عند مدخل أحد المحلات، يهرع طفل لم يتجاوز السبع سنوات، أشعث الشعر، حول أجفانه هالةٌ سوداء، وتحتهما عينان واسعتان جدًّا. كأنه مندهش وتائه، يحدق في أوجه المارة، وهو يهذي بصوتٍ مبحوح: "لله يا محسنين، أريد كسرةَ خبزٍ وماء".
بملامحه الحادة، يحاول الطفل مازن، بكل ما أوتي من قوة، تسلق باب إحدى السيارات الفارهة المتوقفة بجانب أحد المحلات في منطقة "الشابات" بمديرية خور مكسر في مدينة عدن، التي تتخذها الحكومة المعترف بها دوليًّا "عاصمة مؤقتة" لها. يجاهد الطفل ليرفع جسده النحيل ذا السبعة أعوام نحو نافذة السيارة، ويمد يدًا للداخل ومتشبث بالأخرى كي لا يسقط. بجانبه تتزاحم مجموعة من النساء في مختلف الأعمار، وكلٌّ منهم يأمل بالخروج بأعلى مبلغ ممكن من ذلك السائق الذي يبدو أنه تأثر بمختلف العبارات التي تستجدي العواطف أن تهب لها بعضًا مما أعطاه الله؛ "أعطني أعطاك الله"، قالها الصغير بنبرة متقنة وحزينة متمرسة تؤكد أنها ليست المرة الأولى التي يقوم فيها بذلك.
في مشهد تراجيدي، يتدافع العشرات من كل مكان طمعًا في أخذ الصدقة، وبالكاد تمكن الرجل من تشغيل محرك سيارته للمغادرة، وخلفه كان يجري بعض من لم يلحق نصيبه من الصدقة، وما إن يفلت سائق كهذا حتى يصوب الجموع أنظارهم نحو سيارة أخرى، ويتكرر المشهد في صورة نمطية ورتيبة مثل مسرحية يتم إعادتها مع تغيير بعض الترتيبات في الخلفية، ويظل المشهد واحدًا؛ عبارات مكررة ومشاهد تخدش الإنسانية لأطفال يتم إقحامهم في عملية التسول. بعضهم لم يكمل الشهور بعد، تجرهم أمهاتهم في أحضانهن مُحكَمي العقدة في وسطهم كي يتمكنوا من استخدام كلتا يديهم بحرية في عملية التسول، والتي تبدأ من الصباح الباكر ولا تنتهي حتى آخر رمق من ليل مدينة عدن.
استغلال الأطفال في عملية التسول
كان لي نصيب من تلك الأدعية التي تستجدي من المارّة العطف من شتى المتسولين، وبدوري كنت أردد تلك العبارة المشهورة للردّ وأنا مبتسم: "الله يعطيك من فضله" وأمضي في طريقي، ولكن ما زال ذاك الطفل يسرق أنظاري، لكمية الحماسة والدأب التي يبديها بلا كلل أو ملل، مع إصراره على عدم ترك الناس تمر بصورة طبيعية وإلحاحه الشديد. تبادلت الحديث معه وفهمت أن هناك ما يخفيه في حديثه، وكانت كل ردوده تنم عن عدم تلقائية في الردّ، خاصة من طفل مثله، وكأنه قد حفظ مسبقًا عبارات مثل: "أنا يتيم وأصرف على إخوتي وأمي المريضة"، "أنا جائع ولم أتناول أي وجبة من الصباح، ولا يوجد في منزلنا الطعام"، ومع ذلك رفض الطفل دعوتي له شراء الطعام، وأصر على رغبته في أخذ المال فقط. وحين تأكد أنه لا جدوى مني، ترك الحديث معي وذهب نحو شخص آخر.
طرق جديدة ومبتكرة
ظاهرة التسول ليست وليدة اللحظة، ولكن اللافت في الأمر انتشارها في السنين الأخيرة بصورة كبيرة على مدى مديريات محافظة عدن وبشكل غير مسبوق. هيئات مختلفة للمتسولين لا تنم عن حاجة أصحابها، وبطرق عدة ومبتكرة. قد تجد من يستجديك بتهذيب، شارحًا وقوعه في أزمة، كأن يدعي إضاعته مبلغًا ماليًّا للعلاج أو قيمة المواصلات، وهؤلاء يغيّرون أماكنهم كل فترة، بحسب ما أكده عدد من المواطنين في حديثهم لـ"خيوط"، من وقوعهم مرات مختلفة ضحية للاستجداء الكاذب، ووصول الأمر ببعض المتسولين أن يمتلك ذاكرة السمكة ويعيد الكذب على الشخص ذاته دون أن يذكر أنه قد قام بالحيلة نفسها مسبقًا في مكان آخر.
يقول سالم سعيد، أحد المواطنين في مديرية خور مكسر: "انصدمت من ذلك الأمر في أكثر من مرة، يبدو أنه لكثرة الأشخاص الذين يستجدونهم لم يعد المتسولون بهذه الطريقة يميزون بين المحسنين إليهم"، ويضيف سالم: "أنا بدوري لا أشجّع على التسول، ولكن أن يطلب منك شخص بهيئة محترمة معروفًا وحلًّا لأزمته، فهذا يضعك في موقف إنساني حرج، ولا تستطيع الجزم بصدقه من كذبه".
