ضاعفت الحرب، التي ما تزال مشتعلة في اليمن، من أعداد "ذوي الإعاقة" بدنيًّا، إذ لا تكاد تخلو منطقة في اليمن من وجود أشخاص مبتوري الأيدي والأقدام من مختلف الفئات والأعمار.
مشاهد مأساوية يومية باعثة على قلق المجتمع والسلطات الحاكمة في مختلف مناطق النزاع في اليمن، خاصة في ظل عجز هذه السلطات عن توفير الأطراف السفلية والعلوية، لهؤلاء المحتاجين لها؛ بسبب شح المواد الخام اللازمة لتصنيعها، ولقلة أعداد الكوادر المؤهلة لصناعتها.
ووسط عتمة كل هذه الإحباطات، ثمة أشخاص من ذوي الإعاقة لم يستسلموا لتداعيات الحرب التي تدخل عامها السابع، آخذين على عاتقهم إحياء الأمل في نفوس مُعاقين آخرين فقدوا أطرافهم من خلال مشاركتهم في صناعة الأيادي والأقدام البديلة التي تُمكن أقرانهم من الحركة بشكل شبه طبيعي.
تحدي الإعاقة
في مركز حكومي لتقديم خدمات الأطراف الصناعية والعلاج الطبيعي، في حي الحصبة بالعاصمة صنعاء، ومنذ اندلاع الحرب، يعمل كلٌّ من الثلاثينيّ محمد حيدر، الذي يعاني من "إعاقة" حركية، والأربعيني عبدالله سالم، أبكم وأصم، وجابر عدنان الخمسيني، الذي فقد قدمه، على استقبال مئات الأشخاص الذين فقدوا أطرافهم، حيث يقومون بتجهيز أطراف صناعية بديلة، للمحتاجين لها، وفق إمكانيات بسيطة، متحدّين كل الصعوبات التي تواجههم.
يقول جابر عدنان لـ"خيوط": "عند اندلاع الحرب، واجهنا ضغوطات لم نتوقعها، منذ أن بدأنا نعمل في مهنة تصنيع الأطراف البشرية"، إذ -وفق حديثه- تزايدت أعداد الأشخاص الذين فقدوا أطرافهم مع استمرار الحرب، في مقابل شحة المواد الخام الكافية لتصنيع الأطراف الصناعية، وهو ما اضطرهم لاستخدام مواد خام محلية الصنع من أجل الاستمرار في ممارسة عملهم. يضيف عدنان بالقول: "بالفعل استطعنا أن نصنع ما لا يقل عن 150 طرفًا صناعيًّا خلال عام واحد".
تزايد أعداد ذوي الإعاقة اليمنيين في زمن الحرب بنسبة 10 إلى 13% من إجمالي عدد السكان، وبما يعادل 3 ملايين معاق ومعاقة.
ويرى عدنان أن مهنة صناعة الأطراف بالنسبة له تُعد حربًا يخوضها ويجب أن ينتصر فيها؛ لأنه يعي مدى الألم الجسدي والنفسي الذي يعاني منه مبتورو الأطراف، انطلاقًا من تجربة شخصية.
هذا وكان عدنان قد فقد قدمه اليسرى قبل نحو عشرين سنة، واجه أثناء هذه الفترة صعوبات جمة في الحركة والتنقل بـ"العكاكيز"، والكراسي المتحركة، حتى تمكن من الحصول على طرف صناعي من الهند على نفقة الدولة اليمنية.
درس عدنان دورات متخصصة بصناعة الأطراف في الهند، وهو اليوم من الفنّيين المحترفين القلائل، الذين يُعوّل عليهم تعليم الفنيين المستجدين كيفية صناعة طرفٍ من البلاستيك والحديد و"الفيبرجلاس".
وبحسب عدنان، فإن شحة المواد الخام لم تكن المشكلة الوحيدة التي واجهتهم في مركز صناعة الأطراف، بل إن عدم توفر الوقود اللازم لتشغيل الآلات بسبب انعدام المشتقات النفطية لأكثر من عام كان بمثابة تحدٍّ إضافي أمام عدنان وزملائه الذين لجؤوا لنقل أجزاء من الأطراف إلى ورشات خاصة، بهدف إنجاز تصنيعها.
ويضيف عدنان: "حينما نقوم بتصنيع الطرف البديل لمن يصل إلينا، لا نفرق بين الحالات وفقًا للانتماء المناطقي أو المذهبي أو الحزبي، فالجميع يمنيون متضررون من الحرب، وضميرنا الإنساني وواجبنا الديني يحتم علينا أن نساعد الجميع".
