رواية ليلى السياغي (رحلة مليون شلن.. خمسين دولارًا)، الصادرة عن دار عناوين في القاهرة، تقع في 243 صفحة. يتوزع السرد بين ضمير المخاطب والغائب، ويرتقي السرد المأساوي إلى ذُرَا الشعرية.
الرواية مهداة للعابرين إلى البحر، والذين قضوا نحبهم بين الأمواج، ومأساة الفرار من جحيم حرب الصومال إلى جنة عدن. هي السردية الأساس التي تتناسل منها جرائم الإبادة الجماعية، والتطهير العرقي، وتدمير الأحياء والقرى، والتجويع حدّ الإماتة، والاغتصاب، وتفشي الدعارة، ونهب الثروات، وردم الآبار.
المليون شلن هو ما يدفع للمهرب عبر البحر إلى اليمن كقيمة للإنسان في الصومال، أما الخمسون دولارًا، فتفاصيلها كثيرة، وهي قيمة الإنسان في اليمن.
تسرد البطلة (الضحية) مأساتها، أو بالأحرى مأساة الإنسان في الصومال واليمن، بتأجير جسدها.
الساردة رحمة- بطلة الرواية، وضحيتها من البداية إلى النهاية. تبدأ الرواية: رحمة وأخواتها وبنات الجيران يلعبْنَ قرن إيودوون "غميضا بيضا". اختبأت رحمة في برميل قديم. ضج المكان برصاص متواصل. اخترق الرصاص كل شيء: الأجساد، الجدران، الملابس. صراخها يبتلعه الرصاص.
يسكت الرصاص بعد أمد طويل. تُخرج رأسها من البرميل، لترى أختها غارقة في الدماء. سقطت مجددًا في البرميل. تصيح: "هيوا هيوا" (بالصومالي): أمي أمي!، ولا جواب. غابت عن الوعي، لتصحو فترى الكلاب تلتهم جسد أختها.
عندما تخرج من البرميل، تجد نفسها الوحيدة. تقع في قبضة العجوز صالح، وهو مرتبط بتجار الحروب والمهربين. تلتقي آر- شاب صومالي فقد أباه الغني جدًّا، ومساكنهم، ومزارع الأب، وهو أحد رجال الدولة الصومالية، في حين انضمّ أخوه أسامة إلى الشباب المجاهد (الشباب الإسلامي).
يبيعها العجوز صالح للدعارة والمهربين، وتبدأ رحلة المليون شلن والخمسين دولارًا. المليون شلن هو ما يتقاضاه المهربون نظير تهريبهم الدافعين من السواحل الصومالية إلى اليمن، أما الخمسون دولارًا، فهو ما يعطى لرحمة نظير ما تقوم به، كرمز لقيمة الإنسان في زمن الحرب.
جمال رحمة، ورشاقة جسمها، وزرقة عينيها الشبيهتين بالبحر، مصدرُ تعاستها. بعد معاناة قاسية مع العجوز صالح تاجر الحرب (القواد) تباع للمهربين. تبحر أربعة قوارب من مرفأ بوصاصو الصومالي إلى مرفأ عرقة- محافظة شبوة. يرميهم المهربون في الشواطئ قبل الوصول إلى المرفأ؛ فيموت الكثيرون.
ينجو القليل، ومنهم رحمة، وآر- الولد الذي كان معها لدى العجوز صالح، وأبدى اهتمامًا كبيرًا بها عندما مرضت، وقد رأته في القارب، فكان يتجاهلها. وآر ابن لأب صومالي تخرج من إيطاليا، ومن أم يمنية. تكشف رحمة محاولات بيعها. تجد نفسها في مخيم اللجوء.
تقدم الساردة رحمة محمد السيد وصفًا دقيقًا للرحلة، ولجرائم الحرب الأهلية في الصومال، وتجار الحروب، والتيارات الإسلاموية القبلية التي تدمّر الحياة في الصومال، وتقضي على كل معاني الإنسانية. تصف الرحلة ومعاناتها في المخيم، ومعاناة اللاجئين، وقسوة الحياة وبؤسها في خرز التابعة لمحافظة لحج.
تحاول فتاتان اجتذابها للإسلام السياسي عبر إلحاقها بتحفيظ القرآن هناك، إلَّا أنّ تجربة الشباب الإسلامي في الصومال تكون حاضرة لدى رحمة، ويجذبها أكثر عطا المجنون، كما يسمونه، وهو الداعية الصوفي، ويجذبها ضريح الولي الذي ينكره السلفيون.
