انقضى في الثالث عشر من ديسمبر/ كانون الأول الحالي، عامان على وفاة المفكر والأكاديمي أبو بكر عبدالرحمن علوي السقاف (١/٥/١٩٣٥ - ١٣/١٢/٢٠٢٢)، الذي قضى عمره المهني في جامعة صنعاء، باستثناء سنوات التفرغ الأكاديمي التي كان يقضيها في جامعات شرقية وغربية. لم يكن السقاف يعد أعضاءَ هيئة التدريس موظفين فحسب، بل هم الجامعة؛ كما عبر عن ذلك في أحد الاجتماعات العامة لنقابة أعضاء هيئة التدريس، وفي إحدى مقالاته. وهذا يعني، في نظره، أن الأستاذ الجامعي يتحمل مسؤولية أخلاقية نحو الجامعة، تلزمه العمل على رفع المستوى العلمي للجامعة، وعلى تعزيز ارتباطها بالمجتمع.
ومن هنا كان الارتقاء بالمستوى العلمي لجامعة صنعاء، بل ولكل مؤسسات ومستويات التعليم في اليمن، همًّا دائمًا ظل يحمله أبو بكر السقاف، ويعمل لتحقيقه، أو على الأقل منع انحداره. وكان يرى أن أحد أهم معوقات ارتقاء الجامعة علميًّا، يكمن في تدخل السلطات في شؤونها تدخلًا مباشرًا، لا سيما في قرارات تعيين أعضاء هيئة التدريس، أو عرقلة تعيين بعض آخر لأسباب سياسية، وفي اعتماد التعيين في الوظائف الأكاديمية بدلًا من الانتخاب.
وقد كتب السقاف مقالات كثيرة في مراحل مختلفة، وبالخصوص منذ عام ١٩٩٠، ومن أهم ما كتبه في هذا الشأن، مقالٌ بعنوان (الديمقراطية والإصلاح والجامعة)، نشر في مجلة (الحكمة)، لسان حال اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، العدد 174، أغسطس 1990 (ص 9-20)، وضمه كتاب (د. أبو بكر السقاف؛ آفاق فكرية وسياسية يمنية)، منتدى الجاوي الثقافي، صنعاء، ط1، 2023 (ص20-31). يذكر السقاف أنّ الآراء والأفكار التي دارت في ذهنه بشأن وضع الجامعة والتعليم العالي والبحث العلمي -وأوردها في هذا المقال- دارت في ذهنه بعد سماعه أخبار زيارة "الأخ علي عبدالله صالح رئيس مجلس الرئاسة للجامعة، التي أصبحت حديث الناس بعد أن بثها التلفزيون". كان النقاش المفتوح والصريح الذي تناول أوضاع الجامعة، والآراء النقدية التي سمعها رئيس مجلس الرئاسة من أعضاء هيئة التدريس ثمرة مباركة من ثمار الوحدة والآفاق الجديدة التي بسطتها أمام الجامعة والمجتمع ليس لإصلاح الجامعة فحسب، بل للإصلاح الشامل، وانعكس هذا التفاؤل فيما أودعه السقاف في هذا المقال من نقد ومن رؤى للبدائل وللتقويم، لذلك يدعو: "فلنبدأ مع دولة الوحدة مرحلة جديدة تكون فيها المشاركة الشعبية في تسيير شؤون البلاد حقيقة ملموسة وفاعلة، إذ لا يكفي أن نؤكد بأن مستقبل الأمة يتوقف على تعليم المستقبل، بل أن نسهم في كل ما من شأنه أن يجعل هذا التعليم ممكنًا".
