لست طبيبًا ولا منجمًا، لا أعلم الغيب ولا أقرأ الكف أو الفنجان، لكني أعرف هموم الناس وأوجاعهم في بلادي.
أفهم أوجاع الشعراء والمثقفين، معاناة الصحفيين والكُتاب والمدرّسين. أسمع أنين حمَلة راية العلم والمعرفة، حكمة العقل وقوة الكلمة.
هؤلاء جميعًا يعانون مثل بقية أفراد الشعب اليمني بمختلف فئاته وشرائحه، فقد قُطِعت عنهم سُبل الحياة والعيش الكريم، وأصبحوا مهددين بالموت والانقراض.
انتُهكت سائر حقوقهم، وفي المقدمة الحق في الحياة والعيش في وطن حر ديموقراطي وآمن.
وطننا العربي والإسلامي، بجامعته العربية، ومنظمة تعاونه الإسلامي، وبكل منظماته التربوية والثقافية والإنسانية، لا تريد أن ترى ما يعانيه الإنسان اليمني خوفًا من قطع ميزانياتها من قبل جارنا الذي تسبب في معظم أعمال القتل والتجويع، وألحق الدمار بالبلاد والعباد.
شاعرنا الكبير، المسكون بحبه لعاصمة بلاده، الدكتور عبدالعزيز المقالح لم يعد قادرًا ولا راغبًا في مغادرة عاصمة الوحي التي أحبها وأحبته.
الأمراض تنهش في جسده، قلبه يعتصر ألمًا، عيناه تذرف حزنًا وغضبًا، وهو يرى مدينته حزينة مثله، يلفها الظلام، ويحاصرها طيران الجهل والجهّال، يدمر بيوتها، يقصف أعراسها وأفراحها، يقتل أطفالها ورجالها ونساءها.
كيف لا يمرض شاعرنا الكبير، وهو يرى عاصمة الوحي محاصرة، وهو الذي أراد فتح أبوابها لكل الكُتاب والمثقفين والشعراء، لجميع رجال ونساء العلم والمعرفة، ليس من الوطن العربي فحسب، بل ومن مختلف بقاع العالم؟
غونتر غراس، أدونيس، محمود درويش، سليمان العيسى، سعدي يوسف، وآخرون.
كل من زار أرض اليمن أحبها وأحبته، وقال كلمته في أصالة البلد وطيبة شعبه.
صاحب "ديوان اليمن" حَبَّر:
"سلام على مهدنا الأول
على اليمن المشرق المقبل
على كل شامخة في السماء
تلوح كقادمة الأجدل
سلام على كل وادٍ يمور
بأسرار تاريخنا الموغل".
***
ومن مهد العيسى إلى مهد الشاعر الكبير أدونيس:
"أقول في تراب اليمن لي عرق ما
وأنتمي إليه
بلدًا بلا عمر
كأنه وجه الله".
كيف لا تزداد أوجاع شاعرنا اليوم، وهو يرى بلاده تتجزأ، تتناحر فيها القبائل والطوائف بدعم وتشجيع الأجنبي، الذي يسعى جاهدًا لوأد وحدته واحتلال جزره، والسيطرة على ممراته المائية ومنافذه البرية والبحرية والجوية؟
***
كيف لا يُدمي قلب شاعرنا الكبير، ويجف قلمه، وهو الذي كان حاضرًا ومشاركًا في كل الأحداث التي عاشها الشعب والوطن طيلة كل عقود الجمهورية.
عندما حاصرتنا القوات الملكية المدعومة من جارنا وعدونا اللدود، دحرناهم. عندما تسابقنا مع الريح إلى قمم الطويل وعيبان ونحن نردد:
إن لم نعد السور والخنادق
ونشرع البنادق
سترتدي نساؤنا الحداد
سيرجع الفساد
الليل والإرهاب والسجون
سيرجعون
إن لم نقف على الأبواب، في الجبال،
في المداخل نقطع رأس كل حية على حدودنا
نحفظ للبلاد فجرها، نقاتل
نكتب بالدماء، والجراح
وثيقة الصباح.
