لا يمكن تقدير أسطورة الشاعر المبدع والكاتب اليمني الكبير، عبدالله البَرَدُّوني، والمسافة التي قطعها من كنف الضياع والمعاناة إلى ما بلغ مِن شهرة ومكانة عالية ومجد، دون نقل المشهد الحزين التالي، شديد التأثير والوطأة على نفسه وعلى حياته كلها. وهو مشهد يرسم البداية المستحيلة التي انطلق منها ليبدأ سيرة المجد والنبوغ، ومواجهة حوادث الوجود القاسي المحيط به، واستخدام مواهبه وقدراته وإحساسه المرهف بما حوله في قراءة الواقع الذي يلامسه، حتى التفاصيل الدقيقة، للبحث عن منافذ، ولو بسيطة لشق طريقه الصعب، بصبر وهدوء، ولكن بذكاء حادّ، وجرأة واندفاع، ومثابرة عنيدة، حتى خرج بالتدريج من مأزق الوجود العابث في واقع لا يوفر وسائل النجاح للغالبية الساحقة من الناس المعذبين بالحياة في بلدٍ كان منكوبًا بفقره وحرمانه، منطويًا على نفسه وعلى مأساته، في ركن قصيّ من جنوب غرب شبه الجزيرة العربية، ومجتمع كان يتدبر أمره بكثير من المشقة والعناء، وسلطة لم تكن تتحمّل مسؤولية رعاية مواطنيها، وبخاصة الفقراء والمحتاجين الذين يشكِّلون غالبية السكان، ولا توفّر لهم الحماية من الأوبئة الفتّاكة التي تترك الكثير منهم ضحايا ومعوَّقين ومشرَّدين وباحثين عن عيش الكفاف، وبالذات من وجدوا أنفسهم خلف جدران العمى وانعدام المساعد والمعين.
يُلخِّص هذا المشهد وضع البردّوني غداة المجيء به في مطلع شبابه من مدينة ذمار الصغيرة آنذاك، التي كان قد بدأ يألفها وباشَر في أحد جوامعها تعليمَه وتمرُّسَه بالشعر، إلى صنعاء التي لا يعرفها، إلى مدينة يضيع فيها القادم المبصِر دون مصدر للرزق، ودون مَن يُعرِّفه بطرقاتها وأزقتها، فكيف بكفيف لا يستطيع تبيُّن موضع قدميه، ولا إلى أين يتجه وإلى مَن يلتجئ. ردَّهُ سجن القلعة رافضًا الإبقاء عليه داخل أسواره باعتباره سجينًا كفيفًا يفرِض على السجانين عبئًا إضافيًّا لمساعدته على الحركة وتدبير أموره من مأكل ومشرب، فأُلقَى به نحو سجن "الرَّادِع" الذي لفظَه بعد فترة قصيرة وأخرجَه إلى عراء الشارع دون أن تُفرِج السلطات عنه. حتى السجن يرفضه، فلا أطلق سراحه صراحة ولا أبقاه سجينًا. ترَكَه في وضع غريب، بين السجين ومطلق السراح، لأنّه لا يستطيع الفرار حتى لو أراد. ألقوا به إلى الضياع خارج جدران السجن، لأنّه لا يشكِّل أيّ خطورة أمنية أو سياسية، ولا يملك سوى فمٍ يتحدث ويطالب بما يساعده على البقاء حيًّا حتى في السجن.
كانت السجون تريد عقابَه باعتباره متهمًا بمعارضة الطاغية، لكنها ترفضُه وتنبذُه لأنّه كفيفٌ وعبءٌ لا تستطيع تحمُّله. رَفَضَه سجن القلعة، وألقَى به سجن الرادع إلى عراء باب الجامع الكبير في صنعاء، ليتخلّصا من عبء رجل كفيف يحتاج إلى من يقود خطاه وإلى من يساعده. ولم يرحم ضعفه سادن الجامع الكبير الذي منعه من النوم في الجامع وأعاده إلى عراء الباب الخارجي.
