مثّلت أكثر من 75 سنة من عمر الإنسان المتجّذر بأعماق اليمن الكبير سلطان الصريمي (1948-2024)، الشاعر التعزي المنغمس بتراب الأرض الكبيرة، تحولاتٍ كثيرةً، وتجربةً إنسانية رقيقة وقاسية في الوقت ذاته، فمن معاناته اليومية إلى السياسية، التي اختار لها أرقّ الكلمات لوصفها، نتجت تجربة الشاعر الصريمي الناضجة، والمتقدة باليمنية الخالصة، التي خلطت الحب بالأرض والطبيعة بالنضال والفلسفة، والرقة بالغضب، والذكرى منذ "الدوادح" والبداية، حتّى الكهولة والتعب، إلى الموت والنسيان.
يصعب عليّ في مقال، تتبع انتقالات هذا الإنسان المريرة طوال حياته، وهو المبتسم حتّى النهاية، فقد اندمج في مأساته من ضيق الحال كمعظم اليمنيين في طفولته وبدايات شبابه، حتّى انهال غضبًا في حروفه على بيع أجزاء بلاده فوق أحوالها القاسية، وغاص مهتمًّا مناديًا ومناقشًا لقضايا كبرى ومهمّة لذعت حروفه أسماع صنّاع قراراتها في حينها، فلم يسلم من التنكيل والترهيب، ولم يسلموا من إصراره على إخراجها، حرفًا وراء كلمة، وبيتًا وراء قصيدة.
لم يكن الصريمي هذا "الشاعر الغنائي" فقط، فهو المناضل السياسي الاجتماعي والمثقف الحقيقي وإنسان الشعب، الذي عبّر بالشعر عن كل همومه، وعُرفت أغانٍ لحّنت كلماته؛ لعلو نبرتها، وفرادتها، وهو من روّاد مرحلة الشعر العامّي الحديث الناضج في اليمن، بعد خروجه من عباءة الحميني، أو التقليد الشعبي البسيط، التي قاد خلالها متأثرًا بنبرة تجربة عبدالله سلّام ناجي الأولى وبرفقة الفضول والفتيح والجابري وغيرهم، اتقاد الكلمة "الشعبية" الجديدة، التي نطق بها مثقفوه بقضاياه، وعشقه، وبأرضه ولهجته الأليفة عليهم.
كلمات التصقت بآذان المغتربين
فمنذ البدايات التي ركّز فيها على قضايا الاغتراب، مهندسًا لأهم ما ظهر من قصائده في الأغنيات، قصيدته الحوارية الخالدة "وا عمتي" التي برزت بين شيوع موضوع "الاغتراب" في زمنها، ومحاولة الكثير من المثقفين في اليمن في النصف الثاني من القرن الماضي نقل كارثته الاجتماعية، فلم يكن الصريمي إلا بحاجة إلى بعض كلمات انتزعها من عمق "الحجرية" ليلصقها بآذان المغتربين، ويعيدهم إلى بلدانهم، خوفًا وحزنًا على زوجاتهم اللاتي انتظرنهم طويلًا.
وا عمتي منو شِقُلْ لمسعود
بعامنا الأول رزقنا مولود
مسعود هَجَر وخلّف المصائب
والبعد طال وزادت المتاعب
كان الصريمي يدرك تمامًا إلى من يتحدّث، بلهجته الأصيلة، وبالأسماء التي يختارها، فـ"مسعود" ليس إلّا هذا الإنسان الذي يقصده الصريمي تمامًا، لا غيره، ومسعود، هو بالضبط من يفهم الصريمي ولغته وحزنه. وبهذه الروائية المحلية المقفّاة التي يلبسها لقصائده، خلق نمطًا عالقًا ومؤثرًا يغنّى على ألسنة اليمنيين، وكأنما يخلق لهم "إلياذة" جديدة، ولكنها أصدق؛ لأنهم هم أبطالها، يغنونها، ويعملون بها، ويعيشونها، ويستقبلون بها أفعالهم التالية وآثارها عليهم.
إن هذا الهمّ الاجتماعي الذي امتلكه الصريمي لم يقف عند الاغتراب فقط، بل حمل أهم قضايا القرن، وتحالف مع المرأة اليمنية في نضالها وقضيتها التي هُمّشت طويلًا، وتكلم بلسانها الذي طالما كان خافتًا هزيلًا لا يسمعه أحد، فأعلى صوتها بقصائد ظلّت عنوانًا لأهم قضاياها، كان نسويًّا يمانيًّا إلى أبعد حد من دون ادعاء ولا استغلال، يواجه الأبوية المجتمعية بأقرب الكلمات لهذه الأرض.
