السيدة أنجلينا جولي، الفنانة المرموقة والمبعوثة الخاصة لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، لا شك أن لفتتك الشُّجاعة واللطيفة في زيارة اليمن لها بالغ التقدير، نأمل أن تساهم في لفت نظر العالم للأزمة الإنسانية التي خلّفتها وراءها أطرافٌ سياسية محلية وإقليمية تفتقر للحد الأدنى من المسؤولية والضمير. لم يكن لنا نحن في الإعلام -أو منظمات المجتمع المدني- أن نطّلع على برنامج زيارتك، لكن مع حالة اللا يَقين التي ظللنا نراوح فيها لما يقارب ثماني سنوات من الحرب، لا نشك بأن أطراف النزاع مستفيدون من إظهار أنفسهم ملائكة رحمة وصناع تاريخ، بل قد يذهبون أكثر لإظهار كم هم وديعون وبريئون من الكارثة التي صنعوها عمدًا بأيديهم.
لكنكِ أنتِ أيضًا، قد لا تنقصك الخبرة في التعامل مع هؤلاء الأوغاد، وقد قُدّر لك زيارة بؤر صراع عدة، في أنحاء مختلفة من العالم. سترين الخراب مبثوثًا حولك في كل مكان، وتزورين مخيمات هذا الشعب المعذب، وتحظين بلحظات رهيبة مع نسائه وأطفاله الأكثر تأثرًا بالخراب. فهل علينا أن نرافقك في جزء من الرحلة، لملْء الشواغر التي لن يتاح -لزيارتك السريعة- الاطلاع عليها أو رصدها.
مررتِ من مطار عدن الدولي، وكنتِ محظوظة في كون الطائرة التي أقلتكِ، خاصةً وتابعةً للأمم المتحدة. هذا المطار هو من بين اثنين –فقط- سَمح التحالف بقيادة السعودية والإمارات، بتشغيله للمدنيين اليمنيين، إلى جانب آخر في بقعة نائية أخرى جنوب البلاد. لا شك بأنه سيتم إخبارك بأن المطار تعرض لهجمة صاروخية، في ديسمبر/ كانون الأول 2019، من قبل جماعة أنصار الله (الحوثيين)، ما أدى إلى مقتل وإصابة عدد كبير من المدنيين، بينهم عاملين في المجال الإنساني.
أتت الحرب وزبانيتها على كل شيء، من الاقتصاد إلى التعليم إلى الصحة، شتَّتَت اليمنيين وشردتهم؛ منهم في مخيمات النزوح، ومنهم من يتضورون جوعًا، ومنهم من أنهكتهم معاناتهم ومعيشتهم الصعبة وكفاحهم المضني للبقاء
هل قال لكِ –أيضًا- المسؤولون هناك إنهم قبل أيام قليلة، احتجزوا عشرات المسافرين على متن طائرة تابعة للخطوط الجوية اليمنية، لما يقارب ست ساعات في ظرف خانق ودون تكييف، وتضاربت الأنباء حينها في كون باب قمرة شحن الطائرة معطلًا، وبين أن التحالف العربي لم يعطِ تصريحًا لإقلاعها.
هذه ليست المرة الأولى، في هذه المعاملة اللاإنسانية، هناك مسافرون ماتوا على متن رحلات ولم يتسنَّ لهم الوصول إلى وجهتهم للعلاج. هل قالوا لكِ إن هذا الطيران المتهالك والمحفوف المخاطر، هو أغلى طيران في العالم؟ لا، لن يقولوا، نحن متأكدون من ذلك. هل قالوا لك إن عشرات اليمنيين يموتون في الطرقات، فقط لأن هناك من قرر وأغلق عليهم المطارات، وفي الطرف الآخر من تعاون معهم وجعل مشقة الوصول إلى وجهات السفر ضربًا من العذاب الذي يفوق الوصف.
