حالما تستحضر صورة المتدين العربي، تقفز إلى ذهنك تلك الصورة الذهنيَّة لرجل عابس الوجه، ينظر إليك شزرًا، يطُلق لحيته، غالبًا ما يلبس ثوبًا قصيرًا، ويعتمّ بعمامة سوداء، وهي الصورة النمطيَّة التي عملت الوسائط الإعلاميَّة على تعزيزها كلّما قدّمت برنامج أو أدارت حوارًا عن الإرهاب ليصبح الدين الإسلامي في أجندتها الإعلاميَّة؛ هو الترجمة الحرفيّة للإرهاب.
كما نجحت السينما الغربيّة والشرقية (هوليوود، بوليوود، ...)، في استزراع وعي المشاهد العربي والغربي على تنميط صورة ذهنيَّة محُددة الملامح والصفات عن الهوية الخارجية للمُسلم المتديّن.
قدّمت السينما العربيَّة أفلامًا أسهمت في تحييد القيم الأخلاقيَّة لكل ما يمكن أن يمثل شخصية المُسلم، وعمدت إلى ربط كل ما هو إرهابي بالمُسلم، فما دام مُتدينًا، هو إرهابي.
ومن أبرز الأفلام العربيَّة التي عملت على تأسيس هذه الصورة: "الإرهاب والكباب"، و"طيور الظلام"، و"الإرهابي"، وقدّمت هذه الأفلام صورة بصرية مقصودة عن هيئة المتدين، إذ لا بد أن يكون ذا لِحية، ويرتدي ثوبًا قصيرًا، ويحمل سلاحًا.
وقد ساعد في نشر هذه الصورة بدرجة أساسيَّة، ماكينة الضخ الإعلامي العربيَّة والغربيَّة الموجهتين صوب تكريس صورة ذهنيّة نمطية عن شخصية المتدين العربي فقط، فالمتدين اليهودي، والهندوسي، والبوذي، ليسوا إرهابيين، بل هم ضحية المُسلم، وهم النموذج المثالي للتعبير عن التسامح بين الأديان!
لم يمكن بحال من الأحوال تصور أن يأتي يومٌ تتغير فيه هذه الصورة النمطية التي جرى تكريسها إعلاميًّا منذ عقود، بل لم يكن متوقّعًا أن تنقلب هذه الصورة إلى النقيض تمامًا، ولا سيما عند الآخر الغربي.
قد تبدو جملة "خالد، لقد غيرت العالم"، أنها قيلت في سياق الكلام، ولكن عندما نضع هذه العبارة في مواجهة الخطاب الإعلامي المسوق للرواية الإسرائيليَّة، وأمام سقوط الهالة الإعلامية المُشَوِهة لصورة المتدين المُسلم التي ظلت مُسيطرة على المتلقي الغربي والعربي طوال العقود الماضية، ندرك الوعي الجديد الآخذ في التشكل
بدأ التغيير من غزة، وجاء نتيجةً حتمية لتبني المؤسسات والوكالات الإعلاميَّة الكبرى في دول الغرب روايةَ إسرائيل باعتبارها الحقيقة المُطلقة، وما عدا ذلك فهو إرهاب. راهنت هذه المؤسسات والوكالات الإعلاميَّة، في تقديمها للرواية الإسرائيليَّة، على انخفاض وعي الجمهور، وعدم معرفته بما يحدث خارج أسوار العقل المُغيب، وقدّمت نفسها مصدرًا وحيدًا للمعلومات.
ولم تضع هذه المؤسسات في حسابها مصادر المعلومات المفتوحة، ومدى تأثيرها على الشباب، فمن خلال وسائل التواصل الاجتماعي، ولا سيما منصتي (إكس) و(تيك توك)، عُرضت صور ومقاطع فيديو عن الإبادة الجماعية التي تتعرض لها غزة، كما حضرت صحافة المواطن إلى جانب القنوات التي غطت، وما زالت تنقل الصور والحقائق عما يحدث في غزة بمهنيَّة.
فلم تصمد الرواية الإسرائيليَّة التي جرى ضخها، أمام الصور والفيديوهات التي تُنقَل مُباشرة من غزة، ومِن ثَمّ لم تعد الرواية الإسرائيليَّة محل تصديق من المشاهد الغربي.
إذ أحدثت مقاطع الفيديو والصور والشهادات القادمة من داخل غزة، صدمةً ثقافيَّة هزّت من الصورة النمطيَّة للعربي المُسلم التي تُقدمها المنظومة المُتحكمة في الخطاب الإعلامي والثقافي في الخارج الغربي، وبرزت صورة جديدة، لا تتطابق مع تلك التي بنى عليها الأنا الغربي مُجمل علاقاته مع الآخر؛ المُسلم العربي المختلف معه ثقافيًّا، ولنقُل دينيًّا لضمان الحقيقية الكاملة.
