بين عديدٍ من القصص الواقعية المؤلمة في طرق التهريب العابر للحدود اليمنية السعودية، تأتي حكاية ناصر (17 سنة) -اسم مستعار حفاظًا على خصوصيته- وهو ابن مدرّس في قريته. بعد أن ساءت ظروف العائلة، اضطر ناصر لمساعدة والده في تحمل نفقات المعيشة، غير أنه اختار مهنة خطرة ليقوم بدور الابن السند، وهي تهريب القات عبر منطقة "الرَّقو" بمحافظة صعدة.
وتتبع بلدة "الرقو" الجبلية مديريةَ مُنَبِّه في أقصى الغرب من محافظة صعدة، وعلى تخوم حدود اليمن والسعودية؛ ولأنّ فيها الكثيرين من أهالي قرية ناصر، لحق بهم بحثًا عن الرزق، رغم اعتراض والدته ووالده.
ذات يوم، ذهب ناصر ليستلم حوالة مالية بمبلغ 15 ألف ريال، أرسلها عمه لأبيه ضمن التساند العائلي في أوقات الشدة، لكن الابن المصرّ على المساندة بدوره، استلم الحوالة واستقل أول سيارة حتى وصل سوق "الرقو". عند وصوله، استعد ليكون أول الصاعدين إلى جبل الموت؛ كان شابًّا مملوءًا بالحيوية والإصرار على مزاولة العمل الخطِر، ليتمكن من تعويض المبلغ الذي أخذه على أبيه دون تأخير. أخذ حملة القات المكلف بإيصالها، وكله أملٌ في أن يعود ويستلم أجرته بأسرع وقت، ثم صعد الجبل مع رفاقه متجهين نحو الطريق العابر للحدود. في منتصف الطريق الوعرة، تعرّضوا لقصف مباغت من قبل حرس الحدود السعودي، فكان ناصر أحد الضحايا الذين تحولت أجسادهم إلى أشلاء. هكذا رحل إلى العالم الآخر من المرة الأولى، ورحل معه نحو 5 آخرين.
مدينة الموت
يغامر المئات من العاملين اليمنيين في تهريب القات إلى المملكة العربية السعودية، بعبور المناطق الحدودية من أجل كسب العيش، لكن أيّ لقمة عيش يمكن كسبها من تهريب القات، وأي أمل يرجونه في طريق الموت! معظمهم يلقون حتفهم نتيجة للقصف ونيران حرس الحدود.
بلغ عدد القتلى في محافظة المحويت 17 قتيلًا خلال يوليو/ تموز وأغسطس/ آب، بحسب ما أفاد به أحد أهالي المنطقة، بينما هناك عدد مضاعف في محافظة صعدة.
تقول نعمة (اسم مستعار)، وهي أم لأحد العاملين في طريق الموت، إن ابنها (28 سنة)- أب لثلاثة أطفال، يعمل في تهريب القات منذ حوالي سنة ونصف: "أدعو الله أن يبقي لي ولدي الذي تعلق بالذهاب إلى هناك، فأنا أسمع كل يوم أخبار القتل وأخشى أن يأتيني خبر بأن ابني بينهم".
إلى مشقة هذا العمل، يعرف العاملون في تهريب القات عبر الحدود، حجمَ الخطر الذي يتربص بحياتهم. يقول (س.ع)، في حديثه لـ"خيوط"، إنها عملية شاقة ومضنية؛ "نظل نمشي بالساعات لنوصل حملة القات المكونة من عدّة رُبَط". لم يحدد عدد حُزم القات التي يحملها كل شخص، لكنه تحدث عن وعورة الطريق في الجبال وما ينتظرهم في طريق الذهاب والإياب. غالبًا ما يتحركون في الليل تفاديًا لمناظير ورصاص قناصة حرس الحدود السعودي، ويتذكر (س.ع) آخر ضحية من أقاربه تطايرت أشلاؤه في إحدى الطرق الجبلية. لم يستطع أحد الاقتراب من القتيل بسبب استمرار القصف ونيران القناصة؛ "انتظرت حتى الصباح وصعدت الجبل لأجمع أشلاء قريبي، ودفنته هناك". يضيف، مؤكدًا أنه لا يمر يوم بدون موت على طريق التهريب، وأن أحدهم قُتل برصاصة قناص في منتصف شهر يناير/ كانون الثاني 2022، بينما كان عائدًا من تسليم حملة القات، فأخذه زملاؤه إلى مسقط رأسه ودفن هناك.
بحسب العاملين في تهريب القات عبر بلدة "الرقو"، لا يمرّ شهر دون حوادث قتل بالعشرات، بمن فيهم فتيان بسن الخامسة عشرة. صغار وكبار تدفعهم ظروف الحياة الصعبة نحو طريق عزرائيل؛ حيث يتقاضى كل من ينجح في مهمته، بين ٣٠٠-٤٠٠ ريال سعودي، وهناك من يتقاضى 600 ريال في حال كانت الكمية التي ينقلها أكبر.
(ص.ع) عامل آخر تحدث لـ"خيوط" عن ظروف العمل في تهريب القات عبر الحدود. يقول إن العمل يتوقف أحيانًا في مدينة الرقو نتيجة لشدة القصف وتكثيف حملات حرس الحدود، مشيرًا إلى أن مدة التوقف تصل أحيانًا إلى شهر. يقضي عمال التهريب هذه المدة في سوق المدينة الريفية، حيث العملة الرائجة فيها هي الريال السعودي وليس اليمني، فيما يقول (ص.ع) إن قارورة المياه المعدنية قرابة 500 ريال، وهو خمسة أضعاف سعرها الفعلي.
ثقل الموت على النساء
تقول نعمة (اسم مستعار)، وهي أم لأحد العاملين في طريق الموت، إنّ ابنها (28 سنة)- أب لثلاثة أطفال، يعمل في تهريب القات منذ حوالي سنة ونصف. وتضيف في حديثها لـ"خيوط": "أدعو الله أن يبقي لي ولدي الذي تعلق بالذهاب إلى هناك، فأنا أسمع كل يوم أخبار القتل وأخشى أن يأتيني خبر بأن ابني بينهم".
كما تروي زوجة أحد العاملين في مدينة الرقو، أنّ زوجها لا يزال مستمرًّا في هذا العمل منذ ثلاث سنوات. تقول لـ"خيوط"، إنه كان لديه دراجة نارية، لكنه لم يعد يرغب بالعمل عليها، بل بالذهاب إلى "الرقو". "كلنا نعارض ذهابه إلى هناك، فالكثير من أقاربي وأهل قريتي أُعيدوا جثثًا هامدة وبعضهم دفنوا هناك".
وتحكي أخت أحد العاملين الذين قُتلوا في الطريق نفسه: "قُتل أخي في الأشهر الماضية. كان عمره 15 سنة، وكانت المرة الأولى التي يذهب فيها إلى الرقو".
ترصّد العصابات
من جهة أخرى، يأتي الموت لمهربي القات على يد قطّاع طرق يتربصون بالعائدين من مهامهم أثناء نزولهم من الجبل، حيث يسلبونهم ما بحوزتهم من نقود ويقتلوهم بأبشع الطرق. بعض تلك العصابات هي من المهاجرين الأفارقة، وحين تزايدت المخاطر وعمليات التقطع، ومع اشتداد القصف والقنص من قبل حرس الحدود السعودي، بلغت أجرة العامل الواحد عن كل عملية تهريب قرابة ٢٠٠٠ ريال سعودي، بينما يجري البحث عن عمال مغامرين ومستعدين للموت.
* تحرير خيوط