تسربت في آخر أيام المناضل الوطني الجسور الراحل عمر الجاوي همسات من جلساء له وأقوال شفاهية، نستلهم من فحواها الكثير من المعاني والقيم والمراجعات.
ومن هذه الأقوال:
- ليست هذه الوحدة التي كنا نريدها أو حلمنا بها.
- هل أخطأنا حين جمعنا سياسيِّي الشمال مع سياسيِّي الجنوب في الوحدة؟ فسياسيو الشمال لديهم تراث في الحكم يبلغ ألف عام ويزيد. أما سياسيو الجنوب الذين وقّعوا على الوحدة معهم، فإن فترة حكمهم لا تتعدى 23 عامًا منذ استقلال الجنوب في 30 نوفمبر 1967؟
هذه مراجعات ربما قام بها الجاوي بعد أن شاهد خيبات تطل برأسها على مسار الوحدة الوليدة، وقد تبدت أنياب الاحتواء ومخالب الافتراس ودهاء ومكر أكثر من ألف عام، لتسحق الأحلام الرومانسية والطوباوية التي تبناها الجاوي بأن عهد الوحدة هو العهد الموعود بالدخول في رغد التاريخ.
كان الجاوي من أولئك الجيل الطوباوي وأكثرهم حماسة ممن يتبنون نظرية: المهم ندخل الوحدة، وبعدها نحل كل المشاكل والتحديات التي واجهت الشمال والجنوب في مرحلة الحكم الشمولي لسلطة الشطرين.
وغفل هو وذلك الجيل أو النخبة منه، عن أن أي تحدٍّ تاريخي ومفصلي يتطلب توافر شرطين أساسيين:
· مشروع سياسي وحضاري وتاريخي، يضمن النجاح لأي مغامرة تاريخية كبرى كمشروع الوحدة، يستوعب كل مآلاتها واحتياجاتها وتحدياتها.
· أدوات سياسية ونخبوية مخلصة للهدف السامي والكبير، تعمل عليه ولا تلعب به.
لم يكن الدخول إلى مشروع الوحدة قد حددته ظروف تاريخية سانحة، بل كان اغتنامًا للحظة ساقتها الأقدار والسياسات الدولية بانتهاء عهد الحرب الباردة وسقوط المعسكر الاشتراكي. وكان من الطبيعي أن يذوب جليدها في هذه الرقعة من العالم.
زد على ذلك أن طيش السياسيين الجنوبيين، وخاصة بعد أحداث 13 يناير 1986، ومكر ودهاء سلطة الشمال قادت الوحدة كمشروع نبيل إلى فخ مصلحي سياسي ثأري، وانتهاز تحقيقه أودى إلى قلع البذور النقية والأحلام الوردية له.
لم تكف حماسة الجاوي الجنونية في تحقيق وحدة بأي كيفية، وعلى عجل وفي غفلة من التاريخ وخارج شروط التحقيق الحضارية من حمايتها من الغدر وجلب المصائب على الشمال قبل الجنوب.
ذابت الحماسات الطفولية والهيجانات الجنونية التي حملها الجاوي، بل كادت أن تصيبه في مقتل في حادثة مقتل الشهيد الحريبي، ولكنها أصابته في آخر عمره بقتل رحيم، بسرطان الدماغ.
بين الشيخ والرئيس
هناك كلام شفاهي متداول جرى بين علي عبدالله صالح والشيخ عبدالله حسين الأحمر قبل ساعات من ذهابه إلى عدن لتوقيع اتفاق الوحدة. حينها طرح الرئيس صالح على الشيخ الأحمر نيته الذهاب إلى عدن للتوقيع على اتفاقية الوحدة، لكن الأخير، بقراءة الحكمة القبلية المتوارثة لديه، كان مترددًا، ونصحه بالقول:
- "أنت ذاهب للتوقيع على الوحدة مع ناس أخرجوا بريطانيا ظهر أحمر. هؤلاء سيضيعون حكمهم بهذه الوحدة وسيضيعون حكمك معهم".
