هناك ترابط عميق بين قضية القومية العربية والوحدة العربية، وغرس إسرائيل في قلب فلسطين؛ كعازل بين المشرق والمغرب العربي، وكحارس للمصالح الاستعمارية في المنطقة العربية.
كانت إسرائيل - ولا تزال- حارسةً للمصالح الاستعمارية القديمة والجديدة: البريطانية، والفرنسية، والأمريكية، وهي محروسة من قبل هذه القوى، ولكنها، -ومنذ هزيمة 67، واتفاقيات كامب ديفيد، وأوسلو، ومدريد، وحربي الخليج: الأولى، والثانية - أصحبت القوة الأساسية المعتمدة في ظل انهيار النظام العربي، وتراجع الوجود الاستعماري والأمريكي تحديداًا، بعد تهيئة الأجواء لصالحها بتدمير القوة العربية في العراق وسوريا وليبيا واليمن والسودان، والحد من نفوذ مصر.
نكبة 48 خلقت وضعاًا ثورياًّا في المنطقة كلها. يرى المفكر القومي قسطنطين زريق في كتاب "النكبة" أنه: «ليست هزيمة العرب في فلسطين بالنكسة البسيطة أو بالشر الهين العابر؛ وإنما هي نكبة بكل ما في هذه الكلمة من معنى، ومحنة من أشد ما ابتُلي به العرب في تاريخهم الطويل على ما فيه من محن ومآسٍي».
الخطيئة الكبرى التي ركزت عليها الزعامات القومية والفكر القومي، هي حشد الشعوب العربية والأمة كلها ضد العدو الخارجي، وإغفال الداخلي؛ وهو ما أشار إليه المفكر القومي قسطنطين زريق: «الخطر الصهيوني؛ بل كل خطر اعتدائي علينا لا يرده إلا كيان عربي قومي متحد تقدمي؛ فإنشاء هذا الكيان هو الركن الأول للجهاد العربي البعيد، ولا يتم - كما قلت- إلا بانقلاب أساسي في الحياة العربية؛ ومن هنا كان الجهاد الخارجي لدفع الأخطار الاعتدائية مرتبطاًا بالجهاد الداخلي؛ لإقامة الكيان العربي السليم؛ بل موقوفاًا، عليه ومرهوناًا بنجاحه» ؛ وهو ما عبرت عنه الحركات القومية، وبالأخص الثورة المصرية 1952.
الزعيم العربي جمال عبد الناصر في كتابه "فلسفة الثورة" يروي: "ذات يوم في فلسطين كان كمال الدين حسين جالساًا إلى جانبي، فقال لي، وهو شارد الذهن، حائر النظرات: أتدري ما الذي قاله لي عبدالعزيز قبل أن يموت؟ قلت: ماذا قال؟ وبصوت مليء بالعبرات، وعينين دامعتين أجاب كمال الدين حسين، قال لي: اسمع يا كمال، إن ميدان القتال الأول هو في مصر". وفي هذا الشأن يوضح عبدالناصر: "كنا نقاتل في فلسطين، لكن أحلامنا جميعاًا كانت في مصر".
وربما أدرك الزعيم العربي بعد هزيمة 67، أن الداخل ما زال القضية الأولى بوجود مراكز القوى التي تخلصت منه قبل أن يتخلص منها.
نكبة 48، وهزيمة 67، ليست شاهدَ فضل شعب على شعب، أو قوم أقوى من قوم؛ وإنما مرده - كما يؤكد قسطنطين زريق - إلى طبيعة النظامين هنا وهناك. ويدرس عميقاًا خطورة الحركة الصهيونية، ومدى ارتباطها بالإمبريالية والاستعمار والنفوذ والقدرات الكبيرة التي تتمتع بها.
