بلقيس طفلة من مديرية بني صريم في محافظة عمران. منذ اللحظة الأولى التي رأت فيها نور الحياة كانت أمها تلقبها بالملكة، تأسيًا بالشخصية التاريخية المعروفة. تعانق بلقيس الآن ربيعها الخامس عشر، لكن الابتسامة التي ترتسم بثغرها تلاشت كثيرًا، وأضحى الأمل الذي ترسله مقلتاها يتضاءل شيئًا فشيئًا، كيف لا وهي كلما أشرقت شمس الصباح وتلألأ قمر المساء، نظرت إلى قدمها بحسرة وألم، وذرفت عينها دمعة وجع وآه.
رافقت بلقيس لحظة ولادتها عاهة بإحدى ساقيها التي كانت قصيرة وغير متساوية بالأخرى، وهكذا أصبحت لا تقوى على السير إطلاقًا، لكن كان بالإمكان عمل معالجات لهذه الإعاقة، لو لم تقابل الطفلة بإهمال من أسرتها، والتي اعتقدت أنّها سوف تتحسن مع مرور الوقت وتكون طبيعية كأطفال حيِّها.
لكن حالة بلقيس تفاقمت وساءت أكثر، وفؤاد الأم لم يهدأ وهي ترى فلذة كبدها تبلغ السنة الثانية، وهي على الحال نفسه، فسعت بكل الطرق لعلاجها وعرضها على طبيب أخصائي، طلب منهم سرعة تدارك الأمر وإجراء عملية جراحية عاجلة لها، لكن والد الطفلة رفض ذلك، ولذا عادت الأم بطفلتها منكسرة إلى المنزل.
انزوت الطفلة بحجرتها وباتت في صراع متواصل بين الأمل وفقدانه، واندثر حلم تعليمها الذي كانت متفوقة فيه منذ بداية دراستها الذي تحصد فيه المراكز المتقدمة، وأسلمت نفسها إلى ربها داعية أن ينزل الله السكينة والرأفة على قلب أبيها الرافض للعملية، المعنف لها القاسي عليها ضربًا وتوبيخًا وإساءة.
ظلت بلقيس على حالها وها هي الآن في ربيعها العاشر، وما زالت تعاني وكل حركاتها معتمدة على ذراعيها تحبو حبوًا على جنبها وكأنها في عامها الأول. تعاطف أهل الخير من الحي معها، وقررت أمها أن تنتقل بها إلى بيت خالها، ومن هناك تبدأ المرحلة العلاجية لابنتها، وبالفعل تم إجراء العملية، واستطاعت بلقيس أن تقوى وتقوم على رجلها، وعادت إلى الحياة متفائلة بأن ثمة متسعًا للحياة وأملًا واعدًا ينتظرها.
لكن لم تكن العملية الأولى التي تم إجراؤها لبلقيس كافية، بل جاء التقرير الطبي بضرورة إجراء تدخل آخر ضروري حتى تستقر حالتها وتغدو قادرة على المشي بأريحية تامّة، فالمرحلة التي أُهمِلت فيها حالة بلقيس، كانت تعتمد فيها على ذراعيها سحبًا على الأرض أثناء حركتها في البيت؛ ممّا جعل عظام صدرها تتداخل كثيرًا ونتج عنه تشوه في صدرها أدى إلى عدم مشيها بشكل طبيعي، بل خلّف تشوّهًا في جسمها وأعاق حركتها.
بلقيس تبلغ الآن الخامسة عشرة من عمرها، وما زالت بنفس وضعيتها بعد العملية الأولى. وفي كل صباح ترقب خيوط أشعة الشمس في بدايتها متفائلة بأن يتحرك ضمير أبيها الذي رفض إجراء العملية الثانية لها، رغم وضعه المادي الجيد في تحمل نفقات العملية وإعادة الروح لابنته.
انزوت الطفلة بحجرتها وباتت في صراع متواصل بين الأمل وفقدانه، واندثر حلم تعليمها الذي كانت متفوقة فيه منذ بداية دراستها الذي تحصد فيه المراكز المتقدمة، وأسلمت نفسها إلى ربها داعية أن ينزل الله السكينة والرأفة على قلب أبيها الرافض للعملية، المعنف لها القاسي عليها ضربًا وتوبيخًا وإساءة.
ذات مساء تسلل إلى أذن أمها وهي تهيّئ لها مرقدها للنوم، همسات ابنتها وهي تناجي ربها: "اللهم أحيِني إن كانت الحياة خيرًا لي، وأمِتني إن كان الموت راحة لي".