فقد أُميط اللثام عما يختبئ خلف اللِّحية والقميص والعمامة، وتلاشت الصفات التي عُرف بها الآخر (المُسلم)، ولم يعُد تسويق الصورة النمطية عن (المسلم يُساوي إرهابًا)، مُجديًّا ومؤثرًا في الخطاب الإعلامي العربي والغربي.
كما لم يعد مُمكنًا إقناع الرأي العام الداخلي والخارجي، أنّ حرب إسرائيل مع غزة هي حرب تخوضها إسرائيل بالنيابة عن العالم مع الإرهاب.
روح الروح- خالد النبهان
رسمت المشاهد القادمة من غزة، التي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي، طريقًا مُغايرًا لمعرفة من هو المُسلم في الحقيقة. وهذه الرغبة في المعرفة، لم تستطع الوكالات الإعلاميّة الكبرى في الخارج الغربي وفي الداخل العربي مُحاصرتها، كما لم تتمكن من تلافي أثر وقع هذه الصور ومقاطع الفيديو، على مجتمعاتها التي كانت تنطلق من نظرتها للآخر المُسلم بصفته إرهابيًّا، قاتلًا، مُعاديًا للسامية، كارهًا للآخر بمختلف توجهاته.
لاقى الفيديو الذي ظهر فيه الجد خالد النبهان، وهو يودع حفيدته ريم (روح الروح)، انتشارًا واسعًا على وسائل التواصل الاجتماعي، وعلّق عليه ناشطون ومؤثرون من كل أنحاء العالم.
يصف الصحفي والناشط الأمريكي (شون كينغ)، أثر المقطع الذي انتشر عن خالد النبهان وهو يودع حفيدته التي قضت بقصف إسرائيلي، بقوله: "الملايين من البشر، الملايين أصبحوا مهووسون بالجَدّ الفلسطيني المُسمى (خالد)، وهو جد روح الروح (ريم).
والدتي كذلك، وهي سيدة بيضاء تبلغ من العمر سبعين عامًا، تسألني عن حال خالد. خالد يُمثل ردًّا على كل الأكاذيب التي قيلت عن الرجال الفلسطينيين. فالرجل هو تجسيد ليس فقط للسلام، بل لديه هالة أوقفت الناس في مساراتهم.
رأينا رجلًا ذا لحية كاملة وعمامة، وهي الصورة ذاتها الذي تم استخدامها لشيطنة المسلمين والعرب في كل فيلم أكشن تم إنتاجه على الإطلاق، حيث رأينا رجلًا يشبه العدو في كل أفلام الحركة السائدة خلال الثلاثين عامًا الماضية، ولكنه بدلًا من ذلك، احتوى سلامًا وسكينة، كان واضحًا بأنّ خالدًا وحدَه أقوى من آلة الدعاية الإسرائيلية".
في تهنئته بعيد ميلاده في 23 من ديسمبر، الذي يُصادف أيضًا عيد ميلاد حفيدته ريم، لاقت مواقع التواصل الاجتماعي تفاعلًا عالميًّا، حيث هنّأ الناس من كل أنحاء العالم، خالد النبهان بعيد ميلاده وعيد ميلاد حفيدته ريم، بعد أن قال النبهان، إنه لن يحتفل به بعد استشهاد ريم.
ومن أبرز التعليقات المُصورة التي وُجّهت لخالد: "عيد ميلاد سعيد، خالد، وريم. نحن نُحبك وندعمك. إن شاء الله ريم في الجنة، وهي فخورة وسعيدة بك. خالد، لقد غيرت العالم".
قد تبدو جملة "خالد، لقد غيرت العالم"، أنها قيلت في سياق الكلام، ولكن عندما نضع هذه العبارة في مواجهة الخطاب الإعلامي المسوِّق للرواية الإسرائيليَّة، وأمام سقوط الهالة الإعلامية المُشَوِّهة لصورة المتدين المُسلم التي ظلت مُسيطرة على المتلقي الغربي والعربي طوال العقود الماضية، لأدركنا الوعي الجديد الآخذ في التشكل، والذي يتخذ من وسائل التواصل الاجتماعي، وصحافة المواطن، والقرآن، مصادرَ أصليَّة لمعرفة الآخر المُسلم.
الخديعة التي صاحبت كل الصور النمطية التي عززت بها الدولُ الاستعمارية وجودَها في الدول العربيَّة، واستحقاقها الانتصار على حساب الأنا المسلم وفق أدبيات حقوق الإنسان، سقطت جميعها في حرب غزة.