من أخطر نتائج هيمنة السلطة على الجامعة، لا سيما الهيمنة الأمنية المبالغ فيها، والتي تعد سمة عربية، إنتاج العقل المدجن. ويرسم السقاف صورة للقبضة الأمنية الممسكة بالجامعات، حيث الجامعات المحاطة بالأسلاك الشائكة والبوابات الكبيرة المغلقة وأبواب المرور الجانبية الضيقة التي يتفحص فيها الجنود والضباط الذين يحملون المسدسات والرشاشات (بالإضافة إلى الجنبية عندنا) بطائق الداخلين، ويفتشون في عيونهم وفي حقائب اليد، ويرى في ذلك صورة للعقل العربي المحاصر.
جامعة مدجنة
تناول السقاف قضايا أساسية تمنع الجامعة من القيام بوظيفتها العلمية والمجتمعية، وحدد جوانب الضعف وأسبابها، وطالب بإصلاح جدي يرتقي بالجامعة، وهذا ما لن يكتب له النجاح إلا باستقلال الجامعة عن التدخل المباشر لأجهزة السلطة في شؤونها.
للجامعة -كما يرى السقاف- دورٌ ريادي بلا شك لو أحسنت استخدام الإمكانات المتاحة لها، إلا أن هذا الدور ليس حتميًّا، بل قد تعيد إنتاج العجز في المجتمع والتخبط بدلًا من التقدم. لقد أسيء فهم ارتباط الجامعة بالمجتمع، ففُهم ومورس كمعادل لارتباطها بأجهزة الحكم، فهُدر "استقلالها وهو شرط ارتباطها بالمجتمع وتأثيرها فيه"، كما أن الارتباط بين الجامعة والمجتمع اقتصر على تخريج الموظفين، وساعد ذلك ربطُ الشهادة بالمرتب أو المرتب بالشهادة بمعزل عن كفاءة الأداء، كما يقول السقاف، ويضيف أنّ هذه المشكلة في جانب منها مرتبطة بشهادة حسن السيرة والسلوك التي جُعلت شرطًا للعمل في الجامعة وغيرها.
ويجمل السقاف وضع الجامعة بالقول: "وحالنا في جامعة صنعاء تذكرني بما كان الفقيد عبدالله باذيب يردده: إننا في طليعة الدول المتخلفة". وينبه السقاف إلى أهمية وخصوصية الجامعة، فـ"الجامعة ومؤسسات البحث العلمي والتربوي في كل دولة تمثل عقل الأمة. فهل يمكن أن نجد أمرًا أو شأنًا أحق بالرعاية والعناية من العقل".
جامعة صنعاء مدجنة، تبرر السلطات هيمنتها على شؤون الجامعة بضرورة مواجهة تيارات وجماعات وأنشطة سياسية تعتبرها خطيرة ومعادية، وبالخصوص التيار القومي بفروعه واليسار الماركسي أو ما يقال عنه نشاط ملكي، ويفند السقاف هذه المزاعم بالقول إن جامعة صنعاء مدجنة، وبأن طلابها وطالباتها بين الأشد حرصًا على الأمن والنظام في جامعات العالم شرقًا وغربًا، والدليل على ذلك أنهم -الطلاب والطالبات- على امتداد عشرين عامًا لم يقوموا إلا باحتجاجين علنيين، وكانا سلميين وغير سياسيين، هذا أولًا. وثانيًا، إن التيار الوحيد الذي ينشط وتفسح له الإدارة والأمن المجال هو (الإسلام السلفي)، أما القوميون والماركسيون فقد اقتصر الأمر عندهم خلال السنوات العشر الأخيرة على "الإيمان بالقلب ولم يخرج إلى فسحة العمل". كذلك يرى السقاف أنّ الحديث عن نشاط ملكي في الجامعة سخرية سافرة وفزاعة حتى لا يرى الناس أوجه القصور الفادحة، وقد "أصبح شائعًا أن يواجه أي نقد لعمل مسؤول في الجامعة في الإدارة أو في حقل التعليم بالجملة التالية: يا أخي يكفي أنه جمهوري. كل هذا محاولة لإخفاء ممارسات إدارية تضرب في صميم الوحدة الوطنية"، ويرى السقاف إن التبليغ عن موظف أو طالب أو أستاذ جامعي بأنه ملكي لأنه هاشمي النسب يعادل الوشايات التي جربنا مرارتها في العهد الإمامي، التي اعتبرت كل عصري (دستوريًّا) يكره آل البيت، ويعد هذا الموقف مناقضًا لحكم البداهة الذي يقضي بأن الإنسان لا يعادل انتماءه السلالي، وهو الموقف الذي انتقده ابن خلدون عندما قال: "كل نسب وَهم، إلا نسب رسول الله".