تغريها زميلة لها من الهاربين من الصومال للعيش في عدن. تقدّمها لشيخ كبير من شيوخ الإسلام السياسي صاحب أملاك وعقارات ونفوذ واسع. تجد نفسها في قصر ودعوات تثقيف إسلام سياسي. يعرض عليها أن تعمل في القصر بخمسين دولار شهريًّا. تفرح بوظيفتها الجديدة. الخمسون دولارًا ترميز لقيمة الإنسان في اليمن. يقول الشيخ إنّها ممسوسة. يدعوها مساءً في غرفته لإخراج الجني. يبدأ بتلاوة آيات قرآنية، ويتحسس المواضع الحسّاسة في جسدها، ويحاول تعريتها، ويحس بحركة؛ فيصيح: إنها ليست طاهرة. لا بد من تطهيرها أولًا، ثم تأتون بها.
عرفت مرة ثانية أنه يريد اغتصابها، وعندما تمنّعت اتهمها بالقحب والسرقة؛ محاولًا الإيقاع بها. تقارن محقّةً بينه، وبين صالح العجوز- تاجر الحرب، وبياع الأعراض.
في السرد المائز ربط بين صالح، ورجل الدين الزائف، والتاجر، ورجل الأمن الفاسد، وشلة الحكم في صنعاء.
يرغمها الجوع والتشرّد على الوقوع في شباك بيوت الدعارة المحمية من الشرطة. توشم في حلقها كعاهرة، وتتعرض لألوان شتى من الابتزاز، والسرقة، والنخاسة، والسخرة. ترسل للنوم مع أحد كبار تجار عدن؛ فيعتدي عليها، ويضربها بقسوة، ويتهمها بالسرقة؛ فتهرب من البيت (الوكر)؛ فتلجأ للتخفي والتسول.
تلتقي صدفة بآر (الأسد) في اللغة الصومالية، فيتعاتبان. يأخذها معه إلى صنعاء. تقدم الساردة وصفًا دقيقًا للطريق من عدن إلى صنعاء؛ ما يعني معرفة حقيقية باليمن.
في صنعاء، سرعان ما تفتر علاقاتها بصديقها القديم ابن مقديشو الذي ينصرف للعودة للصومال، والبحث عن أخيه التوْءَم أسامة الذي انضمّ باكرًا للشباب الإسلامي، وشارك معهم في عدة معارك؛ حتى أصبح أحد قنواتهم الأساس لجمع المال، وكثيرًا ما كان يختلف مع والده. يعرف أنّ رحمة كذبت عليه في حقيقة الوشم. والوشم مخيال مقحم لا يتوافق مع البيئة المحافظة في اليمن.
يقدمها إبراهيم صديق آر- سائق الناقلة التي حملتهم من عدن؛ يتوسط لها، ويضمنها للعمل لدى صاحب مكتب عقار في صنعاء؛ فيوظّفها عاملة لدى أسرة من أسر الحكم، وتعرف عن قرب مجزرة جمعة الكرامة في الدايري بعد صلاة الجمعة 18 مارس، والتي قُتِل فيها أكثر من خمسين محتجًّا من شباب ثورة الربيع العربي.
تعمل لفترة قصيرة مع الست الكبيرة (الجدة)، ولكن بعد عودة ابنهم طارق- الطالب الفاشل من لندن، تبدأ التجمعات الأمنية ضدّ الربيع العربي، والحفلات الليلية الماجنة، والاعتداء عليها، واغتصابها، وسرقة كل ما معها، وطردها؛ فتعود لحياة التشرّد والشقاء.
تنتمي الساردة للحداثة؛ فلغتها الوسطى متخففة من تخشب القاموسية، والسرد الطولي الممتد، ويسود في روايتها ضمير المتكلم، إلّا أنّ قدرًا من تعدد الأصوات حاضر، ولكن حضور الذات الساردة أساس، واللغة الصحفية ترتقي إلى الشعرية، والشخوص الكثيرة بعيدة عن التنميط، ونقد الثلاثي المحرم حاضر بقوة، واللغة مهجنة بمفردات صومالية، وفيها المزج بين العامية والفصحى، والنثري والشعري، ووفرة المجاز بأنواعه.
في اليمن مهّدت أعمال روائية للبروفسور حبيب سروري، والغربي عمران، ووجدي الأهدل، ونادية الكوكباني، للربيع العربي، واعتبرت "ظلمة يائيل"، للغربي عمران، و"وراء الشمس"، لبشرى المقطري، و"حمار بين الأغاني"، لوجدي الأهدل، و"امرأة وحربان"، لإنصاف حمود أبو رأس، و"مليون شلن وخمسين دولارًا"، ليلى علي السياغي- من روايات الربيع العربي في اليمن، وسردياتها الرائعة.