية ومباني المؤسسات والدوائر الحكومية والشوارع الرئيسية والفرعية، ورفع اللافتات والقصاصات الخضراء وطلاء بعض الواجهات والأماكن باللون الأخضر والأضواء الخضراء، ورفع لوحات دعائية كبيرة تتحدث عن المولد النبوي وأهمية الاحتفاء به، وهو مؤشر يدل على إنفاق ضخم يسري في دائرة مالية واسعة واستهلاك كبير للأقمشة والأدوات الكهربائية وأدوات الزينة المتنوعة وتنظيم الفعاليات المختلفة، في الوقت الذي يعاني فيه غالبية السكان في العاصمة صنعاء ومختلف المناطق اليمنية من فقر مدقع وجوع ورواتب متوقفة ويتعذر صرفها من قبل سلطة الأمر الواقع التي تنفق موازنة هائلة على تنظيم احتفالات واسعة بمناسبات دينية كالمولد النبوي، بينما تمتنع عن صرف رواتب الموظفين بحجة أن البلد في وضعية حرب وعدوان وحصار، واتهام الطرف الآخر (الحكومة المعترف بها دوليًّا) بنهب الموارد العامة، واتخاذ قرار نقل البنك المركزي اليمني وإغراق السوق بالنقد المطبوع وعدم تحمل مسؤوليتها بصرف رواتب الموظفين المدنيين.
الموظف في إحدى المؤسسات العامة، هشام عبدالقادر، يصف في حديثه لـ"خيوط"، هذه الاحتفالات الباذخة بالاستفزازية، تشعره بالقهر والحسرة هو وغيره من المواطنين والموظفين والذين لا يجدون قوت يومهم وتتحجج كل الأطراف وأهمها سلطة صنعاء بعدم القدرة على صرف رواتب الموظفين، والاكتفاء بنصف راتب في عيد الفطر وعيد الأضحى، والتوجيهات بصرف نصف راتب بمناسبة "المولد"، وذلك وفق حديثه، بهدف الاستقطاع منه لصالح الاحتفال بهذه المناسبة.
في الخصوص نفسه، تداول ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي قسائم خاصة بالتبرع لمناسبة الاحتفال بالمولد، دفعها مواطنون في عدم محافظات، مثل ذمار وغيرها، تتراوح المبالغ المدفوعة من 10 آلاف ريال وأكثر.
وعلق ناشطون على هذه الممارسات بالقول إن سلطة صنعاء حولت مناسبة الاحتفال بالمولد النبوي إلى مناسبة لنهب المواطنين، إذ لم تكتفِ هذه السلطة بقطع الرواتب ومضاعفة الجبايات والإتاوات، بل وصل الأمر لمطالبة بالتبرع لهذه المناسبة، ومن لا يلبي هذه الدعوة يتم معاقبته بوسائل مختلفة، منها حرمانه من حصته من الغاز إلى اتهامه بالعمالة والارتزاق.
أساليب ابتزاز تجارية
بالمقابل، يقول تجار تحدثوا لـ"خيوط"، إنهم يتعرضون منذ مطلع سبتمبر/ أيلول الماضي، لابتزاز واسع من قبل السلطات المعنية في صنعاء وفرض المزيد من الإتاوات والمساومة عليها من خلال تهديد القطاع التجاري بتنفيذ لائحة ملزمة وموحدة خاصة بأسعار السلع والمواد الغذائية.
كانت وزارة الصناعة والتجارة التابعة لحكومة صنعاء قد أعلنت مطلع سبتمبر/ أيلول الماضي، عن تشكيل لجنة خاصة بضبط الأسواق وفوضى الأسعار، وفرض لائحة سعرية ملزمة للمواد الغذائية والاستهلاكية.
وحسب خبراء اقتصاد، فإن السلطات المعنية في صنعاء هدفت من وراء هذه القرارات ابتزاز القطاع التجاري ليشارك بجزء من نفقات الاحتفالات بالمولد، وتلبية عدد من المطالب والاحتياجات الخاصة بهذه المناسبة، في حين تنعكس كل هذه الممارسات من قبل الجميع على وضعية الأسواق التجارية وارتفاع أسعار السلع والمواد الغذائية والتي يتحملها، في الأخير، المواطنون المغلوب على أمرهم.
ورفع أصحاب المولات والمراكز التجارية بالعاصمة صنعاء (تجار تجزئة)، شكوى للغرفة التجارية بأمانة العاصمة، تفيد بتفاجئهم بالأسعار التي وردت في القائمة السعرية التي أصدرها قطاع التجارة الداخلية في وزارة الصناعة والتجارة بالعاصمة صنعاء.