فقر ومرض
ظل كادر ورشة الأطراف الصناعية في صنعاء يعمل دون أن يتقاضى المرتبات لثلاثة أعوام، إثر انقطاع مرتبات موظفي القطاع الصحي والمؤسسات الحكومية في العاصمة صنعاء، لكن هذه المعضلة لم تثنِ الفنيين العاملين في صناعة الأطراف من مواصلة عملهم، وتحدي ظروف الحرب القاهرة.
من جانبه -وباستخدام إشارات الصم والبكم- قال عبدالله سالم لـ"خيوط"، إنه يعمل بكل جد وإخلاص، لكنه لا يحصل على مقابل مالي يفي بمتطلبات عائلته المكونة من عشرة أفراد، خاصة في ظل الارتفاع الكبير في أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية.
ويضيف سالم: "غالبية من هم بحاجة لأطراف صناعية ممن يأتون إلينا في المركز فقراء لا يملكون قوت يومهم، فضلًا عن أجور المواصلات التي تقلهم من منازلهم إلى المركز، وعندما أتلمس معاناتهم أحمد الله على ما أنا عليه، وأُعلّم نفسي بأن أصبر أكثر وأكثر".
في السياق ذاته، يقوم الثلاثينيّ، محمد حيدر، بتدريب وتعليم من يأتي إليه ممن بترت أطرافهم، إضافة إلى تعليمهم كيفية استخدام الأطراف البديلة والحفاظ عليها، وفي بعض الأحيان يقدم حيدر الدعم النفسي للمحتاجين له، هذا كله إلى جانب عمله في تصنيع الأطراف.
وعن تلك الجهود، يقول حيدر لـ"خيوط": "في الآونة الأخيرة كان يأتي إلينا بعض مبتوري الأطراف وهم في حالة نفسية يرثى لها، بينهم شخص فقد والده المسن فجأة إثر إصابته بفيروس كورونا المستجد"، ويستطرد حيدر: "كان البعض يخبرني أن هذا الشخص، وكثيرين على شاكلته، لم يعودوا يحبون الحياة، لكنني كنت أُذكرهم بأنه يجب عليهم أن يتسلحوا بالصبر والإيمان والتحدي لمواجهة المشكلات، وأنهم مجرد أن يعتادوا على الطرف الصناعي، فإنهم سوف يمارسون حياتهم بالشكل الطبيعي".
في ديسمبر الفائت، رأَسَ حيدر، الذي يعاني من إعاقة حركية جزئية، اللجنةَ الفنية لبطولة كرة السلة للمعاقين وألعاب القوى للمكفوفين بصنعاء، وكان حيدر يساهم في تدريب وتشجيع الفرق المشاركة، ومن بينهم فريق الناجين من الألغام الذي يضمّ أشخاصًا يلعبون من خلال أطراف صناعية صنعها لهم حيدر وزملاؤه، كانت تلك البطولة من أجمل الأنشطة التي اختتم بها حيدر عامه المثقل بالهموم.
الشعور بالفخر
يقول رئيس الاتحاد الوطني لجمعيات المعاقين اليمنيين لـ"خيوط"، إنه حينما تتحقق تلك المنجزات من يمنيين مصابين بمختلف أنواع الإعاقات، يشعر الإنسان بالفخر.
ويشير إلى تزايد أعداد ذوي الإعاقة اليمنيين في زمن الحرب بنسبة 10 إلى 13% من إجمالي عدد السكان، وبما يعادل 3 ملايين معاق ومعاقة، مؤكدًا أن هذه الفئة أثبتت للعالم، أنها مضرب مثال للكفاح ولصناعة الأمل؛ الأمر الذي يحتم على السلطات والمنظمات المحلية والدولية أن تركز جهودها لدعمهم وتقديم يد العون لهم.
إنجازات ذوي الإعاقة في اليمن بما تضمنته من كفاح وتحدٍّ للصعاب التي يواجهونها في زمن الحرب، ألهمت فنانين تشكيليين يمنيين، لتجسيد رسومات هدفها إيصال رسالة للعالم أن المعاق اليمني يستحق المساعدة، وهو ما عكسته الفنانة الشابة هيفاء سبيع حينما رسمت جدارية معنونة بـ"مجرد ساق"، وهو عمل يظهر فيه طفل يمني يحمل بين يديه ساقه اليسرى التي بترت بانفجار لغم أرضي في إحدى مناطق محافظة تعز خلال الحرب الجارية، حيث بدَا الطفل وكأنه يعرض للعالم ساقه المبتورة، ويخاطب ضميرهم الإنساني.