وينتقد السقاف ما تعانيه مؤسساتنا الحديثة من تناقض بين مظهرها الخارجي وجوهرها الداخلي، ويذكر بنقد الزبيري لهذا التناقض عند "الذين يبهرون العالم بزيارة موسكو وعليهم غبار دنيا ثمود"، ويؤكد في الوقت نفسه "أن التحديث يتطلب انتزاع جذور الإمامة وما في حكمها وإن بدا أنه نقيضها؛ لأن المطلوب هو إحلال نقيضها الحقيقي"، وأن ما فعلناه هو أننا "أوجدنا فسادًا جمهوريًّا أضفناه إلى فساد عهد الإمامة".
"أخطر ما في التعيين على كل المستويات، عدم الشعور بالارتباط بالوسط العلمي الجامعي، والاستقلال نسبيًّا عن هذا الوسط، والشعور بأن البقاء في الوظيفة والمنصب لا علاقة له بطبيعة ومستوى الأداء العلمي والعملي في الجامعة، ومن ثم ظهور التكتلات الصغيرة وأساليب المحاباة والنفاق الوظيفيين، وارتباط القرارات الهامة على كل المستويات بالمزاج والطبع الشخصيين، والخرق اليومي للوائح إن وجدت، وازدراء الأعراف الكريمة المستقرة وغياب حتى آداب السلوك".
محاباة ونفاق
من أهم وأخطر مجالات تدخل أجهزة الحكم، وفي مقدمتها جهاز الأمن، التدخل في الشؤون الجامعية البحتة في جامعة صنعاء. أشار السقاف إلى تعيين أعضاء هيئة التدريس، وفي هذا المجال ذكر أن أحد الإخوة مُنع من العمل في الجامعة وأشيع عنه أنه ملكي بحكم النسب، رغم أنه نشأ ودرس في ظل الجمهورية، وأسهم في الدفاع عن صنعاء أيام حصار السبعين، ولا مطعون ألبتة على مؤهله العلمي وكفاءته، ويفسر السقاف السبب الحقيقي وراء حرمان هذا الشخص -الذي يبدو لي أنه د. علي محمد زيد- بالخصومة الشخصية والحقد على التفوق. ويمكن أن نضيف إلى المثال الذي ذكره السقاف مثالًا آخر هو بعض أوائل الدفع الذين حرموا من التعيين معيدين، والذين عينوا بعد إعلان الوحدة بقرار من مجلس الجامعة، بعد الاعتراف بأن عدم تعيينهم كان بدوافع سياسية.
المجال الآخر الذي تتدخل من خلاله أجهزة الحكم في شؤون الجامعة لتضمن خضوع الجامعة لها هو اعتماد أسلوب التعيين من رئيس الجامعة إلى رؤساء الأقسام، و"أخطر ما في التعيين على كل المستويات، عدمُ الشعور بالارتباط بالوسط العلمي الجامعي، والاستقلال نسبيًّا عن هذا الوسط، والشعور بأن البقاء في الوظيفة والمنصب لا علاقة له بطبيعة ومستوى الأداء العلمي والعملي في الجامعة، ومن ثم ظهور التكتلات الصغيرة وأساليب المحاباة والنفاق الوظيفيين، وارتباط القرارات الهامة على كل المستويات، بالمزاج والطبع الشخصيين، والخرق اليومي للوائح إن وجدت، وازدراء الأعراف الكريمة المستقرة وغياب حتى آداب السلوك".
