طيلة 45 سنة من حياته العملية معلمًا للصفوف الدنيا من التعليم الأساسي، في مدرسة بجاش الرزاحي، شمال غرب محافظة لحج، لم يمل الأستاذ ومعلم الأجيال -كما يصفه الناس هنا- محمد علي المنصوب (82 سنة)، من التدريس وعشقه لهذه المهنة، بالرغم من تجاوزه سنة الخدمة التي تنص على تحديد سن التقاعد عند بلوغ أحد الأجلين، ولم يبارح فصله إلا مكرهًا بعد 45 عامًا، إثر عجزٍ أصابه بعد مرض أقعده عن الحركة نحو مدرسته، التي تبعد كيلومترين تقريبًا عن مسكنه.
عطاء مستمر
يعد محمد علي المنصوب وحيد أبيه، الذي توفّي عنه صغيرًا، لتكافح والدته في سبيل تعليمه ونسيان المعاناة التي تجرعتها الأسرة بسبب غياب التعليم في المنطقة، حيث أدخلته في "المعلامة" باكرًا، ليتعلم القرآن واللغة والحساب، في رباط بجامع السروري في لحج، الذي كان يقوم فيه أساتذة بتعليم الأطفال، بسبب انعدام مؤسسات التعليم النظامي مطلع الأربعينيات من القرن العشرين الماضي، ثم ألحقته بالمدرسة بعد افتتاحها في العام 1954، ليكمل الإعدادية ويلتحق بعدها في العام 1957، بالمدرسة المحسنية في لحج، التي تخرج منها بعد ثلاث سنوات، ليتم مباشرة بعدها تعيينه معلمًا في العام 1960. ومنذ ذلك التاريخ ظل المنصوب يقوم بمهنة التعليم لطلبة الصفوف الأولى، التي تعد من أصعب الفصول التعليمية، بكل إخلاص وحب للمهنة، من خلال طرقه المعهودة التي أسهمت في تعليم وتأهيل الآلاف من الطلاب على مدى أربعة عقود ونصف. بعض ممن درس على يديه ترقى في مناصب عليا في الدولة، منهم اللواء محمود الصبيحي، والبرلماني زيد طه، وآخرون. فيما ظل هو متشبثًا بفصل يتكون من القش في مدرسته الريفية، متحملًا مصاعب التربية والتعليم لأطفال تتراوح أعمارهم بين الخامسة والثامنة من العمر، وكان بمثابة الروح التي تبث في نفوس الأجيال العلم وإرادة الحياة، ليترسخ اسمه في الأذهان بصفته معلم الأجيال.
فارق المناهج والمتابعة
بين عقود عدة، مرّ المنصوب بمناهج مختلفة، لكنه يعتبر المنهج القديم المصري، هو الأفضل؛ لأنه كان بسيطًا مرنًا جدًّا، ويسهل على الطالب فهمه جيدًا، بخلاف مناهج اليوم التي يقول إنها تضاعفت فيها ورق الكتب المقررة للتدريس وزادت من تعقيد فهم الطلاب لها، ما أثر نفسيًّا على مستوى الطلاب.
ويرى المنصوب أن مثل هذا التكثيف المعقد في المناهج أدى لتعقيد عملية تطوير العملية التعليمية، وفاقم المشاكل فيها- حسب تعبيره. ويتذكر في شريط ذاكرته الحافل، رحلته التعليمية ومدى تعاون وتكاتف الأسرة في السابق مع المدرسة ومتابعتها لأولادها، بخلاف تعامل الأسر اليوم، الذي ألقت فيه الحبل على الغارب، ولا تكلف نفسها السؤال عن مستوى أولادها؛ فنتج عن ذلك جيل ليس بمستوى الطموح أو المسؤولية، وهو عكس ما كان يمتاز به الطالب سابقًا بفعل الجهد المتكامل بين المدرسة والأسرة والطالب.
ودع المنصوب الخدمة براتب لا يتعدى السبعين دولارًا، في ظل غلاء منهك واحتياجات لا تعد، ليخرج من رهن المدرسة إلى رهن مصاعب الحياة التي يجابهها بمفرده وبمرتب ضئيل، لا يحفظ كرامته ولا يصون إنسانيته
إهمال وخذلان
في سنة 2005؛ ومع تقدم العمر بالمعلم محمد علي المنصوب، صار يعاني من صعوبة في الحركة وآلام في قدميه؛ ما أفقده القدرة على المشي والحركة سوى لمسافة قصيرة لا تتجاوز جوار منزله، ليعلن بعدها جسده المثخن بعقود من العمل والإخلاص في بلاط التعليم، رغبته في التوقف. توقف المنصوب عن الخدمة بسبب خذلان جسده لرغبته المتقدة في تعليم الأطفال والخدمة المجتمعية، التي لم يوقفها السن التقاعدي بل ترهُّل العمر، تاركًا في المدرسة أطلال المعلم، حبيب الأطفال الذين ارتبط باكرًا بكل جيل منهم، وهو يلقنهم أبجديات القراءة والكتابة، مستخدمًا أسلوبه المرن والجذاب الذي اتسم به على الدوام. وبالرغم من السنوات الطويلة التي قضاها المنصوب في خدمة التعليم، لم يلقَ تكريمًا يليق بعطائه. ودع المنصوب الخدمة براتب لا يتعدى السبعين دولارًا، في ظل غلاء منهك واحتياجات لا تعد، ليخرج من رهن المدرسة إلى رهن مصاعب الحياة التي يجابهها بمفرده وبمرتب ضئيل، لا يحفظ كرامته ولا يصون إنسانيته.
يتذكر المنصوب أنه بدأ خدمته بمرتب يقدر بـ170 شلن، وكان مكتفيًا وقنوعًا به، لكنه ختم عمره بأجر لا يتناسب مع ما قدّمه طيلة سنوات تقارب نصف عمره في قطاع التعليم، مشيرًا إلى أن الأجر الذي يتقاضاه يتسلمه طلاب له، في وقت يتقاضى معلمون درسوا على يده خلال خدمته، مرتبات أكثر منه. وإلى ذلك، بقي الأجر التقاعدي الذي يتقاضاه ثابتًا ولم يراعَ فيه تقلبات الأزمات وارتفاع الأسعار، متسائلًا عن سبب عدم الاهتمام بالمتقاعدين وتقدير العمر الطويل الذي أفنوه في خدمة الوطن. إنه يعاتب الدولة التي تركهم فريسة لمصاعب جمّة يواجهونها بعد التقاعد، في وقت أكلت الخدمة من عمرهم ومنعتهم من القدرة على اللحاق بالقطاعات الأخرى في سبيل مجابهة تكاليف الحياة الصعبة.