ترى الباحثة الاجتماعية منى أحمد، أن التعاطف اللامحدود للمجتمع مع المتسولين يعد من أهم أسباب انتشار ظاهرة التسول، مخالفة بذلك اعتقادًا سائدًا بأن الفقر هو السبب، كون الفقر مشكلة عالمية، وهناك مئات الحلول لمواجهته بطرق أفضل من التسول
مهنة لكسب المال
يضيف مواطن آخر مسِنّ بنبرة تهكّم: "يبرر البعض أن تردي الأوضاع والحاجة هي من تدفع بالناس إلى التسول في الشوارع، ولكن الحقيقة أن الكثيرين يتخذون التسول كمهنة لغرض كسب المال الكثير بصورة سريعة".
يستجمع هذا المسنّ أنفاسه ويواصل الحديث، مؤكدًا أن ظاهرة التسول تعكس صورة غير حضارية للمجتمع العدني، والذي لم يعرف انتشار هذه الظاهرة سوى في العقد الأخير، خصوصًا بهذه الصورة المفجعة، والتي يرى أنها "تدل على خلل كبير في بنية المجتمع، اقتصاديًّا، وأخلاقيًّا".
وتزايدت ظاهرة التسول في معظم المدن الرئيسية والثانوية في اليمن خلال سنوات الحرب الدائرة منذ قرابة سبع سنوات، وتأتي فئة المهمشين ضمن أكثر فئات المجتمع اليمني التي تلجأ للتسول لتوفير الاحتياجات المعيشية، وبخاصة النساء. وإلى ذلك، دفعت الحرب فئات أخرى من المجتمع للتسول، بخاصة النساء والأطفال، وأعدادًا أقل من الرجال.
رأي القانون في الظاهرة
يعتبر القانونيون ظاهرة التسول أحد أسباب انتشار الجريمة وتراجع ثقافة العمل لدى أفراد المجتمع، وطريقًا يتنافى مع السلوك الحضاري، وما عُرِف به اليمنيون من سمات الكفاح من أجل لقمة العيش. وعلاوة على ذلك، فإن التسول مجرّم في القانون، وهناك عدة مواد في القانون اليمني تعاقب من يخالفها، ولكن الجهات الحكومية المعنية تقف صامتة أمام تفشي هذه الظاهرة بصورة باتت تسبب التوتر داخل المجتمع. وإلى ذلك، تتواجد جموع غفيرة من المتسولين بجانب مراكز الشرطة والمحاكم دون أن تحرك الشرطة ساكنًا حتى ضد من يستخدم الأطفال في ممارسة هذه الظاهرة.
نتيجة لتجاوب المجتمع
وتعتقد الباحثة الاجتماعية منى أحمد، أن تجاوب المجتمع مع المتسولين بعفوية، يأتي نتيجة لثقافة التكافل التي يتسم بها المجتمع اليمني، واستغلال المتسولين للعاطفة الدينية التي تحثّ على الإحسان للفقراء والمحتاجين، إضافة إلى خجل بعض المحسنين من أن يردّوا المتسول.
ولفتت منى لوجود عدة دراسات علمية أبرزت أن تعاطف المجتمع يعد من أهم أسباب انتشار ظاهرة التسول، مخالفة بذلك اعتقادًا سائدًا لدى كثيرين من كافة فئات المجتمع، بأن الفقر هو السبب. وتضيف أن الفقر مشكلة عالمية، وأن هناك مئات الحلول لمواجهته بطرق أفضل مما يحدث في ظاهرة سلبياتها أكبر من إيجابياتها، ناهيك عن وجود عصابات منظمة تستغل عدم وجود أي مكافحة حقيقية لهذه الظاهرة، والتي تؤكد أنه يذهب ضحيتها المئات من الأطفال.
وضع النقاط على الحروف
لا أحد يضمن النجاة من الفقر، والتسول يأتي في آخر الحلول المنطقية، غير أن التشجيع عليه أمر سلبي، بحسب مئات من الأدلة والبحوث ونتائج دراسات اجتماعية علمية، وأبعد من ذلك، يمكن لأي باحث أو باحثة أن يقرأ هذه الظاهرة على الواقع. وأخيرًا، يتوجب التنويه إلى أن غرض هذه المادة الصحفية ليس التحريض ضد الفقراء، بقدر ما تهدف إلى وضع النقاط على الحروف لظاهرة يتم فيها أبشع أنواع الاستغلال للنساء والطفولة، وتقف خلفها عصابات منظمة وقلوب لا ترحم، على أن الحديث عن الظاهرة بحاجة لتكريس جهود الباحثين الاجتماعيين والقانونيين. ذلك أن الحاجة ملحة لتسليط الضوء على ظاهرة لم تكن تعرفها مدينة عدن حتى في أشد الأوقات الاقتصادية الصعبة التي عاشتها في مختلف الأزمات التي مرت بها.