أما في اليمن فما زالت صورة المتدين حاضرة، وهي صورة مُلتبسة؛ بسبب وقوعها ضحية الصراع والخطاب السياسي والإعلامي الدافع إلى شيطنة الدِّين وتسوقيه وفق مدلولات تابعة لأجندات خارجيَّة.
كل هذا انهار، وأصبح من المستحيل تحييد الوعي الداخلي للمواطنين الغربيين عن الانفتاح على ضحالة سياسة بلدانهم، وتعاملها الدكتاتوري معهم، وإجبارهم على تبني أجندات تُنافي القيم الإنسانيّة السويَّة التي يرفضون الانصياع لها، كان أبرزها في السنوات الأخيرة: "المثلية"، التي يجري تسوقيها من منطلق حق الآخر في الاختلاف، بالإضافة إلى الضغوطات التي يُعاني منها المواطن الغربي، نتيجة التأمين الصحي المشروط، وفرض الضرائب عليهم، في مقابل توفير مجانية التطبيب لإسرائيل ودعمها. كل هذا الاحتقان الداخلي، تفجّر بعد حرب الإبادة في غزة، عندما فشلت المؤسسات المعنية بالثقافة والعلوم وحقوق الإنسان، في الدفع بالرأي العام إلى تبني خطاباتها المنحازة للعدو الإسرائيلي.
هذا الوعي الجديد العصيّ عن التوجيه، أصبح أكثر قدرة على إدراك الادعاءات التي استخدمتها دولهم؛ لتبرير حربها على الشعوب العربية والإسلاميَّة تحت مُسمى مُحاربة الإرهاب، فأصبحت هذه الحكومات محل سخرية وتندُّر من مواطنيها.
في الداخل العربي، واكبت المؤسسات الإعلامية العربيَّة الشهيرة، الخطابَ الإسرائيلي ودعّمت روايته عن حرب غزة، ويمكن القول: إن خطابها الإعلامي أقرب إلى التطبيع الناعم، فباستثناء قناة الجزيرة، التي حظيت باهتمام المشاهد العربي والغربي؛ لمعرفة ما يدور في غزة، فإن الخطاب المُتصهين للقنوات العربيَّة لم يحظَ بتأثير، وهو يُستخدم كأداة لقياس الرأي، وللمقارنة السلبية مع قنوات تلتزم المصداقية في تغطيتها لحرب الإبادة في غزة.
ففي نفيهما للصورة المزيفة التي تداولها ناشطو وسائل التواصل الاجتماعي، حول حصول خالد النبهان على لقب شخصية العام في مجلة التايم لعام 2023، ألحقت قناة العربية والحدث صورة للجَد خالد النبهان متبوعة بنفي الخبر، وعلى الصورة رسُمت علامة "إكس"، وهذا لا يمكن تفسيره بمنطق نفي الخبر؛ نظرًا لأن الشخصية التي يجري نفي الخبر عنها لم تُصرّح بذلك، ومن ثَم كان يُمكن نفي الخبر مع صورة خالد النبهان دون الحاجة إلى وضع حرف "إكس" على صورته، فهذا الحرف أو الرمز يُقصد به دلالات مختلفة؛ كممنوع، أو زائف، ...إلخ.
أما في اليمن فما زالت صورة المتدين حاضرة، وهي صورة مُلتبسة؛ بسبب وقوعها ضحية الصراع والخطاب السياسي والإعلامي الدافع إلى شيطنة الدين وتسوقيه وفق مدلولات تابعة لأجندات خارجيَّة.
فعلى امتداد العقود الثلاثة الأخيرة من الحرب في اليمن، كانت صورة المتدين المُتمثلة باللِّحية والقميص، مؤثرة وحاضرة بقوة في الشارع اليمني، قبل أن يتحول هذا المظهر عند بعض الأطراف السياسيَّة إلى الصورة الوحيدة المعبرة عن الإرهاب، لا سيما مع تصاعد هجمات القاعدة في اليمن.
وبعد حرب 2015، اغتِيل عددٌ كبير من رجال الدين وأئمة المساجد في اليمن، الأمر الذي عُدّ تناقضًا بين أن يكون المُتدين إرهابيًّا، وبين أن يقع هو ضحية الإرهاب المُمنهج. وهذا الأمر أفضى إلى نقاشات متشنجة بين أطراف الصراع في اليمن حول هُويَّة القاتل، ومن هو الإرهابي. إنّه بلا شك لا يشبه الشيخ المُلتحي القادم من غزة، لكنه لعب دوره المرسوم له ببراعة.