رحلة القرشي عبدالرحيم سلام

السيرة ممزوجة بالشعر وألفة المكان
محمد عبدالوهاب الشيباني
November 7, 2024

رحلة القرشي عبدالرحيم سلام

السيرة ممزوجة بالشعر وألفة المكان
محمد عبدالوهاب الشيباني
November 7, 2024
.

حين غادر القرشي عبدالرحيم سلام في العام 1946، قرية حالزة في نواحي منطقة القريشة بالقرب من التربة، بلواء تعز، التي وُلد فيها في العام 1936، إلى مدينة عدن، كان قد تلقى تعليمًا تقليديًّا مقتدرًا في مِعْلامة القرية مثل كل أطفال القرى، وهي التجربة التي ستؤسسه قرائيًّا، لأن شغفه بالتعليم كان مرتفعًا.

أذنه الصغيرة كانت تختزن الأغاني الشعبية للريفيات في الحب والبعاد بسبب كثافة الهجرة وقتها، وتشبعت بمهاجل الفلاحين والرعاة في مواسم الزراعة، أما عينه فقد استوعبت حركات الرقصات المحلية وإيقاعاتها التي كانت تؤدّى في الأفراح ومناسبات الأعياد. غير أن الصورة الأكثر إيلامًا عن القرية وظلت تلازمه طويلًا، هي صورة الموت الذي أنتجته المجاعة التي اجتاحت اليمن في العام 1943، ويقول عن ذلك في حوارٍ أجراه الشاعر الراحل نبيل السروري معه، لصحيفة الميثاق في العام 1996:

"وأتذكر تلك المجاعة التي انتشرت في البلاد، ربما خلال الحرب العالمية الثانية، والتي دفعت بمجاميع كبيرة من الناس إلى هجر قراهم والانتشار على طول البلاد وعرضها بحثًا عما يسد الرمق. وما زلت أتذكر أولئك الذين كانوا يصلون إلى قريتنا، عائلات بكاملها وأمهات وأطفال طلبًا لبعض الطعام، فإذا تناول أحدهم قدرًا بسيطًا من الطعام الذي يكاد لا يكفي لطير، تجده يتصبب عرقًا ثم يسقط ميتًا. قامات شابة وزوجات في عمر البهجة ما إن تأكل الواحدة منهن لقمتين حتى تتصبب عرقًا وتسقط ميتة. كثيرون كانوا يتوزعون القرى وربما باعوا أطفالهم لو تمكنوا من ذلك". 

 الطريق إلى عدن 

كان الطريق الذي يسلكه مسافرو المنطقة وقتذاك إلى مدينة البحر والحلم، وسلكه مع والده وهو في العاشرة، يبدأ من حالزة، فوادي الصُّحى، فنقيل الصنون ثم السُّخِر بِهَيجة العبد، فمعبق، وصولًا إلى طور الباحة في حدود الصبيحة، حيث نقطة تجمع السيارات التي تنقل الركاب القادمين من نواحي الحجرية الجنوبية والغربية والشمالية إلى عدن والعائدين منها إلى قراهم، وتنقل أيضًا البضائع المستجلبة من المدينة التي كانت ملء السمع والبصر، إلى أسواق الداخل اليمني الشحيحة. 

قال لي بعد خمسين سنة، حينما التقيت به لآخر مرة في فعاليات المؤتمر العام السابع للاتحاد في مارس 1997(*)، إن سفره كان مع والده، ركوبًا على الحمير حتى طور الباحة (دار القديمي)، وإن دهشته كانت عظيمة عندما ركب أول مرة في حياته شاحنة نقل مع كثير من الركاب، أوصلتهم بعد عناء إلى الشيخ عثمان، التي هي الأخرى، أدهشته بطابع الحياة فيها. بعد يومين من السفر، وصلا إلى الدكان الذي يمتلكه الأب الحاج سلام القرشي، والذي كان يقع في وسط تقاطع سوق الطعام وسوق الحراج بالقرب من سوق البهرة بقلب كريتر، ومختص في بيع العطور والملابس. كان الأب، قبل استقراره بعدن، واحدًا من المهاجرين اليمنيين في جيبوتي (المستعمرة الفرنسية)، على الضفة الأخرى من باب المندب، مثل الكثير من أبناء مناطق الزريقة والقريشة والمقاطرة.