يصوّر البردّوني بأسلوبه الفنّي الذي يعتمد الحوار الدِّرامي هذا المشهد الحزين لدرجة البكاء، ويرسم بلغة أقرب إلى لغة الجاحظ تفاصيلَ ورطة شابٍّ ألقت به قسوة الدنيا كفيفًا إلى عراء الحياة مجرّدًا من كلِّ مساعدة، وتركَتْهُ دون رحمة يتدبَّر أموره بصعوبة بالغة مستخدمًا كلّ ما لديه من قدرات ومواهب في قراءة تفاصيل الواقع المحيط به، بأذنيه وأصابعه وقدميه، وتفسير مكونات هذا الواقع، والبحث عن منافذ لانتزاع قدْرٍ ولو ضئيل من ضرورات الحياة البسيطة، كفيفًا ضائعًا مهملًا بلا زاد ولا دليل ولا مُعين. إنّه تصوير يستدعي ترك صاحبه يرسم تفاصيله بريشته المبدِعة وبأسلوبه المُمَيَّز:
فبعد أن كان السجن يوفّر له على الأقل مكانًا يُلقي على ترابه القذِر بجسده المثقل بالآلام والحرمان، وصِلةً محدودة بمن حوله من المساجين لعرض قدراته على مَن قد يحتاجون لدراسة القرآن على يديه أو المساعدة بإملاء صوغ شكاواهم، والتعبير عن مظالمهم، خيرًا منهم، ما دام لا يلقَى من يستمع لمظلمته، سأله مسؤول سجن "الرَّادِع" وهو يلقيه إلى الضياع، كفيفًا بلا دليل:
- أين بيتك؟
قلتُ:
- في (قرية) البَرَدُّون مِن (قبيلة) الحَدا، وكنتُ مهاجِرًا إلى مدينة ذمار. ومن أحد عشر شهرًا كنتُ نزيل (سجن) قشلة ذمار مقيدًا، ومنها إلى هنا.
قال:
- أين تُحِب أن تبقى في صنعاء؟
قلتُ:
- ليس لي إلّا الجامع الكبير.
وصادف وجود شخصٍ ذاهبٍ إلى جوار الجامع الكبير، تَطوَّعَ لأخذ البردّوني معه إلى هناك.
"(وعند الوصول) سألني (المُرافق):
- هل تسكن مَنزِلة (كوخًا ملحقًا بالجامع)؟
قلتُ:
- إلى الآن أسكن الجامع... دَعْني جوار هذا الباب أنظرُ بسمعي الداخل والخارج.
وفعلًا، عَلِمتُ وُجهَة الداخل والخارج، لأنّي كنتُ أسمعُ الذي يدخل حين يخلع نعليه، كما أسمع غسل الرِّجلين في الحوض (المصفى) إذا كان الداخل غير منتعِل، ... فعرفتُ من حركة الماء ومن أصوات الداخلين مكان البنية (داخل الجامع) والطريق المؤدّي إليها من السوق أو من المطاهير. وبعد قليل، رَفَعَت المئذنتان إعلان دخول وقت صلاة الظهر، فأدهشني ذلك الأذان المنغَّم بين مئذنتين، وكان الصوتان متشابهَين، وكان المؤذّن الأول يبدأ برفع الأذان أعلى عند (حي على الصلاة)، فيتبعه المؤذن الثاني بطاقة صوته. وكانت عبارة (حيَّ على الصلاة) علامة نداء المؤمنين، فابتهجتُ لأنّ ذلك المكان أصبح بيتي".