***
كيف لا تزداد أوجاع شاعرنا اليوم، وهو يرى بلاده تتجزأ، تتناحر فيها القبائل والطوائف بدعم وتشجيع الأجنبي، الذي يسعى جاهدًا لوأد وحدته واحتلال جزره، والسيطرة على ممراته المائية ومنافذه البرية والبحرية والجوية؟ كيف لقلب شاعرنا أن يحب؟ وكيف لعقله أن يفكر وقد اختلطت المعايير والقيم؟
حيث أصبح الوحدويون يبشرون بالانفصال، والتقدميون يوغلون في الرجعية، والأحرار باتوا عملاء مأجورين، والمستنيرون يتجهون نحو كتائب الجهل والظلام، وأضحت صنعاء التي أحبها ورفض مغادرتها تئن من أوجاعها، ويتكاثر فيها دعاة الحقد والبغضاء والأوهام، وهو الذي قال عنها:
صنعاء يا أنشودة عبقت
وأجاد في إنشادها الأزل
إن أبعدتني عنك عاصفة
وفرقت ما بيننا السُّبل
فأنا على حبي، وفي خجل
روحي إلى عينيك تبتهل.
كان الفنان الكبير جابر علي أحمد يبكينا عندما يغني أشعار البردوني والمقالح، عندما ينشد للوحدة والغد المشرق، أما اليوم فها نحن نبكي بدون كلمة شعر أو نغمة عود، ننام ونحن مستيقظون، نمشي بخطى ثابتة، ولكن لا نعرف إلى أين.
اليمن يتمزق، بعد أن كانت وحدته حلم الملايين من أفراد الشعب اليمني، ومعهم كل قوى الحرية والتقدم في العالم، لكن هذا الحلم الجميل والعظيم، كما قال المقالح: "قد تم تشويهه والإساءة إليه، لا عن طريق العامة والبسطاء من الناس، وإنما عن طريق النخبة الحاكمة التي ظنت أن زيادة مساحة الوطن تعني زيادة في حصتها من الثروة والاكتناز غير الشرعي".
حقًّا أجهضت الأطماع الكبيرة والنفوس الصغيرة أهم إنجاز سلمي في تاريخنا المعاصر.
وها نحن اليوم، وبغباء لا يضاهينا أحد فيه، نسير في طريق القضاء على الوحدة، التي أراد لها المناضل الشهيد جار الله عمر أن تكون متلازمة مع التعددية والديمقراطية والعدالة والمساواة في المواطنة.
نعم اليمن يتشظى ويُقطّع، وشاعرنا الكبير ونحن معه، "لا نفهم حديث البعض عن حالة فصل جغرافية مطلقة بين الجنوب والشمال أو بين شعب الجنوب وشعب الشمال".
معالجة الخطأ بالخطأ، كما يقول المقالح: "لا ينم عن تفكير سليم ولا عن وطنية صادقة، بل يصدر عن حالة انفعالية لردود الأفعال المتلاحقة والمتراكمة".
تشعر والمقالح يقول ذلك أنه يعتصر ألمًا وحسرة عندما ينظر إلى حجم الانتكاسة التي حلت بالشعب والوطن. لكنه رغم كل ذلك لا يستطيع أن يودع عاصمة بلده؛ لأنه قد أعطاها قلبه وحبه، سلمها مشاعره وأشعاره، والإنسان لا يمكن أن يعيش بلا قلب وحب، وبدون مشاعر وأحاسيس.
من يريد لشاعرنا الكبير أن يتعافى، والكل يريد له ذلك، من يريد له أن ينفض أحزانه ويستعيد ابتسامته، ويرسم بكلماته أجمل لوحات مدينته ووطنه؛ فما عليه إلا العمل على قشع الظلام من حوله وإعادة النور إلى مدينته. يجب إبعاد أزيز الطيران عن مسامعه، وإيقاف قتل شعبه وتدمير حضارته، وستجدون عند ذاك شاعرنا الكبير يعود إلى صحته، وسنراه يتنزه في حديقة مركزه، ويستقبل أصدقاءه ومحبيه، وربما نجده يركض في شارع بغداد صحبة صديقه وجليسه الشاعر والمناضل محمد عبدالسلام منصور، ركضنا ذات يوم إلى قمم الجبال ونحن نردد أشعاره وأغانيه.
دمتم ودام شاعرنا الكبير.