يقرأ المفكر القومي مبكراًا مخاطر الحركة الصهيونية، ليس على فلسطين وحدها؛ وإنما على الأمة العربية كلها، والمنطقة برمتها. ومن يقرأ مسار الأحداث والوقائع منذ 48 و67، وحتى اليوم يدرك عمق ما نبّه إليه قسطنطين، واليسار الماركسي والقومي؛ فالتحالف بين الصهاينة والأمريكان كان له الدور الكبير في الدفع بالأنظمة التابعة في المنطقة العربية لتمويل التيارات "الإسلاموية"، وإشعال الحروب في غير منطقة، وتشجيع الحروب والفتن داخل البلدان العربية: الحرب في اليمن بشطريها، ومن ثم حرب الخليج الأولى والثانية، وعسكرة الربيع العربي، وتصفية هذه الثورات، وتدمير الكيانات الحضارية القومية، واستنزاف الثروة القومية في تمويل التيارات السلفية والرجعية.، ورغم تبعية الأنظمة في الجزيرة والخليج، إلا أنها أيضًا لن يُسمح لها بأن تصبح قوة أو بحيازة بعض أدوات هذه القوة.
في الفصل الأول من صفقة القرن، يجري تصفية القضية الفلسطينية، وربما - وهذا غير مستبعد- تهجير سكان الضفة -أو بالأحرى من تبقى منهم- إلى الوطن البديل (الأردن). النظام الأردني يدرك اللعبة، وهو مقدِّر لمخاطرها، ولكنه في الأسر، ولا يمكنه الفكاك من التبعية، وتقوم السعودية ودول الخليج بتمويل صفقة القرن وتأييدها، غير مدركين أنهم الضحية القادمة.
التطبيع المتسارع في الخليج يراد منه أن يكون أداة المواجهة مع القوتين الإسلاميتين: إيران، وتركيا، ويراد له أيضاًا التمهيد لعبور قطار صفقة القرن
ليس من مصلحة الأمة العربية ودول الخليج العداء مع إيران، وليس من مصلحة إيران العداء للأمة العربية، وتصدير الثورة، لكن مصلحة أمريكا والصهيونية العالمية، إضعاف أي قوة عربية كانت أو إسلامية؛ ومن هنا لن تسمح لقوة مثل مصر أو تركيا الحليفة أو إيران أو حتى الباكستان الصديقة،. من أن تكون محورًا كبيراًا.
عداوة إيران بالدرجة الأولى مع شعبها، كذلك هو الحال بالنسبة للسعودية ودول الخليج، وكل طرف من هذه الأطراف يحاول تصدير أزمته الداخلية إلى خارج الحدود، واصطناع العداوات والصراع.
التطبيع المتسارع في الخليج يراد منه أن يكون أداة المواجهة مع القوتين الإسلاميتين: إيران، وتركيا، ويراد له أيضاًا التمهيد لعبور قطار صفقة القرن، وأن تكون السعودية ودول الخليج أداة اليمين الإسرائيلي في التحالف مع اليمين الأمريكي الذي يقوده ترامب متحالفاًا مع الحركة الصهيونية والإنجيليين الصهاينة المؤيدين بالمطلق لإسرائيل.
تُوْهَم الإمارات وقبلها قطر بأنها إسبرطة الأولى أو الثانية، وتُوهَم السعودية بأنها القوة العظمى المؤهلة لمواجهة الصين والروس.
أوهام امتلاك السلاح النووي هو ما قاد صدام حسين ومعمر القذافي إلى الكارثة. نعم من حق الدولة الإيرانية أن تمتلك السلاح النووي شأن إسرائيل، ولكن الشعب الإيراني أكثر احتياجاًا للخبز والحرية والسلام، كما هو الحال بالنسبة للسعودية التي تصنف بأنها الثانية دوليّاًا في التسلح، بينما بعض مدنها الرئيسية بحاجة إلى مجارٍي للصرف الصحي، فضلاًا عن أن جزءاًا من مواطنيها يفتقر للمواطنة، ومحروم من ممارسة الحق السياسي؛ فهي إذن بحاجة إلى حكم يختاره الشعب، وإلى وقف عدوانها ضد اليمن، وإلى تطبيع علاقاتها مع جوارها.
المأساة أن التطبيع مع العدو الإسرائيلي إنما يستهدف حرف الصراع من صراع عربي- إسرائيلي باتجاه طائفي: سني- شيعي، وقومي شوفيني: عربي- فارسي؛ والاحتماء بإسرائيل ضدًّاً على الأمة والشعب.