هل صَحَّ هذا التنبؤ الماكر؟
الحقائق على الأرض أثبتت وقوع ما تنبأ به الشيخ؛ ضاع حكم الاشتراكيين في عدن، ولكنه جرجر معه ضياع حكم صالح.
وهانحن اليوم بعد أكثر من 31 عامًا، الشمال والجنوب دمرا دولتيهما الوطنية اللتين تحققتا في 26 سبتمبر 1962 في الشمال ودولة الجنوب التي تحققت في 30 نوفمبر 1967.
لقد صار الماّل شمالًا وجنوبًا البحث عن مشاريع ما قبل الدولة الوطنية؛ مشروع الدولة الأمامية بلبوس جمهورية إسلامية في صنعاء، ودولة جنوب عربي بلبوس جمهورية فيدرالية.
هذه الارتكاسة التاريخية التي تنشأ الآن على الأرض وبدماء وآلام شعب يعاني حربًا عبثية، ومن خلال تجييش طائفي أو جهوي هنا وهناك. هل هي من مآلات الوحدة المتسرعة واللهث العجول لتحقيقها بأي ثمن، والقفز على حقائق التاريخ لتحقيق مآرب ثأرية؟
التاريخ والفعل الحضاري لا يصنعه الثأر والانتقام لكرامة أو هيبة تؤدي إلى سحق هويات الآخرين الوجودية والثقافية والحضارية، وإنما بتحمل مسؤولية تاريخية للزعامة وقيادة النصر بمشروع حضاري يتجاوز عقلية الغالب والمغلوب كما فعل رسولنا الكريم (ص) في فتح مكة.
المواطن الجنوبي اليوم يرى في الطامعين بإبقاء الوحدة بالحديد والنار، إنهم لا يبحثون عن نبل القضية بل ثروات الجنوب. والشمالي لا يرى في تخلي الجنوبي لوحدة معمدة بالدم إلا خيانة وطنية ملفوفة بمطامع ماكرة. في هذا الخصم المتصارع ضاعت طوباوية الجاوي ويوتوبياه بدولة المواطنة، وسيادة القانون، ووحدة القلوب.
صدمات المبصر
لقد كان الشاعر المبصر عبدالله البردّونيّ أقل تفاؤلًا بهذه الوحدة، وحين سألته شخصيًّا في عدن بعد محاضرة له في مقر اتحاد الصحفيين في التواهي بعدن، ظهر فيها مهاجمًا قيام الوحدة بكل وضوح ودون مواربة، سألته بحماسة الشاب المستغرب من هذا الخروج عن السرب، وهو جالس في طاولة بمطعم "الشينج سين" بالمعلا، قلت له:
- أستاذ عبدالله، لماذا ترفض هذه الوحدة بهذه الحدة، والكل مجمع عليها؟
أجابني ضاحكًا:
- سأقول لك، إذا قرر معارض في الجنوب أن يهرب من سلطته الغاشمة، أين يذهب؟ - قلت: صنعاء.
- قال: والعكس؟ - قلت: عدن.
- قال لي مع قهقهقة ساخر: والآن وقد توحدت سلطتا الجنوب والشمال، أين يذهب المعارضون، يذهبون إلى جيبوتي أو الصومال؟!
وانتفش بضحكة مجلجلة ملأت وجهه المجدور: ههههههه .
ثم رأيته يصمت صمت الحكماء، وعلى وجهه صرامة، قال لي:
- يا نجيب، شوف؛ تاريخيًّا اليمن لم تزدهر أو تتطور إلا في وجود تعدد الدويلات وتعدد المنابر.
وهنا شعرت باستبصار الشاعر المبصر والقارئ الفاحص للتاريخ!
أقفل حديثه معي، وراح يلقي نكاته على من حوله.
بين مراجعات الجاوي الأخيرة من حياته، وبين استبصارات البردّونيّ السابقة للزمن والتاريخ، يطل السؤال:
- هل الأجدى الإبقاء على توحد القلوب ولو في أكثر من نظام سياسي ودويلات متعددة، أم الإصرار على وحدة النظام السياسي والدولة الواحدة أهم من وحدة القلوب؟
وأخيرًا، هل من طريق ثالث يتجاوز كهذه الآلام والكوارث والحرب المدمرة، وانهيار كل شيء جميل، بما فيها أحلام الجاوي الطوباوي وعقلانية البردّونيّ الصارخة والمزعجة.
