بين الإلحاد والتدين

بحث عن الحقيقة أم فوضى وعبث فكري؟!
محمد فيصل حيدر
August 24, 2024

بين الإلحاد والتدين

بحث عن الحقيقة أم فوضى وعبث فكري؟!
محمد فيصل حيدر
August 24, 2024
.

من الواضح أن أحداث ما يسمى ثورات الربيع العربي لم تكن أحداثا عادية، خصوصا أن مزاج "التغيير" الذي تسبب بهذه الأحداث كان هو المسيطر على المزاج العام، وذلك نتيجة لأشياء كثيرة، لعل من أهمها وسائل التواصل الاجتماعي، التي فتحت للشعوب الباب على مصراعيه لتنهل من بعضها الثقافات والأفكار والاعتقادات، بعيدا عن قيود الزمان والمكان.

حسنا، لا تفرح كثيرا عزيزي القارئ، فلم يكن للكيمياء ولا الفيزياء ولا العلوم الحديثة نصيب من هذا التدفق الكبير في المعلومات، فهذه لم تكن السلع الرائجة في هذه المرحلة للأس. فالسلع الرائجة للمرحلة التي كانت تمثل قمة التدين المغلوط، المرحلة التي استخدِم فيها الدين وسيلةً سياسية وقع رجال الدين على إثرها تحت طائلة من الأخطاء والحماقات، هي الأفكار الإلحادية التي نجدها اليوم على شاكلة منشورات وتغريدات واقتباسات ومناظرات على وسائل التواصل الاجتماعي .

نجد اليوم الكثير من الذين يقولون بعدم وجود الإله، بل ويتعدون على قدسية الذات الإلهية بطرق غير أخلاقية ولا تمس للحوار وآدابه بشيء. وفي الحقيقة، جميع الحالات التي لاحظتها بدت لي وكأن أصحابها كانوا ضحية لصدمات تسببت فيها خطابات دينية متناقضة ومنفرة ومغالية ومتعارضة مع أسس العقل والمبادئ السليمة. 

المضحك أن هناك تقاطعات مشتركة كثيرة بين المتدينين والملحدين. فجميعهم يدعون إلى العمل الصالح، وحب الخير، ونبذ الشر وحصره بالآخر. إلا أن مجتمع الملحدين يتخذون الشر دليلا على عدم وجود الإله. وكما قال أحد الشخصيات الفيسبوكية: لا يوجد إله يرتضي كل هذه المآسي والدماء والحروب.

لكنهم لم يسعوا لتقويم هذا الاختلال بشكل موضوعي وعقلاني ومسؤول، بل تطرفوا بأفكارهم الإلحادية إما لشرعنة أهوائهم، أو لصب أحقادهم على خصومهم السياسيين، أو حبا في الظهور في قالب معين يوحي للناس بالفطنة ومعرفة ما لا يعرفه الكثيرون، وهذا بالضبط ما يفعله المتطرفون الدينيون.

هنا نلاحظ أن ردة فعلهم لم تختلف مضمونا، بل اختلفت بصفتها نقيضا في المسار فقط! فهم هنا لا يسعون للبحث عن الحقيقة بشكل صادق، وأعتقد أن ذلك يبدو جليا من خلال طبيعة نقاشاتهم واللغة والأساليب التي يستخدمونها في مناظراتهم وحواراتهم.

المنطق والفكرة المسبقة

في الحقيقة، أنا فقط أقف ضد هذا العبث والعشوائية واللامسؤولية في الخوض في مسائل حساسة وعميقة كهذه، ولست ضد الجدل حول الإلحاد والإيمان بحد ذاته، لأنني حتى وإن كنت طرفا، أرى أن المجتهد المخطئ خير من المتبع المصيب، لأن من يجتهد بحثا عن الحقيقة مصيره الوصول إليها، أو على الأقل الاقتراب منها، حتى وإن أخطأ في رحلته إليها. ويحضرني في هذا الصدد ما حدث مع الفيلسوف البريطاني "أنطوني فلو،" الذي كان من أهم رموز الإلحاد، وألف الكثير من الكتب التي تدحض فكرة الإله. ففي أواخر حياته ألّف كتابا شجاعا نسخ فيه جميع كتبه السابقة، والتي بلغت قرابة الثلاثين كتابا، وقد كان كتابه هذا بعنوان "هنالك إله."

لنتخيل أن ينسخ فيلسوف جميع الآراء التي تبناها طيلة رحلته الحياتية مع البحث، في حين أن هنالك من يرفض الاعتراف بأخطائه الفكرية التي تبناها ودونها على شكل منشورات في رحلة فيسبوكية لا تتعدى بضع سنوات، فقط نكاية بجماعة أو بشخص ما، أو كي لا يبدي سوأة عقله أمام مجتمع اللايكات!