المجاعة دفعت بمجاميع كبيرة من الناس إلى هجر قراهم والانتشار على طول البلاد وعرضها، بحثًا عما يسد الرمق. وما زلت أتذكر أولئك الذين كانوا يصلون إلى قريتنا، عائلات بكاملها وأمهات وأطفال، طلبًا لبعض الطعام، فإذا تناول أحدهم قدرًا بسيطًا من الطعام الذي يكاد لا يكفي لطير، تجده يتصبب عَرقًا ثم يسقط ميتًا. قامات شابة وزوجات في عمر البهجة ما إن تأكل الواحدة منهن لقمتين حتى تتصبب عرقًا وتسقط ميتة. كثيرون كانوا يتوزعون القرى، وربما باعوا أطفالهم لو تمكنوا من ذلك.

ومن تلك اللحظة، بدأ الطفل صاحب السنوات العشر يذوب بالمدينة وينصهر بها ويكتسب ثقافتها في التنوع، حتى إنه لم يعُد إلى قريته سوى قبل وفاته بقليل، وهو متعب، وكأنه يودع ذكريات الطفولة البعيدة، لكنه سرعان ما عاد إلى عدن ليتوفّى بها، ويُدفن في مقبرة القطيع بكريتر في الخامس من أغسطس 1998.

كانت المدينة، حين وصلها أول مرة، تتعافى بعد سنوات الحرب العالمية الثانية التي انخرطت بها بريطانيا إلى جانب دول الحلفاء، لمقاتلة جيوش هتلر وموسوليني، التي اجتاحت أوروبا ابتداء من العام 1939. وكانت المدارس الأهلية الخيرية قد بدأت بالانتشار لتعليم أبناء الريفيين الذين لا يستطيعون الحصول على تعليم نظامي في المدارس الحكومية، التي كانت تشترط القبول فيها بشهادة ميلاد في المدينة أو ما كان بـ(المخلقة).

 في مدرسة بازرعة 

التحق أولًا بمدرسة النجاح بمنطقة الزعفران حتى الصف الرابع، ثم انتقل إلى مدرسة بازرعة الخيرية الإسلامية التي كانت ولم تزل، تقع في منطقة بين العيدروس والزعفران، التي أسّسها رجل الأعمال الحضرمي محمد عمر بازرعة، في العشرية الثانية من القرن العشرين، ثم تولى نجله علي محمد أمر الإشراف عليها لاحقًا، وأقل ما يمكن أن يقال عن هذه المدرسة، إنها كانت حاضنة وطنية وتعليمية متقدمة، جعلت التعليم متاحًا لأبناء الفقراء وللطلاب الوافدين من الأرياف، وتخرج منها الكثير من الطلاب الذي كان لهم شأن كبير في تاريخ اليمن، (ومنهم: أحمد بن أحمد قاسم، ومحمد عبده زيدي، والدكتور عبدالله عبدالولي ناشر، وعلوان الشيباني، وعبدالله محيرز، والدكتور محمد عبدالودود، وعلي عبيد الفضلي، وغيرهم)، وفيها تتلمذ على أيدي نخبة من المعلمين الأجلاء، منهم: الأديب والقاص حسين سالم باصديق، الذي تعلم على يديه اللغة الإنجليزية والعربية، وحامد زليخي أستاذ الجغرافية، وعمر باناجة أستاذ اللغة العربية، ومحمد سعيد الصائغ، وعلي عبدالعزيز نصر، وقاسم غالب، وعلي محمد باحميش، وعلي عبدالرزاق باذيب، محمد سعيد الصائغ، وعلي عبدالكريم الشيباني أستاذ البلاغة والأدب، والأخير كان أكثرهم تأثيرًا عليه، فقد بقي يتذكره في مقابلاته وفي أحاديثه معي. أغلب المعلمين، وخصوصًا أساتذة اللغة العربية والبلاغة والأدب، شكّلوا في وعيه الشاب أنموذجًا كاملًا لما يتوجب أن يكون عليه شاب طموح، لهذا اختار أن يكون في بداية حياته معلمًا.

يصف تلك السنوات بأنها كانت قاسية ومنحته الجلَد، فبعد أن ينهي دوامه المدرسي كان يتوجب عليه العودة إلى دكان والده للعمل إلى جانبه، وكانت معيشته في إطار الدكان، بما فيه النوم على رصيفه، مثل أكثر الناس في تلك الفترة، يستأجرون أَسرَّة مصنوعة من جريد النخيل ليناموا عليها، وأحيانًا كثيرة يفترشون كراتين البضائع، وساعدهم في ذلك طبيعة المدينة الحارة. 