ومن أخطر نتائج هيمنة السلطة على الجامعة، لا سيما الهيمنة الأمنية المبالغ فيها، والتي تعد سمة عربية، إنتاجُ العقل المدجن. ويرسم السقاف صورة للقبضة الأمنية الممسكة بالجامعات، حيث الجامعات المحاطة بالأسلاك الشائكة والبوابات الكبيرة المغلقة وأبواب المرور الجانبية الضيقة التي يتفحص فيها الجنود والضباط الذين يحملون المسدسات والرشاشات (بالإضافة إلى الجنبية عندنا) بطائقَ الداخلين، ويفتشون في عيونهم وفي حقائب اليد، ويرى في ذلك صورة للعقل العربي المحاصر، الذي أنتج العقل المدجن من المحيط إلى الخليج، ويضيف: "وقد صدمتني لأول مرة هذه الصورة الشبح، عند المدخل الرئيسي لجامعة القاهرة في العقد الخامس من هذا القرن عندما كنت طالبًا فيها".
خاتمة: كتب السقاف هذا المقال الطويل الذي تضمن قضايا ومشكلات تصلح لأن تكون أساس برنامج إصلاح شامل وحقيقي للجامعة في الشهور الأولى للوحدة، يدفعه الأمل ببداية عهد جديد في حياة اليمنيين ودولتهم ومؤسساتهم. وبالفعل، فقد حدثت تغيرات مهمة على صعيد جامعة صنعاء فرضها الزمن الوحدوي، فقد تمتع الأساتذة والطلاب بحرية التعبير العلني عن توجهاتهم السياسية والفكرية، وأسس الأساتذة نقابة لهم قوية وفاعلة دافعوا من خلالها عن حقوقهم، كما حقّقوا مكاسب من خلالها، كذلك نشط اتحاد الطلاب الذي تمثلت فيه التيارات السياسية بالتوافق أحيانًا، ومن خلال التنافس الانتخابي أحيانًا أخرى، واعترف بحق أوائل، حُرموا من التعيين معيدين لأسباب سياسية، وصدرت قرارات تعيينهم -كما سبقت الإشارة- وصدر قانون الجامعات الذي تضمن حقوقًا ضمن قيود في انتخاب رؤساء الجامعات وعمداء الكليات ورؤساء الأقسام، وكفت يد الأمن عن العبث كما كان يفعل سابقًا، لكن هذه التغيرات وما رافقها من طموحات بدأت بالتراجع، بالتزامن مع وأد الوحدة السلمية في حرب صيف 1994، التي تبعها تعديل دستور دولة الوحدة ليعبر عن إرادة المنتصر، وتبعها تعديل القوانين، ومنها قانون الجامعات، لا سيما بعد جريمة مشرحة كلية الطب بجامعة صنعاء، التي كشفت عام 2001، فسببت صدمة للمجتمع ورعبًا للطالبات والأُسر اليمنية كافة، فقد استغلت الجريمة الفظيعة لتعديل قانون الجامعات وإلغاء الانتخابات بذريعة زائفة قامت على أن الجريمة حدثت بسبب السياب، وأن السياب ناتج عن كون العمداء ورؤساء الأقسام منتخبون، مما حال دون مراقبتهم وضبطهم وتغييرهم عند الحاجة. وهكذا أخذت أوضاع الجامعة تتأثر بالتغيرات والتطورات السياسية تأثرًا سلبيًّا، مرورًا بأحداث 2011، وصولًا إلى وضعها الحالي، وهو وضع مزرٍ للغاية، حيث تدار كل شؤونها وكأنها مؤسسة تابعة للجماعة السياسية الحاكمة، والتدخل في شؤونها سافر، والقوانين واللوائح والتقاليد الأكاديمية ألغيت عمليًّا.