بين الهُوية والعشق والإبداع والإلهام علاقة وثيقة، فهي مجتمعة تقود إلى التأكيد على خلود المكان، فتعالوا لنعرف إلهام وحكاية المبدعين وتخليدهم للأماكن التاريخية التي تمثّل جزءًا لا يتجزّأ من هُوية سكان المكان، وعلاقتهم الروحية بالمكان الذي يمثّل بالنسبة لهم رمزًا يستحيل مغادرة حياتهم، وأنّ الهُوية والرمزية تقتضي الحفاظ عليها، وبمقتضى أمر الحفاظ عليها تستدعي الضرورة الدفاع عنها والتضحية من أجلها إذا ما حاول المحاولون دفنها أو طمسها وغرس عنق أهل المكان في التراب. من هذه الأمكنة مكانٌ تهاميّ بل مَعلَمًا تاريخيًّا يقع في قلب مدينة الحُديدة عاصمة تهامة اليمن، يمثّل هُويةً لأبناء تهامة، وهو "باب مشرف" الذي أوشك أن يصبح في خبر كان.
تزخر محافظة الحُديدة وعاصمتها مدينة الحُديدة، عاصمة تهامة، بالعديد من المعالم والمواقع التاريخية الأثرية (قلاع - أبواب - أسوار - جوامع – مدبات - خزانات مياه وغيرها). وباب مشرف هو باب ضمن أربعة أبواب من المواقع الأثرية التاريخية في مدينة الحُديدة (مشرف أو الشريف، والستر، والنخيل، وباب اليمن جنوبًا) كانت تمثّل سورًا لمدينة الحُديدة حين عرفت بمدينة السور قديمًا. وتذكر المصادر أنّ باب مشرف كان يمثّل قلعة حصينة في عهد الحكم العثماني بناها الشريف حمود آل خيرات أو الخيراتي الملقب بـ"أبو مسمار" في 1215 هجرية، ما يوازي تقريبًا 1800 ميلادية. وهو اليوم قسم شرطة اللقية، وتحته وخلفه وأمامه محال تجارية.
ورغم ما تعرّض له من تصدُّع وتدمير لكثير من أجزائه، وكانت حاجته ماسة للتحسين والترميم، فإنّ السلطات المحلية المتعاقبة على محافظة الحديدة أهملته وتركته يواجه الاندثار. رغم ذلك تجاوز عمره التاريخي أكثر من قرنين من الزمان. وبين الهُوية والإلهام علاقة وثيقة، كلاهما يقودان إلى التأكيد على خلود المكان.
فالعشق والإلهام والهيام هُويته المكان وعندليب اليمن وأسطورة الغناء اليمني الراحل محمد سعد عبدالله، كان من عشاق الحُديدة وكثر تردّده عليها، وكان له ابن عمه صالح بن صالح عبدالله يسكن على مقربة من باب مشرف قرب مسجد الجعيشية، وكانت له صداقات عديدة تربطه بشخصيات فنية وأدبية، مثل المرحوم إبراهيم صادق وعبدالله غدوة، واجتماعية في الحديدة، مثل عبدالله معجم وعبده رحيمي. وقد عرف عن محمد سعد (رحمه الله)، أنّه كان حبيبًا ويعشق الجمال، وكان لمدينة باجل الواقعة شرق الحُديدة نصيبًا من الحبّ والإلهام والتغنّي بالجمال، قائلًا: "وسط باجل شفت ذياك الغزال / من جماله طار عقلي وارتبش / ما رأت عيني كحسنه والدلال / لا بأرض الهند أو أرض الحبش)، وأغنية يا نازلين باب مشرف؛ فما هي حكايتها وما علاقتها بباب مشرف في مدينة الحديدة؟
ففي رواية لهشام علي -غير الراحل هشام علي بن علي- على يومياته في الفيسبوك في 4 نوفمبر 2018م، كتب يقول: "عندليب اليمن الفنّان الكبير الراحل محمد سعد عبدالله يتغنّى بحبيبته، والتي وصف مكانها في باب مشرف الواقع في قلب مدينة الحديدة، باب مشرف الحي التاريخي والعريق، باب مشرف يعني الحديدة، والحديدة تعني الماضي الجميل"، ويقصد هشام علي أغنية "يا نازلين باب مشرف".
