يتخذ الكاتب أنور عبدالرسول عبدالجبار، من منطقة "القبيطة" -وهي إحدى مديريات محافظة لحج (جنوب اليمن)- موطنًا خصبًا لموضوعات كتابه الذي حمل عنوان: (القبيطة.. أعلام ومعالم وذكريات)، مستخدمًا لغةً سهلة وقريبة من القارئ في كل صفحات الكتاب(*).
هذا الإصدار يندرج ضمن تجنيس كتابة الذات (كتابة السيرة) التي تشهد حضورًا ملحوظًا في إصدارات الآونة الأخيرة عن عديد من الكتّاب اليمنيين، لم يقتصر اعتماد الكاتب على لهجة المنطقة المُعاينة وحسب، بل تعداها لتصير استخلاصًا هوياتيًّا اعتمده الكاتب بقالب أدبيّ سلس وهو يوثق تفاصيل الحياة اليومية في المنطقة بكل ما تحتويه من ثراءٍ وتعددٍ، أنتجته عبر فترات زمنية متعاقبة، في إصدارٍ مكون من أحد عشر فصلًا، وزّعها المؤلف على مئتين وثلاثين صفحةً من القطع المتوسط، وبإصدار خاص.
يتوقع قارئ الكتاب ومن نظرته الأولى لعتبة العنوان، بأن معظم صفحاته ستستقرئ وتتَتَبّع أعلامًا وشخصيات وأماكن في منطقة القبيطة، التي جعل منها المؤلف حقلًا يحرثه قلمه، ولكنّ ذلك الظن يتبدّد تمامًا وهو يتماهى مع لغة الكاتب السلِسة المشتبكة مع لغة السيرة الذاتية (كتابة الذات)، ومنها سيكتشف عوالم متعددة وهو يستعرض من خلال تلك الصفحات أكثر التفاصيل دقةً عن الحياة اليومية للمنطقة بعاداتها وتقاليدها الثقافية والاجتماعية، مستشهدًا بمعالم تاريخية لم يزل بعضها قائمًا، وما يمارسه السكان في كل مناسبة، لا سيما ما يعرف بيوم "الجَمْع"، وهو اليوم الذي يجتمع فيه غالبية أهالي المنطقة بالقرب من آثار ومعالم ورموز الطرق الصوفيّة في المنطقة.
لم تقتصر مقاربة المؤلف للبُنى الثقافية والعادات الاجتماعية والتعريف بالمعالم وحسب، بل تجاوزها للتوثيق من خلال الصور الفوتوغرافية التي تلتحم بالطبيعة وتشير إليها، إلى جانب صور للأشخاص والمعالم والأسواق الأسبوعية والمواسم الزراعية، بالإضافة إلى المعالم التاريخية وأعلام وشخصيات المنطقة، جامعًا بواسطة كتابه السيروي عادات وسلوكيات شفهيّة في غالبيتها هي لدى أبناء المنطقة، عبر فترات زمنية تتجاوز الخمسين عامًا.
لم يجد المؤلف أفضل من فترة سنوات السبعينيات من القرن المنقضِي للمعاينة والتقصّي، فهي من وجهة نظره الفترة الزمنية الأجدر بالتناول عن غيرها من الفترات؛ لأنها ارتبطت بإنجازات كثيرة ومتنوعة أوردها في بعض صفحات الكتاب، مثل ازدهار العمل التعاوني في المنطقة على وجه الخصوص، المتزامن مع نهوض شمل اليمن بكاملها، موثقًا معظم نماذج الازدهار في تلك الفترة، لا سيما المدرسة الأولى التي أنشِئت في قريته، والبدء بشقّ أول طريق للسيارات في أكثر المناطق وعورة وقسوة أنتجتها الطبيعة في منطقة جبلية، غير أنّ إرادة المواطنين وتكاتفهم وامتلاءهم بروح التعاون، أنجزت عملًا جبّارًا لم تزل تتذكره الأجيال المتعاقبة.
خصصّ الكاتب ثلاثة فصول من كتابه لهذه المعاينة المندغمة بسيرته، وجاء الأخير لعرض تجارب حياته الخاصة في الفترة الزمنية نفسها، بادِئًا بتناول مرحلة إكمال دراسته والتحاقه بالتجنيد (الإلزامي)، منتقلًا إلى حياته مع الوظيفة والزواج، برؤية عكست صور الحياة التي عاشها جيل تلك المرحلة مطلع التسعينيات، لتكون فترة الوحدة لحظة فاصلة لمرحلة جديدة. وفي هذه الاسترجاعات، تظهر الكثير من الأحداث التي مرّت بها اليمن خلال تلك الفترة، مثل زلزال ذمار 1982، وبناء سد مارب الجديد في العام 1986، وغيرها من الأحداث.
يبدأ كتاب (القبيطة.. أعلام ومعالم وذكريات) بفصل أول، عنونه الكاتب بـ(شخصيات مضيئة في حياتي)، وفيها يتناول تأثيرات أمه الباكرة عليه، إلى جانب تأثيرات جدته وأجداده، الذين -مجتمعِين- صقلوا شخصيته. أما الفصل الثاني فكان استعاديًّا لذكريات الطفولة البعيدة عن رمضان والعيد الصغير، وكبش العيد الكبير ونكهته التي لم تعد كما كانت في أيام الطفولة. الفصل الثالث خصصه الكاتب لمواسم الخير (الحصاد) في تسع محطات مختلفة. الفصل الرابع والذي أسماه حنين الروح، جاء بتفصيلات كثيرة، حملت تفريعين جديدين في العنونة (شجن وذكريات). يفرد الفصل الخامس لمعاناة المرأة في القبيطة ومكابداتها اليومية الشاقة، ابتداء من جلب الماء، وانتهاء بالاعتناء بالأرض والأولاد. في الفصل السادس، الذي أسماه فيض المشاعر استرجاعات مختلفة عمّا لصق بذهن الطفل الصغير من ذكريات الطفولة، ويحاول الإمساك بها، وهو في سنّ متقدمة. بقية الفصول تسير تقريبًا بذات المنحى.
(*) الطبعة الأولى 2022، مطبعة الشرق الأوسط – صنعاء.