- هل من عقل رشيد يرشدنا إلى الخلاص؟
بهذا الانفتاح المطمئن، أعتقد أن البردّونيّ لن يهلع أو يصاب بهوس الخيبة إذا ما قامت دولتان في جنوب جزيرة العرب.
لأن منطق التاريخ يجاور مقارباته، وهو بالتأكيد متحلل من عقدة الأصل والفرع المصطنعة في صياغة جغرافيا وتاريخ مكذوبَين إلا في رؤوس متكبرة تلوي أحداث التاريخ.
بينما أتصور أن الجاوي لا يتمتع بهذه الأريحية والطمأنينة النفسية، بسبب التكوين الفكري والسياسي من خلال تشربه أفكار القومية العربية والفكر الماركسي الذي يغلب فكرة الوحدة الاندماجية خيارًا أوليًّا على كل ماعداه من أجل تحقيق طوباوية التقدم والمدنية والمواطنة.
بوادر الفشل
منذ اليوم الأول للوحدة، وخفافيش الظلام في سلطة صنعاء أرادت أن تمتص دم الوحدة من أول عرق سائح.
وابتدات بسلسلة الاغتيالات لرجال الحزب الاشتراكي، شريك صناعة الوحدة، وصولًا إلى حرب صيف 1994 الغاشمة التي أصابت الوحدة في مقتل.
والسبب أن النصر العسكري لم ولن يكون نصرًا سياسيًّا وحضاريًّا إلا بقدر ما يحمل من مشروع حضاري تحمله زعامة تاريخية تتحلى ببعد إنساني وحضاري، أمثال بسمارك- ألمانيا، أو جورج واشنطن- أمريكا.
وهذا لم تكن من موجبات حرب صيف 1994، الثأرية ردًّا على حرب الجنوبيين عام 1979، وهزيمتهم لجيش الشمال.
لأن التاريخ والفعل الحضاري لا يصنعة الثأر والانتقام لكرامة أو هيبة تؤدي إلى سحق هُويات الآخرين الوجودية والثقافية والحضارية، وإنما بتحمل مسؤولية تاريخية للزعامة وقيادة النصر بمشروع حضاري يتجاوز عقلية الغالب والمغلوب، كما فعل رسولنا الكريم (ص) في فتح مكة.
أما صناعة الفخر والاعتزاز على أنقاض نصر عسكري يرافقه مشروع إقصاء وتجريف هُوية وثقافة شعب هو في الأصل منك وأنت تعتبره بقايا هنود وصومال وما شابه، وتغزو الأرض المفتوحة بعقلية الفيد، وعلى منطق يقارب منطق أرض بلا شعب.
كل هذه الكوارث الأخلاقية التي جلبتها وحدة 7/7 كانت وبالًا على الجميع وطعن الوحدة طعنة نجلاء من الخلف، حتى ذهب الضحايا الجنوبيون يبحثون عن أرومات أخرى مغايرة ويبنون حلمهم القادم في معاداة صارخة لليمننة.
وليس هناك من مجال لترميم الهوية والانتماء لدى الجنوبيين بعد هذا العبث الأخلاقي من قوى وتحالف سلطة 7/7 على المدى المنظور.
وكل الخيارات متاحة ومفتوحة على كل الاحتمالات.
حتى إن دولة موحدة بنظام فيدرالي من أقاليم، ستكون محط تجاذب بين قوى متناحرة، لا ترى إلا في المركزية وفي المركز المقدس حقًّا تاريخيًّا يتجاوز أي محاولة لتفكيك البنية الصلدة لعقلية سياسية ومذهبية هو الأداء الناظم للحكم والاستيلاء على الثروة بعقلية متوارثة قبليًّا وعرفيًّا.
بين مراجعات الجاوي واستبصارات البردّونيّ مسافة تأمل تاريخية للخروج من المأزق!