وفي رواية أخرى للفنان مختار علي حسن، كان الفنّان الراحل محمد سعد عبدالله، وصديقه الأديب الراحل إبراهيم صادق، يجلسان في مقهى عبدالله خالد الواقع أمام مدخل باب مشرف، وكان يشاهد الجمال التهامي يمرّ من أمام عينيه في اتجاه سوق باب مشرف للتسوق، فكتب في لحظتها قصيدته "يا نازلين باب مشرف".
وتؤكّد كلمات الأغنية أنّ المرحوم محمد سعد عبدالله كانت له حبيبة في الحُديدة، ومكان سكنها يقع في باب مشرف، وعندما عاد إلى عدن كان على تواصل مستمر مع الحبيبة، وفجأة انقطع تواصلها بالحبيب، فعانى ما عاناه بسبب عدم معرفة سبب قطع تواصلها، فكتب قصيدته طالبًا من النازلين، وخاصة الذين سيذهبون إلى باب مشرف البحثَ عنها والتواصل معها والتوسط بينهما.
فكتب الشاعر للوسطاء شارحًا لهم حالته وحاجته لوساطتهم، في سياق القصيدة، قائلًا:
"يا نازلين باب مشرف / أنا لا ذكرته قلبي دقاته تزيد ولا كتب لي رسالة / يا مسلمين حتى اسألوا قسم البريد / لا وصل خطه ولا جاني رسول/ طول الغيبة وشفى بي العذول / يا نازلين باب مشرف / من فضلكم تتوسّطوا بينه وبيني / وتحكموا بالعدالة يا مسلمين / لا تظلموه أو تظلموني / راجعوا الغلطان فينا راجعوه / والذي مظلوم لازم تنصفوه / يا نازلين باب مشرف / بلغوا خِلّي سلام / خبروه أنّي لأجله حرمت عيني المنام / واشرحوا له كيف سوّى بي غرامه / خاف يتكرم بنظرة وابتسامة".
أمّا المكان كهُوية تاريخية ورمز لإنسان المكان، فتسكن في العقل والروح والوجدان والاستعداد للحفاظ عليه والدفاع عنه من أي مساس به يقود إلى الاندثار. غير أنّ الحرب وتبعاتها من نهب وقتل ودمار واعتداءات على البشر وحقوقهم وممتلكاتهم، قد طالت العديد من المعالم والمواقع التاريخية الأثرية في اليمن، وكان لمحافظة الحُديدة نصيبٌ من هذه الاعتداءات التي طالت مؤخرًا قلعة باب مشرف في قلب مدينة الحُديدة.
اعتداء صارخ وهمجي يتعرّض له معلَم تاريخي تجاوز عمره قرنين من الزمان، وبحكم قضائي من المحكمة التجارية بالحُديدة، قضى الحكم بمصادرة المبنى لصالح أحد المستثمرين من محافظة ذمار، ويدعى "أبو بكر أحمد ناصر الصباري"، وبموجب هذا الحكم تم إرسال إشعارات الإخلاء لبَدء هدم القلعة تحت مسمى الاستثمار، بمسح وتدمير المعالم الأثرية في محافظة ومدينة الحُديدة!
رحم الله الفنان محمد سعد عبدالله، الفنّان الذي يستحيل أن يموت ويستحيل أن تغادر أغانيه ذاكرة اليمنيين حتى الساعة، وهو ما يعني أنّ باب مشرف سيظلّ خالدًا مهما حاول المجرمون طمسه من الوجود.
بات على أبناء تهامة الترحم على هُويتهم المكانية تاريخًا وروحًا ورمزًا ووجدانًا. وكفاية عليهم وعوضهم على الله وعلى "يا نازلين باب مشرف"، والترحّم على الراحل محمد سعد عبدالله، وقراءة الفاتحة على روحه الطاهرة.