كانت سنوات النصف الأول من الخمسينيات، مرحلةَ تشكُّل وعي الشاب ووجدانه ثقافيًّا بما أتاحته المدرسة من تنوع في التعليم، وما وفرته مكتبات كريتر من مطبوعات وقصص أطفال كانت تصل من القاهرة وبيروت، وينكب عليها الشاب لقراءتها، وإلى جانب التشكل الثقافي كان القرشي أيضًا يتشكل سياسيًّا تحت تأثير ثورة يوليو المصرية التي كانت ملهمة كبيرة له ولأبناء جيله بفعل الراديو والجرائد.

 من جعار إلى الأيام

في بداية الخمسينيات، كانت مدينة (جعار) على ضفة وادي (بنَا)، المعروفة تاريخيًّا بـ(خنفر)، تتشكل بصفتها حالة سكانية جديدة قوامها التنوع، فرضتها رغبة السلطة الاستعمارية في أن تكون المنطقة -وضمن مناطق أخرى في دلتا أبين ودلتا تبن بلحج- مناطق لزراعة القطن، الذي أثبتت التجارب نجاح استزراعه تجاريًّا وبجودة عالية، ليكون بديلًا عن القطن المصري والهندي، الذي لم تعُد التجارة البريطانية تتحكم بزراعته وتسويقه، وتحديدًا بعد استقلال الهند في 1947، وجلاء القوات البريطانية عن مصر، ابتداء من العام 1954، وهو ما استدعى استقدام قوى عاملة فلاحية من مناطق يمنية متعددة للعمل في مساحات شاسعة تم استصلاحها لهذا الغرض، وكان الذي يدير هذا الوضع لجنة أبين الزراعية التي تشرف عليها السلطة الاستعمارية مباشرة من عدن.

ترافق مع توسع المدينة نشوءُ قطاع خدمات متنوع، ومنها قطاع التعليم، حيث افتُتِحت في المدينة مدارس حكومية تشرف عليها دائرة المعارف للسلطنة الفضلية التي يمتد نفوذها على أغلب مناطق أبين. ولأنها كانت بحاجة إلى كادر تعليمي، فتحت باب الاستيعاب لمن يرغب من الخريجين. وقد وجدها القرشي فرصةً مهمة لتحقيق حلمه والاستقلال بحياته بعيدًا عن سطوة الأب. كان وقتها قد أكمل المتوسطة أو على وشك إكمالها، أما زملاؤه الآخرون، مثل حسين السفاري وأحمد قاسم، فقد انتقلوا إلى حياة تعليمية جديدة؛ الأول في كلية عدن بدار سعد، والثاني في المعهد الفني بالمعلا.

كانت عدن حينها، تعج بالكثير من الصحف الأهلية والحزبية والنقابية التي تعكس الحراك المتنوع في المستعمرة البريطانية، فوجد ضالته في نشر مقالاته في بعضها، والعمل في أخرى، ومنها صحيفة الأيام، التي أسسها في العام 1958، محمد علي باشراحيل، وعمل فيها محررًا متقدمًا، وكان لصدور الأيام في وقت متأخر نسبيًّا أثره في خطابها المهني، إذ استفادت من تجارب الإصدار والنشر الصحفي، ولهذا تبدت لكثيرين أنّها كانت تقدم خطابًا صحافيًّا مهنيًّا، رغم عدم وضوح موقفها السياسي في وقتٍ كانت فيه التجاذبات في أشدها.

في متوسطة جعار، بدأ المعلم الشاب ابتداءً من العام الدراسي 1956، أول خطواته في سلم الطموح الشخصي، واختار أن يكون معلمًا للغة العربية التي اكتسب الكثير من معارفها وفنونها على أيدي أساتذته سابقي الذكر، وبدأت أيضًا محاولاته الأولى في كتابة الشعر والمقال الصحفي، وكان بعضها ينشر في الصحف العدنية المتكاثرة في تلك الفترة.

عاش متنقلًا بين جعار وعدن سنوات طويلة، إلى أن استقر بعدن، وعمل في كلية بلقيس بعد تأسيسها في العام 1961، وإقامته الدائمة في عدن منحته فرصة كبيرة للانخراط في العمل الصحفي، الذي كان بوابته الكبيرة إليه شغفه الأدبي.