زادت حملات التضييق مؤخرًا على الباعة المتجولين وأصحاب البسطات في صنعاء، وتعرضهم لملاحقات واسعة ومنعهم من العمل ومصادرة بضائع وبسطات كل من لا ينفذ القرارات بالسرعة اللازمة
وخلال لقائهم برئيس مجلس إدارة الغرفة حسن محمد الكبوس، وبحضور نائب رئيس مجلس الإدارة لقطاع التجارة محمد محمد شارب، بين التجار أن القائمة السعرية التي اعتمدتها وزارة الصناعة والتجارة تخللها الكثير من المخالفات للواقع السعري للعديد من الأصناف في السوق؛ الأمر الذي يجعل من المستحيل بيعها للمستهلكين بتلك الأسعار.
وبيّن التجار أن التسعيرة قد أغفلت النفقات التشغيلية التي يدفعها التجار ومن المستحيل تجاهلها، إضافة إلى وجود بعض الفوارق لأسعار السلع في القائمة السعرية مغايرة تمامًا لأسعار الشراء، وكل ذلك سوف يعرض التجار وأنشطتهم لأضرار بالغة وخسارة مادية فادحة.
من جانبها، أكدت الغرفة التجارية حرصها على الدفاع عن حقوق وأنشطة أعضائها من القطاع الخاص، والتواصل مع الجهات المعنية لحل كافة الصعوبات والمعوقات التي تواجه أنشطة التجارة الداخلية والإمداد السلعي للسوق، مطالبةً وزارة الصناعة والتجارة بتشكيل لجنة فنية من الغرفة وتجار التجزئة والوزارة لتعديل القائمة السعرية، وفقًا لما يراعي مصلحة الجميع.
أعباء ثقيلة
مع استمرار الحرب، وفي ظل المعاناة التي يعيشها اليمنيون منذ بداية الحرب، تبقى قصص معاناة الباعة المتجولين وأصحاب البسطات الصغيرة مع السلطات المعنية، أمرًا يستعصي على الفهم والحل، خصوصًا في مثل الفترات والمناسبات الاحتفالية وانتشار أدوات الزينة الخضراء اللافتة، بهذه الصورة العبثية.
وزادت حملات التضييق مؤخرًا على الباعة المتجولين وأصحاب البسطات في صنعاء، وتعرضهم لملاحقات واسعة ومنعهم من العمل ومصادرة بضائع وبسطات كل من لا ينفذ القرارات بالسرعة اللازمة.
ويقول أكرم سعيد (اسم مستعار)، بائع متجول في صنعاء، إن هناك ممارسات وسياسة قمعية يتعرضون لها، تصل لحد الاعتداء عليهم بالضرب وجرهم إلى أقسام الشرطة، وفرض سياسات وشروط مجحفة بحقهم بحجة تنظيمهم في أماكن ومواقع منظمة، وفرض مبالغ مالية ملزمة شهريًّا على كل "بقعة" يعمل فيها بائع متجول أو صاحب بسطة، إضافة إلى دفع سلسلة طويلة من الإتاوات والجبايات والغرامات التي ترتفع عملية تحصيلها في مثل هذه المناسبات والاحتفالات.
من جانبهم، يؤكد باعة جائلون، في أكثر من مدينة في ذمار وإب ومناطق في تعز خاضعة لسيطرة أنصار الله (الحوثيين)، تعرضهم لتضييق شديد وحصار خانق في أرزاقهم وعيشهم في ظل هذه الأوضاع المعيشية المتردية التي يعاني منها اليمنيون بسبب الحرب الدائرة في البلاد.
ويشكو هؤلاء الباعة الذين يكدون طوال ساعات النهار والمساء لتوفير ما تيسر من الرزق لمواجهة أعباء أسرهم المعيشية، من سلسلة طويلة من الجبايات تحت مسميات مختلفة تدفع إلى الجهات المعنية؛ منها من يقوم صندوق النظافة والتحسين بتحصيلها، ومنها من يتولى تحصيله محصلون ومتنفذون يشرفون على الأسواق بتكليف وإشراف من قبل السلطات المحلية بالمحافظات.
ومن وسط هذا الغبن والتعب والقهر والكد والمعاناة، هناك سلطات لا تأبه بما يقاسيه اليمنيون الأبرياء، ضحايا حربهم المستعرة واحتفالاتهم المتواصلة التي تضيف المزيد من الأعباء التي لم يعد كثير من المواطنين قادرًا على تحملها.