وغيرها من الأعمال التي تكلّم بها الصريمي مناديًا بلسان المرأة، عن معاناتها وقصصها ومظلوميتها منذ فجر الالتفات لها في اليمن، شكلها في الحب، وفي الوداع، وفي الشوق والتعب والعمل، وفي صورتها الأم والزوجة التي تشارك الرجل اليمني هذه المعاناة التي بدت أبدية لا تنتهي، وفي النضال وإعلاء صوتها:
مغنية غنّي وشلّي بالدان
ما تنفع الطاعة ولا التمسكان
وسلّمي على نقم وشمسان
سلام دامي من بتول مهتان
وداع الصريمي يعني وداع حياة كثيرة، بقسوتها ورقتها، غزيرة بالنضال والحب، والإحساس الصادق الذي أظهره حتّى النهاية. وفي وداعيات كهذه، في الغالب نتذكّر الغائب الراحل، ولكن الصريمي هو من يذكرنا الآن حتى في غيابه، بإنسانيتنا ويمنيّتنا، وبحجم السكوت مقابل الكلام.
وفي حالتها التي تعكس لونًا من العناء الذي يراه حوله من كل جانب:
وأمي تَموت
دَلَى.. دَلَى.. قُبَالي
وتَلْعن الأيام والليالي
سلاسة وغضب ساخر
مناضلًا يخوض قضايا اليمن "الحسّاسة" بجرأة، وقف الصريمي موقفًا واضحًا في العديد من القضايا السياسية، منها تجديد معاهدة الطائف في منتصف السبعينيات، التي رأى فيها مثل الكثير من اليمنيين أنها تمثّل تنازلًا عن أجزاء لا تتجزأ من اليمن الكبير، حسب رأيه، ومنها أشعل قصيدته الشهيرة "نشوان"، التي سرد فيها لب القضايا المحلية والخارجية لليمن، بسلاسة وغضب ساخر، مستغلًا رمزية "نشوان" الإنسان اليمني الذي ربما قد استعار رمزيته التي وضعها عبدالله سلّام ناجي في عمله الأشهر "نشوان والراعية"، التي نشرها إثر قيام الجمهورية الوليدة في شمال اليمن.
لم تقف قصيدة "نشوان" عند حد التعبير عن آرائه فقط، بل استُغلت في الخلاف الشمالي الجنوبي اليمني الذي أُثير في 1979، وخصوصًا بعد تحوّلها إلى أغنية من ألحان الفنان المرشدي محمد مرشد ناجي، بإيقاعها المحرّك لكلماتها، وكانت بمثابة سلاح استخدمته السلطات الجنوبية ضد السلطات الشمالية آنذاك، واعتقل الصريمي على إثر ذلك. وغنّاها كذلك بلحن آخر الفنان جابر علي أحمد بكلمات كان قد حذفها المرشدي ربما لحساسيتها الشديدة، ووصفها المباشر.
تجاوزت إيقاعات الصريمي الشاعر حد القضايا الاجتماعية والسياسية، إلى الغوص أكثر في إنسانيته البالغة، في الحب، هذا الحب النابع من الأرض نفسها، التي عاش فيها وغرس نفسه داخلها، في الورد والأشجار، و"عرف الأمطار"، و"بصوت البن والكاذي"، وبهذا اليمن الجبلي الطائر بالحقيقة والخيال فوق السحائب التي تحنّ بهثيمها على العاشقين، ويستخرج منها صوره الخضراء، وهذا اليمني النشوان بالحب والمنتشي بقرب الحبيب، كما تقرّبه صور الصريمي إلى أعماقه، مصاحبة أنغام رفيق كلماته الرقيقة الفنان عبدالباسط عبسي.
وداع الصريمي مع آخر أيام العام المنقضي 2024، يعني وداع حياة كثيرة، بقسوتها ورقتها، غزيرة بالنضال والحب، والإحساس الصادق الذي أظهره حتّى النهاية. وفي وداعيات كهذه، في الغالب نتذكّر الغائب الراحل، ولكن الصريمي هو من يذكرنا الآن حتى في غيابه، بإنسانيتنا ويمنيتنا، وبحجم السكوت مقابل الكلام، بل هذا الكلام المحلّى بألفاظ الصريمي وشجاعته وعذوبته. ولا يكفي -على أي حال- هذا الرحيل في هذه الأيام الصعبة إلا لتفقد أعماله وتقليبها، لنعرف حقيقة أن هذا الإنسان قد توزّع في كل يمني بقدر إحساسه، وأن رحيله هذا لم يكتمل بعد.