كانت عدن حينها، تعج بالكثير من الصحف الأهلية والحزبية والنقابية التي تعكس الحراك المتنوع في المستعمرة البريطانية، فوجد ضالته في نشر مقالاته في بعضها، والعمل في أخرى، ومنها صحيفة الأيام، التي أسسها في العام 1958 محمد علي باشراحيل، وعمل فيها محررًا متقدمًا. وكان لصدور الأيام في وقت متأخر نسبيًّا، أثره في خطابها المهني، إذ استفادت من تجارب الإصدار والنشر الصحفي، ولهذا تبدت لكثيرين أنها كانت تقدم خطابًا صحافيًّا مهنيًّا رغم عدم وضوح موقفها السياسي في وقتٍ كانت فيه التجاذبات في أشدّها بين أطراف ثلاثة؛ هي التيار العدني الذي يبحث عن استقلال ذاتي للمدينة بمعزل عن محيطها الجنوبي واليمني، وتيار الرابطة الذي يعمل داخل مشروع الذات الجنوبية المنفصلة عن محيطها اليمني، وتيار الجبهة الوطنية المتحدة الذي أخذ على عاتقه التصدي للنزعتين، وعبّر عن انتمائه لليمن الكبير بمواقفه المنددة بالسياسة الاستعمارية التي تحظر مشاركة غير العدنيين في انتخابات المجلس التشريعي، التي حظيت بدعم صريح من الجمعية العدنية، وموارب من حزب الرابطة. 

وترد في بعض الكتابات عنه، أنه عمل في صحيفة الذكرى، التي أسّسها في أواخر الأربعينيات أستاذه في مدرسة بازرعة، علي محمد باحميش، غير أن إغلاقها المبكر في العام 1950، يجعل من أمر اشتغاله بها في وقت متأخر مثار شك.

 السماء تمطر نصرًا

بعد الاستقلال بخمسين يومًا فقط، صدر أول أعداد صحيفة 14 أكتوبر في 19 يناير 1968، بصفتها صحيفة رسمية ناطقة باسم الدولة الوليدة، وقد اختير يوم التأسيس ليكون بذات تاريخ احتلال القوات البريطانية لعدن في 19 يناير 1839، في رسالة قوية ورمزية كبيرة، ليكون 14 أكتوبر رمزًا للثورة التي أخرجت المستعمر، وتصدر الجريدة في ذكرى احتلاله.

وكان القرشي من أوائل المحررين فيها، وبقي محسوبًا على قوتها الوظيفية في القسم الثقافي حتى مماته تقريبًا بعد أن عمل فيها ثلاثين عامًا متصلة، ابتداء من مقرها القديم في كريتر، في حي البنوك، مكتب الضرائب، وبالقرب من شقته بشرفتها التي صارت أحد عناوين سيرته مع المكان.

في العام 1969، أصدر ديوانه الأول الذي حمل عنوان (السماء تمطر نصرًا)، وواضح من عنوانه أنه كان استجابةً للحالة التي أفرزتها مرحلة الثورة التي قادت إلى الاستقلال. والديوان خليطٌ من القصائد العمودية والوزنية المحكومة بموضوعاتها الثورية والتبشيرية، التي حكمت نزعة الكتابة في ذلك الوقت، تمامًا مثل هذا النص الذي صار أنشودة ثورية أدّاها الفنان الراحل أبوبكر سكاريب:

غضبًا ثرنا ونحن الغضبُ

وانتشرنا لهبًا يذكيه منا اللهبُ

فوهة البركان سالت حممًا

وانتصرنا هُزِمَ المغتصبُ

يا لهول الموت إذ نسكبه

أذهل الدهر فخارَ العجب

__________________

(*) أتذكر أنه جاء إلى صنعاء للمشاركة في أعمال المؤتمر الذي انعقد في قاعة مركز الدراسات والبحوث، وحضر معه محاسب الاتحاد التاريخي بعدن، الراحل (خالد كوَر)، وكنت وقتها محاسب المؤتمر العام، فكنّا نجلس طويلًا ونتحدث في مواضيع شتى، ومنها استذكاراته لمحطات الطفولة وعدن، وعلق منها القليل، الذي تسرب إلى هذا المقال.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English