هل ترين تلك النقاط التي مررتِ منها بسلاسة ويسر، على السيارات الأممية المصفحة، تلك التي ستستقبلك بترحاب؟ إنها هي ذاتها من تمنع المواطنين اليمنيين من الدخول إلى مدينة عدن بدون سبب أو مسوغ قانوني، لقد سمعنا أنكِ وصلتِ محافظة لحج، وهي فرصة لوضعك في صورة ما يحدث. في المكان الذي أنتِ فيه الآن، في مطلع سبتمبر/ أيلول 2021، قبل أشهر قليلة، قتلَت نقطةُ تفتيش عسكرية شابًّا يمنيًّا كان في طريق عودته من الولايات المتحدة إلى بلدته النائية شمالًا. دوافع الجريمة، وطريقة ارتكابها أثارت الذهول، إذ إنه تم ترجيح احتمالين في قيام قوات تتبع الانتقالي الجنوبي باقتراف هذا الفعل. الدافع الأول لأنه مواطن شمالي، والآخر لأنه كان يمتلك أموالًا.
ستغادرين المحافظات الجنوبية، التي تنتشر فيها فصائل مسلحة نافذة تدين بالولاء للإمارات، لكن خلفكِ المئات والمئات من المسافرين والمسافرات، الذين لم تتوفر لهم ضمانات الوصول الآمن إلى مصالحهم، ومن ذلك السفر الآمن عبر المطار، لتدخلي مناطق ضمن خارطة جنوب الوسط في طريقك- ربما إلى المحافظات الشمالية. لكن فيما إذا اختاروا لك الطريق الأقصر للمرور، طريق ما قبل الحرب، فهم هنا وضعوكِ استثناءً، ولن نشك حينها في نواياهم الخبيثة بتفويت اللحظة التاريخية عليك.
هؤلاء، حوّلوا سفر اليمنيين إلى شكل من الجحيم. لتصبح ساعات السفر القصيرة أيامًا ولياليَ، إذ يسلك المدني، الذي لا ناقة له ولا جمل فيما يحصل، شعابًا وأودية وجبال، أثناء تنقله. كما أن النقاط التابعة للطرف الآخر أنصار الله (الحوثيين) تسأل المرأة المتنقلة على هذه الطرقات، عن محرمها. في حين أن كل الأطراف ترفض منح المرأة وثيقة سفر إلا بتعريف وصي عنها.
مدينة تعز، محاصرة منذ ثماني سنوات من قبل جماعة أنصار الله (الحوثيين)، ومقطعة الأوصال، وفقط تتلقى الإمداد الغذائي والدوائي عبر شريان جنوبي متهالك. هذا الشريان أصبح مصيدة لمئات شاحنات الغذاء والدواء، والتي تتساقط على جانبي هذا الطريق بسبب وعورته وضيقه، وخروجه عن الخدمة.
صنعاء تتطلع أيضًا، لزيارتك؛ المدينة التي كانت تجمّع اليمنيين، وأصبحت بفعل الحرب أكثر من بيئة طاردة للتعايش. تتعرض الحريات والحقوق في هذه المدينة التاريخية لمذبحة، لتحل بدلًا من ذلك أحكام عرفية يفرضها مسلحون، معتقدون أنهم أوصياء دينيون على السكان. ويومًا إثر يوم، يتقلص حضور المرأة في الفضاء العام، وقد تم فرض إجراءات عزل بين الذكور والإناث، في المنشآت الخاصة والعامة.
أتت الحرب وزبانيتها على كل شيء، من الاقتصاد إلى التعليم إلى الصحة، شتَّتَت اليمنيين وشردتهم؛ منهم في مخيمات النزوح، ومنهم من يتضورون جوعًا، ومنهم من أنهكتهم معاناتهم ومعيشتهم الصعبة وكفاحهم المضني للبقاء. أطفال وقود في الحرب، موظفون من خريف العام 2016، منقطعون عن رواتبهم، فيما تذهب أموال الدولة المنهارة، إلى جيوب مجموعة من أمراء الحرب، الذين يرون في توقفها خطرًا على مصالحهم. نعرف أنهم لن يحدثوك على سرقتهم للمساعدات الإنسانية أو عرقلتها، عن استخدام الأطفال وقودًا للمعارك دون وازع.