"بعد الأذان، اهتديتُ إلى المطاهير على ضوضاء المتوَضِّين، ولكني ذكرتُ المَرافِق التي يحتاج إليها الحاقِن قبل الوضوء (أردتُ قضاء الحاجة)، واستحيتُ أن أسأل، فمشيتُ أمامي بحثًا عن المغسل الخارجي، وسوف يدلُّني جدارُه إلى الممرّ المؤدّي إلى المَرافق، ولما استطلعتُ سيري شعرتُ أنّي قد تجاوزتُ، فسألتُ أول مارٍّ، فأخذ بيدي وأعادني خطوات، وبحث لي عن مرحاض خالٍ وأدخلنيه، مرشدًا إلى الأماكن التي في الزوايا، وبالأخص التي تحوي أحجار الاستجمار...، وبعد قليلٍ خرجتُ فوجدتُه واقفًا لي، ثم دلَّني على مطهار ودخَل جواره، حتى فرغتُ من الوضوء سمعتُ حركته في الماء، فقال: "انتظرني يا بَصِير"، فانتظرتُ قليلًا، ... وبعد الصلاة سألني أين أريد أن أذهب أو أجلس؟
قلت:
- المقصورة الخالية.
فقال:
- ما هناك خالية قد يدخل إليها تالٍ أو مذاكِر دروس.
قلتُ:
- نعم.
أريد حيث يذاكرون الدروس، عسى ألفت طالبًا إليَّ، أو أستبين من فحوى المذاكرة نوع الدروس، وقد أصِل إلى معرفة المدرِّسين. وجاء من المذاكِرين أفرادٌ ذاكروا صامتين ولم يتساءلوا فيما بينهم عن الوجه الآخر (لكي أرفع صوتي وأتدخل وأشارك) ولم يلتفت إليَّ أحد، لأنّي استلذيتُ الظل والفراش ورقدتُ، وأخذني النوم إلى أن وجدني سادن الجامع نائمًا فأيقظني لأنّه يريد إغلاق الأبواب، فعرفتُ أنّي أمضيتُ عشر ساعات خارج الزمان والمكان، وأبَيتُ أن أنهض، واضطرّ السادن أن يرفع صوته مهددًا:
- هذا بيت الله، مش (ليس) بيت أحد. نريد أن نغلق.
فقلت:
- أغلق إلى أن تفتح الصباح. بيت الله سكن من لا سكن له.
فرد عليَّ:
- من قال هذا؟ بيت الله للعبادة.
ولم يلحَظ هل ينبِّه أعمى أم مبصرًا؛ لأنّه لا يجوز النوم في الجامع. وتحسّستُ نفسي فوجدتني مرهقًا ووجدتُ الجرح الذي بدأ التورم في أسفل ساقي وقد انتفخ أكثر، مع أنّي غسلته في الظهر، ولم يكن على هذا الحال من الوَرَم، فنهضتُ مضطرًا، قائلًا:
- يا سادن.
وردَّدتُ المسألة النحوية: "يا رجلًا خذ بيدي"، لكي أوحي له بحقيقة الحال، فلم يفهم... فقلتُ أخرِجني إلى صرح قريب من الباب. فقال: امشِ، فقلت إلى أيّ جهة؟
وكان الجامع خاليًّا إلّا مني ومنه. وقد أطفأ أكثر الأسرِجة، فقلتُ له مكاشفًا:
- هذا أول أيامي بالجامع، فلا أعرف مدخلًا أو مخرجًا، وأنا أعمى بلا دليل.
وأخرجَني إلى قرب صرح، وهناك أنهيتُ نومي (في العراء، على قارعة التَسَوُّل)، فلم أسمع فتح (باب) الجامع صباحًا، وما أيقظني إلا لمسات شعاع الشمس".