وبين هذا وذاك يكمن الفرق الكبير بين من يستخدم العقل والمنطق للوصول إلى الحقيقة وبين من يحدد فكرة مسبقة ثم يسخر العقل والمنطق لتأييدها ودعمها.

الإنكار ومعيار التناقض

هناك أسباب مشتركة تدعو الناس إلى التطرف، سواء في الإلحاد أو في الإيمان والتدين. فكما قد يكون اليأس سببا في التطرف الديني، هو أيضا سبب في التطرف الإلحادي. مثل ذلك اليائس الذي تجسد فشله وضعفه على هيئة رفض لجميع الأخلاقيات والضوابط، وانطلق يسوق للإلحاد ويبشر به وكأنه عقيدة، وهاجم من خلاله جميع الأديان والعقائد ناعتا إياها بالتخلف والرجعية، في الوقت الذي يدعوك فيه لحرية الاعتقاد واحترام جميع الآراء.

والمضحك أن هناك تقاطعات مشتركة كثيرة بين المتدينين والملحدين، فجميعهم يدعون إلى العمل الصالح، وحب الخير، ونبذ الشر وحصره بالآخر. إلا أن مجتمع الملحدين يتخذون الشر دليلا على عدم وجود الإله. وكما قال أحد الشخصيات الفيسبوكية: لا يوجد إله يرتضي كل هذه المآسي والدماء والحروب.

في المجمل، جميعنا نعرف أن الأهداف والدوافع تختلف من شخص لآخر. فالباحثون عن الحقيقة ليسوا كالعابثين بالأفكار. ومن يسعى لإشباع حاجته الفطرية إلى الفهم ليس كمن يسعى لإشعال جمرة المناكفات والصراعات. الباحث عن الحقيقة يجب أن يستخدم العقل مجردا بعيدا عن أهوائه ورغباته.

في الواقع أن هذا منطق طريف للغاية، لأننا وبالإنكار المطلق لوجود الإله ننكر وجود معيار واضح للخير والشر. فمثلا القنبلة الذرية التي ألقيت على اليابان إبان الحرب العالمية الثانية، والتي أسفرت عن مقتل 60 ألف إنسان ياباني في لحظة انفجارها الأولى، سوف تُعتبر خيرا كبيرا بالنسبة للأمريكيين، باعتبار عدم وجود مطلق "إله" يمكن من خلاله تحديد معايير واضحة للخير والشر.

قمة تناقض هذا الصنف من الملحدين هو أنهم ينكرون وجود الإله "المطلق" بقولهم ما دام هنالك شر إذًا لا وجود للإله. في حين أن اعترافهم بوجود خير وشر هو إقرار ضمني بوجود المعيار المطلق "الإله." فكما قال دوستويفسكي: "من غير إله كل شيء مباح".

وبالطبع هو لم يقل ذلك لكي يدعو إلى دين معين، وإنما يتحدث عن فكرة وجود "مطلق" لو استبعدناه من المعادلة من الممكن أن يُفسر كل شر على أنه خير من وجهة نظر أخرى مستفيدة، والعكس.

في النهاية

أعتقد أن هناك أسبابا كثيرة دفعت الطرفين لهذا المسار، سواء الملحدين أو المؤمنين والمتدينين، ولو وددت سردها هنا لطال المقال واتسع المجال. ولكن في المجمل، جميعنا نعرف أن الأهداف والدوافع تختلف من شخص لآخر. فالباحثون عن الحقيقة ليسوا كالعابثين بالأفكار.

ومن يسعى لإشباع حاجته الفطرية إلى الفهم ليس كمن يسعى لإشعال جمرة المناكفات والصراعات. فالباحث عن الحقيقة يجب أن يستخدم العقل مجردا بعيدا عن أهوائه ورغباته. والحالة التي تدفع الإنسان للسؤال بكثرة ليست حالة شاذة وخطيرة كما يروج بعض رجال الدين، بل هي حالة طبيعية. فحتى في الدين الإسلامي، هناك الكثير من التساؤلات التي جاءت على لسان الأنبياء، كما جاء في سورة البقرة عن تساؤل إبراهيم عليه السلام، وهو نبي الله والمؤمن بالله، في قوله تعالى: "وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي".

تساءلوا بحثا عن الحقيقة فقط، لا لأهداف أخرى. فالسؤال حاجة طبيعية وفطرية تحثنا عليها جميع الديانات السماوية. وإني أعتب على رجال الدين الذين ينهون عن كثرة الأسئلة، فلا يحق لهم أن يجعلوا من الدين مادة لإلغاء العقل لمجرد أنهم عجزوا عن الإجابة، فشرّعوا العطش والماء بين أيديهم.

•••
محمد فيصل حيدر

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English