كانت السجون تريد عقابَه باعتباره متهمًا بمعارضة الطاغية، لكنّها ترفضُه وتنبذُه لأنّه كفيفٌ وعبءٌ لا تستطيع تحمُّله. رَفَضَه سجن القلعة، وألقَى به سجن الرادع إلى عراء باب الجامع الكبير في صنعاء، ليتخلّصا من عبء رجل كفيف يحتاج إلى من يقود خطاه وإلى من يساعده. ولم يرحم ضعفه سادن الجامع الكبير الذي منعه من النوم في الجامع وأعاده إلى عراء الباب الخارجي. وتجنَّبَه الطلبة والمدرسون في الجامع. هكذا ظلّ محرومًا من الزاد وبلا مأوى ولا دليل. تجاهلَه الجميع بقسوة ولا مبالاة بمأساته. كان شعوره قويًّا بالمرارة. فمع أنّه كان قد عاش التخلي عنه ونبذه بعيدًا عن حنان الأم وراحة البيت في طفولته، أصبح الآن شابًّا يعي ظرفَه الإنساني، ويُلِمُّ بما حوله في بداية العقد الثالث من عمره، وهو عمر الطموح والأحلام وتَصوُّر مشاريع الحياة المستقبلية، يرِنُّ في مخيلته بيت الشعر التَّعليمِيّ، القائل:
إذا بَلغَ الفتى عشرينَ عامًا ولم يَحِز الفَخَارَ، فلا فخارُ
وهو يبلغ العشرين من عمره ملقى في الضياع بلا زادٍ ولا مأوى ولا أمل. وهذا ما يضاعف خيبتَه ومرارتَه. وكان رغم ضعفه وقلة حيلته وشعوره بالجوع والضياع عزيزَ نفس، لا يصرُخُ ولا يلحِّ في طلب الغوث، معتدًّا بنفسه، لا يشكو ولا يرفع صوتَه للاستغاثة وطلب الرحمة والمساعدة.
ولاحَ له بعد بضعة أيام من هذا الجوع والضياع أملٌ كاذب حين التقى بطالب يعرفه مِن أبناء وجهاء ذمار يدرُس في مدرسة "دار العلوم"، عوَّل عليه وتوقَّع أن يمدّ له يد المساعدة وحبل النجاة، فإذا به يتعلل بمنع إيواء الغرباء في مدرسته الداخلية واكتفى بالوساطة عند (مُراجِع) من ذمار، متابع لموضوع حُكم ينتظر بتّ الاستئناف فيه، علَّه يؤويه مؤقتًا في كوخ ينزل فيه. وعرض البردّوني على هذا (المراجِع) خدمات خبرته في الفقه وصوغ عرائض طلب نقض الأحكام، لكن الرجل حين عرف أنّه خارجٌ من السجن السياسي امتنع عن استضافته. ولم يجدوا للتهرّب من مساعدته سوى نُصحه بالذهاب إلى المستشفى الوحيد المتواضع المنزوي في طرف المدينة، للعلاج من جراح تركه القيد الحديديّ في أسفل ساقه. تجنَّبوه في جفاء بهذه الحيلة دون أن يتطوّع أيٌّ منهم بأن يقود خطاه ويدله، وهو الكفيف، على المستشفى، بل تركوه يهيم في الشوارع والأزقة المتربة التي لم يعرفها من قبل، ولم يتعوَّد بعدُ على مسالكها. ينصِتُ لأيّ صوت يصادفه ويسأله عن المستشفى.
"يا رجلًا خُذ بيدي!"، لم يتعلموا النحو ليفهموا مغزى هذه الاستغاثة، وهذا الطلب المؤدّب للرحمة والمساعدة. لا رَجُلَ في مدينة مصدومة بنهبِها واستباحتها عند سقوط الحركة الدستورية، قبل سنة وبضع شهور من وصوله إليها، ينقذُه من ضياعه ويدُلُّه على الطريق. يناديها مستغيثًا بها وبالشِّعر:
صَنعَا الضريرةُ مثلي، أهي تسمعني؟ إنّي ضريرٌ خذي يا هذه، بيدي
بعض من يسألهم لا يتوقف ولا يجيب. البعض لا يعرف مكان المستشفى، والبعض لم يسمع في حياته عن وجود شيء اسمه مستشفى. يتعلّق البردّوني التائه بالأصوات. يثابر في سيره المتعثر الحائر، بصبرٍ ولكن بعناد مَن لن يخسر شيئًا يستحق الندم. يهرُبُ من ضياعِه ومن هوانِه على الناس كلّهم، نحو بصيص من أملٍ غامض بعيد. يسأل كلَّ صوت عن هذا المستشفى البعيد الذي لا يعرف مكانَه ولا إلى مَن يتجه حين يصل إليه.
(*) تمهيد كتاب (عزّاف الأسى).